الحرب العالمية على الارهاب تحول انتباه العالم عن الأسباب الجوهرية لعدم الاستقرار في بلدان كثيرة، بحسب تقرير "'حالة العالم 2005 الصادر حديثاً عن معهد "'وورلد واتش'". فالأعمال الارهابية وردات الفعل الخطيرة التي تثيرها تدل على وجود مصادر خفية لعدم استقرار عالمي، بما في ذلك تفاعل خطر بين الفقر والمرض والتدهور البيئي والتنافس على النفط والموارد الأخرى. هنا تحليل لأبرز ما ورد في هذا التقرير. تنشر في العالم سنوياً عشرات التقارير البيئية والتنموية المتخصصة، التي تقدم عرضاً تقويمياً لحالة البيئة العامة أو تحليلاً لبعض القطاعات الرئيسية في علاقة البيئة مع التنمية. وتمثل هذه التقارير مراجع مهم للبحث والدراسات في مجال البيئة، كما تقدم معلومات مهمة لصناع القرار الذين يعتمدون على المعلومات، لا على المزاج، في اتخاذ القرارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية. ومن بين هذه التقارير، يبقى التقرير السنوي "'حالة العالم'" State of the World من أهم المراجع التي تقدم رؤية شمولية للمتغيرات الدولية في كل القطاعات من وجهة نظر بيئية. ويشارك في إعداده عشرات الباحثين المرموقين بالتعاون مع معهد "'وورلد واتش'" الذي ينشر التقرير سنوياً منذ العام 1984. وكالعادة، كان تقرير 2005 متميزاً في مضمونه وشموليته، وفي اختياره للمحاور الرئيسة التي غطت كل قطاعات النشاط الإنساني. وبما أن مصطلحي "'الإرهاب'" و''الأمن'" كانا سائدين في الخطاب السياسي والاقتصادي الدولي في بداية القرن الحادي والعشرين، ومع طغيان التعريف الأميركي اليميني لهما وإعطائهما الطابع العسكري المرتبط بمنطقة الشرق الأوسط، حاول التقرير تقديم مقاربة جديدة لمفهوم الأمن تتضمن عناصر شمولية تغطي محاور السياسة والاقتصاد والبيئة والوضع الاجتماعي. وجاء عنوان التقرير "'إعادة تعريف الأمن العالمي إشارة واضحة إلى فلسفة جديدة تنتشر في العالم، بخاصة ضمن الحركات ذات الطابع الاجتماعي البيئي، لتقديم تعريفات متجددة لمصطلحات السياسة الدولية وإعطائها طابعاً أكثر إنسانية وربطها مع أولويات التنمية المستدامة في العالم. ما هو محور الشر الحقيقي؟ تقرير حالة العالم يتحدى التعريف الأميركي لمحور الشر، اذ يؤكد أن "'محور الشر هو في حقيقة الأمر محور التحديات التنموية، وأهمها الفقر والمرض والتدهور البيئي'". وينبّه الى أن الحرب العالمية على الإرهاب تحول انتباه العالم عن الأسباب الجوهرية لعدم الاستقرار. فالأعمال الإرهابية وردات الفعل الخطيرة التي تثيرها تدل على وجود مصادر خفية لعدم استقرار عالمي، بما في ذلك تفاعل خطر بين الفقر والأمراض والتدهور البيئي وتزايد التنافس على النفط والموارد الأخرى. ويضيف التقرير أن هذه "'المشاكل التي لا تحمل جوازات سفر''، والتي يزيدها تفاقماً انتشار الأسلحة الفتاكة، تخلق أوضاعاً يزدهر فيها عدم الاستقرار السياسي والحروب والتطرف. وهي قد تدفع العالم إلى دوامة انحدارية خطرة، حيث يصبح النسيج الأساسي للدول موضع شك وتتعمق الأخطاء السياسية وينمو التطرف. ويتطلب التصدي لهذه التحديات استراتيجية تشدد على برامج تركز على الوقاية بدلاً من القوة العسكرية. ويقول كريستوفر فلافين رئيس معهد "'وورلد واتش'" : "'إذا لم يتم إدراك هذه التهديدات ومواجهتها، فان العالم يجازف في أن يصبح غافلاً عن مشاكل يدير لها عيناً عمياء بفعل قوى عدم الاستقرار الجديدة، تماماً كما فوجئت الولاياتالمتحدة بالهجمات الإرهابية في أيلول سبتمبر 2001. مفهوم الأمن يحاول التقرير تطوير مقاربة جديدة لمفهوم الأمن العالمي، تنطلق من مرتكزات التنمية الإنسانية وحماية الموارد بدلاً من الاضطراب السياسي والعسكري. ويقتنع بأن الإرهاب ليس إلا أحد الأعراض لحالة من الاضطراب الاقتصادي والبيئي والاجتماعي التي تجتاح العالم، ومنها تزايد الفقر والتحولات العميقة في بنى الاقتصاد والبطالة والجرائم الدولية والتحركات السكانية والكوارث الطبيعية وتدهور الأنظمة البيئية وانتشار الأمراض المعدية والتنافس على الأرض والموارد خصوصاً النفط والمياه والغذاء. ويؤكد التقرير أن هذه المشاكل لا يمكن حلها بزيادة الإنفاق العسكري ونشر القوات، بل من خلال سياسات متكاملة لمعالجة أصول المشاكل. وعلى عكس الاضطراب الأمني في فترة الحرب الباردة، والذي كان سببه الصراع الأيديولوجي بين قوتين عظميين، فإن جوهر الاضطراب في الأمن العالمي حالياً معقد جداً ويستند إلى التباينات الاقتصادية والاجتماعية التي ضاعفت من أهميتها تحولات العولمة وانتشار الظلم وعدم المساواة وسيطرة الأقلية على مقدرات الأغلبية، إضافة إلى تآكل الشرعية السياسية وضعف القطاع العام وانتشار مشاكل الفقر والبطالة وتدهور البيئة. ويتوقع التقرير أن تؤدي السياسات التي تنشد الأمن من خلال التدخل العسكري، من دون مواجهة الأسباب الجوهرية للاضطراب، إلى مزيد من التدهور في العلاقات الدولية والعنف والتخلي عن العهود والمواثيق الدولية التي تنظم علاقات الدول. الأسلحة الصغيرة وأسلحة الدمار الشامل يقدم التقرير صورة مثيرة للإحباط عن الهدر الهائل في الموارد العالمية على التسلح وأدوات القتل بدلاً من أدوات التنمية والرخاء، اذ ينفق نحو تريليون ألف بليون دولار كل سنة على القوات المسلحة في العالم، خمسه تنفقه البلدان النامية. وفي المقابل، يقدر محللون أن تمويلات إضافية سنوية مقدارها 50 بليون دولار يمكن أن تحقق الأهداف الانمائية للألفية. وهذه المفارقة الهائلة توضح مدى الخطيئة الفادحة التي تقود السياسات الدولية، وانعدام المسؤولية الأخلاقية لدى قادة الدول خصوصاً القوى الاقتصادية العظمى التي تدفع العالم تجاه المزيد من التسلح، وكذلك قادة الدول النامية الذين ينفقون موارد بلادهم في حماية الأنظمة والحشد العسكري على حساب التنمية وتحسين حال المواطنين والخروج من دوامة الفقر والبطالة والجوع والمرض والتدهور البيئي. ويركز التقرير على الدور الخطير الذي تلعبه الأسلحة الصغيرة في انتشار العنف والاضطراب في الدول النامية، خصوصاً في افريقيا وأميركا اللاتينية، حيث تقدر المخزونات العالمية الحالية من الأسلحة الصغيرة بنحو 639 مليون قطعة، ويتم انتاج ثمانية ملايين قطعة اضافية سنوياً. أما طريقة استخدام هذه الأسلحة فتظهر من خلال إحصاءات مخيفة تشير إلى مقتل ما يقدر ب 300.000 شخص سنوياً بأسلحة صغيرة تستعمل أثناء نزاع مسلح، كما يموت 200.000 شخص آخر نتيجة أعمال عنف تستخدم فيها المسدسات أو البنادق. وفي مجال الأسلحة النووية، يقدم التقرير صورة قاتمة لمخزون من الدمار يكفي لإبادة الحياة على هذا الكوكب مرات عدة، حيث تحتفظ ثماني دول حول العالم الولاياتالمتحدة، روسيا، بريطانيا، فرنسا، الهند، باكستان، إسرائيل، وجنوب افريقيا بأكثر من 82.000 سلاح نووي. وتمتلك ستة بلدان مخزونات معلنة من الأسلحة الكيماوية، وتسيطر الولاياتالمتحدةوروسيا على أكثر من 98 في المئة من اجمالي هذه المخزونات. الصراع على النفط والموارد ركز التقرير الحالي بشكل مكثف على قضية النفط ومصادر الطاقة، داعياً إلى التحول تدريجياً إلى مصادر الطاقة المتجددة وتقليل الاعتماد على النفط لأسباب بيئية وأخرى متعلقة بالسياسات الدولية وخطورة الاعتماد الاستراتيجي على نفط الشرق الأوسط. وأشار الى أن النفط يشكل نحو 37 في المئة من إنتاج الطاقة العالمي، مما يجعله أكبر مصدر للطاقة في العالم. ويتم العثور عليه بكميات تتناقص باستمرار وفي مناطق باتت أكثر بعداً. وقد استقر الإنتاج أو تراجع في 33 بلداً من أصل 48 هي الأكثر انتاجاً، بما في ذلك 6 بلدان من أصل 11 هي الأعضاء في منظمة الدول المصدرة للنفط "'اوبك'". وبالإضافة إلى ذلك، فإن احراق النفط مسؤول عن 42 في المئة من جميع انبعاثات ثاني اوكسيد الكربون، غاز الدفيئة الرئيسي الذي يتسبب به النشاط البشري. وفي التقرير أن نمو ظاهرة "'ثقافة استهلاك الطاقة'" أصبح سبباً رئيساً في الصراع العالمي على الموارد، خصوصاً النفط الذي هو المصدر الاستراتيجي الأهم بين كل الموارد الطبيعية في العالم. ويؤكد التقرير أن مشكلة الاعتماد على النفط لا تتعلق فقط بالدول الصناعية غير النفطية التي تحتاج إلى استيراد كميات هائلة لأغراض النمو الاقتصادي، بل أيضاً بدول العالم الثالث والدول ذات النمو الاقتصادي السريع التي تحتاج إلى شراء كميات كبيرة من النفط بأسعار متأرجحة تميل إلى الزيادة في السوق العالمية. كما أن المشكلة موجودة أيضاً حتى في الدول المصدرة للنفط، والتي اعتمدت في اقتصادها بشكل شبه كامل على عائدات تصديره بدلاً من توسعة القاعدة الاقتصادية لنشاطاتها، مما يجعلها أيضاً رهينة لنظام اقتصاد النفط العالمي. وتقول إحصائيات التقرير ان كل الدول الإسلامية والعربية المصدرة للنفط، والتي يبلغ عدد سكانها 260 مليون نسمة، تصدر كميات من المواد غير النفطية أقل من فنلندا وحدها التي يبلغ عدد سكانها خمسة ملايين. وفي المحصلة، يستنتج التقرير أن استغلال الموارد أدى دوراً في نحو ربع الحروب والنزاعات المسلحة التي حدثت في السنوات الأخيرة وقد بلغ عددها 05 تقريباً. وفي تسعينات القرن الماضي، أدت نزاعات متعلقة بالموارد إلى موت خمسة ملايين شخص ونزوح ما بين 17 و21 مليوناً آخرين. شح المياه: بؤر محتملة للصراعات تبقى إدارة الموارد المائية وتوفير المياه لحاجات التنمية والإنسان والأنظمة البيئية التحدي الأهم أمام البشرية في القرن الحالي. وبالنسبة الى العالم العربي، فإن المياه ستكون العنصر الحاسم في نجاح أو فشل عمليات التنمية، باعتباره المنطقة الأكثر فقراً بالمياه بين كل المناطق. وفي حين تعتبر الحصة الدنيا الكافية للفرد من الأراضي الزراعية 0.07 هكتار، ومن المياه العذبة المتجددة 1000 متر مكعب، فقد هبطت في أكثر من 30 بلداً، معظمها في افريقيا والشرق الأوسط، إلى ما دون أكثر المستويات تحفظاً. وكمثال على ذلك، تصل كميات المياه العذبة المتجددة المتاحة للاستخدام إلى 7 أمتار مكعبة فقط للفرد في الكويت و78 متراً مكعباً في السعودية و173 متراً مكعباً في ليبيا و174 متراً مكعباً في الأردن و186 متراً مكعباً في اليمن، وهي تمثل أكثر الدول شحاً بالمياه في العالم. وتمتد الأزمة في كل العالم، حيث يواجه 434 مليون شخص شحاً في المياه. ويقدر أن ما بين 2.6 و3.1 مليار شخص سوف يعيشون بحلول سنة 2025 في أوضاع تشهد ضغطاً على المياه أو شحاً فيها. وهذه "'وصفة جاهزة'" للصراعات والمشاكل الداخلية للحصول على الموارد المائية. ويركز التقرير أيضاً على العلاقة بين المياه والأمن، من خلال دراسة الأوضاع السياسية والأمنية بين الدول التي تشترك في أحواض المياه الطبيعية من أنهار وبحيرات، وتعاني من مشاكل في تقاسم الموارد المائية بينها. وتبدو المشكلة كبيرة حقاً، لأن نحو 40 في المئة من سكان العالم يعيشون في أحواض أنهار يتقاسمها بلدان أو أكثر. ومنذ العام 1280، وقع ما يزيد على 400 معاهدة مائية، ابرم أكثر من نصفها خلال السنوات الخمسين المنصرمة. ومع أن حالات التعاون بين دول تشترك في حدود مائية فاقت عدد النزاعات بأكثر من اثنين الى واحد بين عامي 1945 و1999، فإن الكثير من الجهد يبقى مطلوباً لحماية العالم من حروب وصراعات على المياه. ويبدو العالم العربي مرة أخرى في قلب هذه الصراعات، حيث توجد فيه أنهار عدة تشكل بؤراً محتملة للصراع الإقليمي، ومنها العاصي والأردن ودجلة والفرات وشط العرب والنيل. أخطار على الأمن الغذائي مع تزايد السكان ونقص المياه واختلالات المناخ المتجهة نحو الجفاف، تبدو مشكلة الغذاء والجوع مرشحة للاستمرار في السنوات المقبلة. فقد زاد عدد الجياع في البلدان النامية بمقدار 18 مليوناً في النصف الثاني من تسعينات القرن الماضي فبلغ نحو 800 مليون حالياً. ويعاني نحو بليون شخص في أنحاء العالم من الجوع أو من نواقص مزمنة في الغذاء. يعيش نحو 500 مليون شخص في مناطق جافة فقيرة بالمياه والغذاء، ونحو 400 مليون على تربة غير قابلة للزراعة، مما يجعل القدرة الإنتاجية للأرض في حال تدهور دائم. ومنذ بداية القرن الماضي، فقد 75 في المئة من التنوع الوراثي للمحاصيل الزراعية. هذا التجانس الكاسح يعوق قدرة المزارعين في كل مكان على مكافحة الآفات والأمراض وتغيرات المناخ. والانتشار المذهل لمرض العوز المناعي المكتسب الايدز أحدث تغيرات سريعة الأثر على القدرة الزراعية في دول فقيرة، خصوصاً في افريقيا. اذ أفادت بعض الدراسات أن وفاة 7 ملايين شخص في سن العمل في افريقيا بالايدز أدى إلى فقدان نسبة كبيرة من القوى العاملة في الزراعة. كما أن النساء، اللواتي يمثلن 60 في المئة من الإصابات في افريقيا، يمثلن أيضاً 80 في المئة من القوى العاملة في الزراعة، مما ساهم في تدمير حقيقي لمقومات الزراعة في هذه الدول. ومع أن كمية المحاصيل والأراضي الزراعية ارتفعت في السنوات الماضية، فإن مشكلة الجوع تزايدت نتيجة ضعف القدرة الشرائية للمستهلكين في الدول النامية، وخاصة المزارعين أنفسهم وهم الأكثر فقراً. كما أن الإعانات المالية التي تقدمها الدول الغنية لقطاع الزراعة ساهمت في إضعاف القدرة التنافسية للدول النامية في السوق العالمية. ويشرح التقرير بالتفصيل الروابط بين الغذاء والأمن من عدة اتجاهات. فانتشار أمراض الحيوانات التي يعتمد عليها الانتاج الغذائي، خصوصاً الأبقار والأغنام والدجاج، يمكن أن يهدد بشكل كبير الأمن الغذائي في دول عدة، ولا تسلم منه الدول الصناعية في أوروبا والولاياتالمتحدة. كما أن زيادة نسبة إنتاج الأغذية المعدلة وراثياً والصناعات الغذائية الكبرى يساهم في تقليص قدرة المنتجات والمزارع التقليدية في البلدان النامية ويساهم في وضع الأمن الغذائي في يد الشركات الكبرى. ويستعين التقرير بدراسات من مؤسسة "'راند'" المتخصصة في قضايا الإرهاب ليدق ناقوس الخطر حول إمكان تعرض الصناعات الغذائية في الولاياتالمتحدة إلى هجمات إرهابية بيولوجية تنشر السموم في السلسلة الغذائية في المجتمعات الغربية وتثير الهلع والاضطراب السياسي. ويربط التقرير بشكل واضح بين تدهور الأمن الغذائي وظاهرة التغير المناخي، حيث يؤدي ارتفاع درجات الحرارة وانتشار الأعاصير والفيضانات وفترات الجفاف إلى تأثيرات عميقة في الإنتاجية الزراعية، وفي مدى تأقلم النباتات الأصيلة مع الظروف المناخية الجديدة. ويؤكد أن معظم الدراسات أشارت إلى أن الدول النامية والفقيرة هي التي ستدفع ثمن التغير المناخي، لأنها الأكثر عرضة لتدهور أنظمة الإنتاج الزراعي والأقل قدرة من ناحية فنية وتكنولوجية على مقاومة آثار التغير المناخي. مؤشرات سكانية تنذر باضطرابات كعادة التقارير الصادرة عن مؤسسات بيئية في الدول الصناعية، يتم وضع مشكلة النمو السكاني في صدارة الاهتمامات البيئية، وربط ذلك مع الاستهلاك المفرط للموارد في الجنوب أي دول العالم النامي، والسقوط في مستنقع الحروب الأهلية والصراعات العرقية والدينية، وتزايد الفقر ومعدلات الهجرة إلى الشمال أي دول العالم المتقدم صناعياً. ويذكر أن ثلث بلدان العالم تقريباً، بما في ذلك بلدان كثيرة جنوب الصحراء الافريقية وفي الشرق الأوسط وجنوب ووسط آسيا، تسجل معدلات خصوبة تزيد على أربعة أطفال لكل امرأة. وفي إحصائية مثيرة ذات دلالات سياسية واقتصادية هامة، فان 23 بلداً من أصل 36 عانت من نشوب نزاعات أهلية حديثة خلال تسعينات القرن الماضي أظهرت إما ارتفاعاً في نسبة الشباب أو ارتفاعاً في نسبة وفيات الأطفال أو معدلات النمو المديني أو نواقص في توافر الأراضي الزراعية أو المياه العذبة بالنسبة للفرد. وتم من خلال هذه الإحصائية المقارنة ايجاد رابط مباشر بين حالات تدهور الاقتصاد والبيئة وتزايد السكان من جهة، وتزايد نسبة الصراعات الأهلية المسلحة من جهة أخرى، في الدول التي يمكن أن يطلق عليها لقب الدول الفاشلة failed states التي تتآكل وتضعف في كل القطاعات حتى تقع في دوامة التفكك، مثل رواندا وسيراليون وغيرهما. في العقد المنصرم، قفزت معدلات البطالة لدى الشبان من 11.7 في المئة إلى رقم قياسي بلغ 14.4 في المئة عام 2003، أي أكثر من ضعفي اجمالي معدل البطالة العالمي. وتتركز هذه المشاكل في مئة دولة تصل فيها نسبة الفئة العمرية من 15-29 سنة إلى أكثر من 40 في المئة من إجمالي عدد السكان. وكل هذه الدول معرضة لمشاكل أمنية وسياسية واقتصادية كبيرة في حال استمرار معدلات الولادة العالية ومتطلبات الشباب من وظائف وسكن وغيرها من فرص الحياة، ومنها كل الدول في العالم العربي بلا استثناء. استفحال الأمراض المعدية من أهم نتائج العولمة وتقارب المسافات بين الدول وسهولة انتقال الأشخاص والبضائع والمعدات، انتشار الأمراض المُعْدية في السنوات الأخيرة بشكل لم يسبق له مثيل. فقد قتلت هذه الأمراض عام 2002 نحو 14.9 مليون شخص حول العالم، مما يشكل أكثر من ربع جميع الوفيات، مقارنة بنسبة 0.3 في المئة بسبب الحروب. ويساور خبراء الأمراض حالياً قلق عميق من احتمال تفشي وباء انفلونزا جديد قد يودي بحياة ملايين الأشخاص. وكان انتشار الالتهاب الرئوي الحاد سارس في أواخر 2002 من الصين إلى كندا وكل العالم نذيراً مثيراً للهلع حول السرعة الكبيرة لانتقال الأمراض الخطيرة والقاتلة في عالمنا الحديث المترابط، حيث تسبب هذا المرض في وفاة 800 شخص في 29 دولة خلال ستة أشهر، قبل أن تؤدي حملة عالمية كبرى إلى ايقاف انتشاره، ولو إلى حين! وبرز من جديد، أو انتشر جغرافياً، 20 مرضاً كانت معروفة سابقاً، منها السل والملاريا. وفي العقود الثلاثة المنصرمة تم التعرف على 30 مرضاً على الأقل لم يكن معروفاً من قبل أنها معدية. وتساهم هذه الأمراض في موت صامت لملايين الناس سنوياً، لا يحظى بالمشاعر القوية التي ترافق الأعمال العسكرية والإرهابية وباهتمام وسائل الإعلام الدولية. والموت من جراء الأمراض القابلة للعلاج لو توفرت الموارد المالية والتقنية يبقى أهم أسباب الوفاة في العالم، خاصة في الدول النامية. الحل يكمن في توفر الموارد المالية. فلو ازداد الإنفاق على الصحة في الدول ال60 الأكثر فقراً في العالم من 13 دولاراً للفرد حالياً إلى 38 دولاراً للفرد، لأمكن إنقاذ 8 ملايين شخص من الموت سنوياً. وهذا يتطلب دعماً مالياً بقيمة 83 بليون دولار، أي نسبة ضئيلة جداً مما أنفقته الولاياتالمتحدة لإسقاط النظام العراقي واحتلال العراق عام 2003 وفي معلومة إحصائية أخرى مثيرة للإحباط، يموت سنوياً مليونا شخص في الدول الفقيرة نتيجة ثمانية أمراض يمكن الوقاية منها بالتطعيم. ولا يزال مرض الايدز هو الأشد فتكاً بالبشر في عصرنا الراهن. ويشير التقرير الى أنه في العام 2003 مات نحو ثلاثة ملايين شخص من أمراض متعلقة بفيروس العوز المناعي المكتسب، مما رفع إجمالي عدد وفيات الايدز إلى أكثر من 20 مليوناً منذ تم التعرف على الحالات الأولى عام 1981 وبسبب هذا الوباء المستفحل، تجاوزت معدلات الوفيات من الايدز وحده ما حققته دول افريقية كثيرة من انخفاض في معدلات الوفيات من الأمراض والأسباب الأخرى. وتبدو الصورة في أسوأ حالاتها في تسعة بلدان جنوب الصحراء الافريقية تفقد كل خمس سنوات أكثر من 10 في المئة من سكانها البالغين الذين هم في سن العمل، بسبب تزايد انتشار فيروس الايدز، في غياب وجود أية مؤشرات لتحقيق النجاح في مواجهة هذه الكارثة. تأثير الحرب على الإرهاب يخصص التقرير جزءاً من محتواه لمناقشة مفهوم "'الحرب على الإرهاب'". ويؤكد أن مواجهة الإرهاب من خلال زيادة الإنفاق العسكري والأمني والتدخل في الشؤون الداخلية للدول لا يمكن أن يحقق مبتغاه ما دام لا يوجد استثمار حقيقي في التنمية البشرية. ويشير الى أن بعض الإجراءات التي تم اتخاذها تحت شعار "'مكافحة الإرهاب'" تسببت في المزيد من التوتر والاضطراب والعنف، وإضعاف التعاون الدولي وأنظمة حقوق الإنسان والمعايير الدولية، والتركيز على قضايا الأمن والعسكرة أكثر من التنمية. وعلى سبيل المثال، حولت الولاياتالمتحدة مبلغ 3.5 مليار دولار من المساعدات المخصصة للمياه والإصحاح في حملة إعادة إعمار العراق إلى الشؤون العسكرية والأمنية. وبسبب هذا المناخ من الاضطراب العسكري حول العالم، وصل معدل الإنفاق الدولي على الأسلحة الى تريليون دولار سنوياً، بينما يتطلب جهد مكافحة الفقر والبطالة أقل من ذلك بكثير. وتشير التقديرات الخاصة ببلوغ الأهداف الانمائية للألفية الى أن العالم بحاجة إلى انفاق نحو 37 مليار دولار سنوياً من أجل توفير المياه النظيفة والإصحاح، و24 مليار دولار للقضاء على مشكلة الجوع، و5 مليارات للقضاء على الأمية، و3 مليارات لتوفير التطعيم من الأمراض السارية، و10 مليارات في الحملة ضد الأيدز، و3 مليارات في الحملة ضد الملاريا لإنقاذ حياة الملايين في افريقيا وآسيا. وهذه المبالغ لا تعادل إلا جزءاً يسيراً من تكاليف العدوان على العراق التي تجاوزت 200 مليار دولار. وما يزيد الأمور سوءاً أن قيمة المساعدات من الدول الصناعية إلى الدول النامية تراجعت بشدة في العقد الماضي، من 73 مليار دولار عام 1992 إلى 57 ملياراً عام 2002. وإذ يقدم تقرير "'حالة العالم 2005،" صورة واضحة وبلا "'رتوش'" عن الوضع السيئ للتنمية، وطغيان مفهوم الأمن العسكري والسياسي على الأمن الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، يعطي في الوقت نفسه صورة شاملة ورسالة إنذار لصناع القرار في العالم، خاصة الدول الصناعية، للتنبيه إلى الأسباب الحقيقية للاضطراب وإلى "'محور الشر الحقيقي'" الذي يمثله مثلَّث الفقر والمرض والتدهور البيئي؟ ينشر في وقت واحد مع مجلة"البيئة والتنمية"عدد نيسان /أبريل 2005