سؤال يطرح نفسه: اذا كان الباحثون الماركسيون العرب قد استنكفوا دائماً - وفي شكل له كل مبرراته - عن الاحتفاء بأي واحد من اصحاب ومؤسسي الفكر القومي في القرن العشرين... لماذا تراهم ما إن يصلوا الى قسطنطين زريق حتى"يضعفوا"ويحتفلوا به رافعينه، في المستوى والوعي، عن أي واحد من أبناء جيله ومذهبه من المفكرين القوميين العرب؟ بالنسبة الى اصحاب الفكر الماركسي، كان"القومي العربي"الجدير بالثناء، هو ذاك الذي"انحرف"ذات يوم عن قوميته ليعلن انتماء، ولو غامضاً او تلفيقياً - في بعض الاحيان - الى نزعة من نزعات الفكر الماركسي، والمثال الأسطع على هذا هو بالطبع المفكر السوري الراحل ياسين الحافظ، هذا اذا غضضنا الطرف عن بعض المنظمين الحزبيين، ولا سيما في حركة القوميين العرب التي افرزت تنظيمات"ماركسية"عديدة، في عدد كبير من البلدان العربية، ولا سيما في فلسطين وفي لبنان. وهكذا مثلاً، لا مكان حقيقية لساطع الحصري أو زكي الأرسوزي او ميشال عفلق او من شابههم، لدى الباحثين الماركسيين، اللهم إلا حين تكون الكتابة نقدية. أما حين تصبح تقريظية واحتفائية، فليس ثمة سوى واحد: قسطنطين زريق. طبعاً لا نقول هذا، على سبيل الاحتجاج هنا فنحن ايضاً، وفي كل بساطة، نشاطر المعنيين رأيهم، في الآخرين، وأكثر من هذا في قسطنطين زريق. كل ما في الأمر اننا نطرح السؤال من موقع الدهشة... وربما من موقع الرغبة في إثارة الفضول. ولكن قبل هذا وذاك، من موقع الرغبة في الحديث عن مفكر قومي عربي، لعل ميزته الاساسية تكمن في انه لم يلطخ يديه، لا بالسلطة ولا بالمعارك، اذ يبدو انه كان يعرف، قبل عقود من اكتشاف الآخرين لهذا الامر إن أجمل ما في فكره هو ان يظل نظرياً... يبحث في حلقات النخبة على شكل امنيات لأنه، وبكل بساطة ايضاً، في كل مرة تحول الى ممارسة عملية، انتهى وسط بركة من الدماء، او وسط كم هائل من التبسيطات والمساوئ المرعبة. بيد ان هذا ليس موضوعنا الاساس هنا. موضوعنا هنا هو، بالطبع، قسطنطين زريق الذي، بعد كل شيء، عاش حياته وافكاره كلها باعتباره اكثر المفكرين العرب مدعاة للاحترام، وأكثرهم قدرة على احترام الغير وأفكاره... وضع زريق خلال حياته عدداً كبيراً من الكتب التي جمعت وصدرت كاملة لدى"مركز دراسات الوحدة العربية"، وكان من الواضح دائماً ان زريق لا يكتب ترفاً، ولا حتى تحريضاً، ولا حتى من أجل الوصول بافكاره الى فاعلية سلطوية معينة. ومع هذا تكشف كتابات أتت لاحقة على رحيله، انه، مثل غيره من المفكرين القوميين العرب، وقع تحت اغراء الحزبية وساهم في تأسيس روابط وأحزاب تدين له بالكثير وهو أمر يغنينا عن الخوض فيه هنا، ملف كبير ومميز نشرته مجلة"الطريق"الراحلة في احد آخر اعدادها، وأرخ فيه الباحث صقر ابو فخر لعلاقة زريق بتأسيس الاحزاب ذات النزعة القومية العربية. المهم هنا هو ان واحداً من أول كتب زريق"الوعي القومي"1939 كان فاتحة حقيقية لولادة الفكر القومي نظرياً. ولعل سر قسطنطين زريق يكمن هاهنا، ولنلاحظ في هذا المجال كيف ان الباحث د. ماهر الشريف يقول:"وقد اختلف زريق عن غيره من المفكرين القوميين ولا سيما ساطع الحصري وميشال عفلق، في انه يتأثر مثلهما بالفكر القومي الرومانسي الالماني هودر وفيخته بل تأثر، على الأغلب، كما تدل على ذلك مؤلفاته، بالدراسات التاريخية والحضارية الانكليزية والاميركية". فهل يمكن ان نتلمس هنا، ما يسمى عادة ب"بيت القصيد"؟ على الأرجح، اذ علينا ان نلاحظ ان الفكر القومي الألماني - وبخاصة كما"أسسه"هردر وفيخته - كان هو الاساس الذي قام عليه جزء كبير من الفكر النازي المنغلق والمتعصب والذي انتهى الى دموية مرعبة... أما الفكر القومي كما عبّر عنه في الأدبيات الأنغلوساكسونية، فإنه ولّد، فيما ولّد، أنواعاً من الليبرالية، وارتبط الى حد كبير بالديموقراطية، بخاصة وأن النزعة الليبرالية عانقت الديموقراطية، ولا سيما في أميركا، لتنتج غالباً تلك الراديكالية التي كمنت في خلفية نظريات الحركات الطلابية التي، حتى حين اكتشفت الماركسية وتبنتها، اتبعت طريق ماركسيي الانشقاق، من مدرسة فرانكفورت الى تراث غرامشي وصولاً الى"ماركسية"رجال دين الطبقة العاملة في أميركا اللاتينية. ومن يقرأ اليوم"الوعي القومي"ويتبعه بقراءة بعض امهات كتب قسطنطين زريق مثل"معنى النكبة"و"أي غد"؟ و"نحن والتاريخ"وبخاصة"نظرات في واقعنا وواقع الانسانية"يكتشف ان النزعة القومية التي دافع عنها قسطنطين زريق وسعى من أجلها، كانت بعيدة كل البعد عن كل النزعات القومية التي تقوم على عبادة الماضي ورفض الآخر، والحديث عن العالم تحت عناوين مثل"الصراع الحضاري"و"الثأر"و"العصر الذهبي"وما الى ذلك. منذ"الوعي القومي"حدد قسطنطين زريق اذاً، تلك الأسس الانفتاحية والمستقبلية التي طبعت توجهه القومي هو الذي كان همه الدائم وهاجسه الأكيد مستقبل الشعوب العربية، أكثر من ماضيها. ولعل قسطنطين زريق كان أوضح من كل دارسيه ومادحيه، وكل الذين حمّلوا فكره فوق - وأدنى - مما يحتمل، حين عبر، منذ"الوعي القومي"وحتى أيامه الأخيرة عن ان كل ما حركه فكرياً وحياتياً، وفي شكل دائم أتى نتيجة اقتناعين أساسيين توصل اليهما من دراساته ومن تأملاته في الاحداث والتطورات: - أولهما ان الشعوب العربية تتمتع بخصائص جغرافية وتاريخية وثقافية، وبموارد طبيعية وبشرية، وبمصالح مشتركة حاضراً ومستقبلاً مما يؤهلها لأن ترتبط في ما بينها برباط حي موحد يمكنها من التحرر والتقدم والرقي واحتلال مكانة فاعلة بين المجتمعات القومية الاخرى. - وثانيهما ان ضرورات البقاء والتميز في العصر الحاضر تفرض على جميع مجتمعات اليوم ان تنتظم في تكتلات واسعة النطاق. هكذا، اذاً، نجدنا بعيدين كل البعد عن كل الأدب الهتلري وما قبل الهتلري وكل ضروب الرسائل"الفختوية"الى"الأمة الألمانية"وكل ضروب"استعادة الماضي"التي طبعت مجمل النزعات القومية العربية التي حكمت أو لم تحكم في البلدان العربية، وكان لافتاً تبنّي العسكريين لها، في نزعة انقلابية - عرفنا دائماً ما أسفرت عنه من كوارث على الشعوب العربية - او تحالفها مع العسكريين الذين أحيوا فيها سلطويتها وعنفويتها من دون ان يبالوا باية أبعاد اجتماعية - انسانية قد تكون لها. ومن هنا لم يكن مدهشاً ان تصل النزعات القومية هذه الى الحكم - ودائماً من طريق انقلاب عسكري - في الوقت الذي عجزت عن الوصول اليه"قومية"قسطنطين زريق غير العسكرية وغير الانقلابية والتي لا علاقة لها بأية نزعة ما ضوية شعبوية بائسة. هل يبدو هذا الكلام المختصر أعلاه، وكأن الزمن قد تجاوزه؟ لسنا نعتقد ذلك. المهم هو انه يعطينا فرصة للحديث عن وجه مشرف من وجوه الفكر العربي هو وجه قسطنطين زريق 1909-2002 المولود في دمشق، ليرحل في بيروت بعدما عاش حياة فكرية وأكاديمية مثالية، ورصد من موقع قريب جداً من الاحداث مجريات الامور في وطن كبير أحبه وأحزنته احزانه، وآلمه ألا يعثر ابداً على طريقه نحو المستقبل، متلقياً الهزيمة تلو الاخرى، مصراً، في كل لحظة على انه انما ينتصر، معتبراً دائماً وصول عسكرييه الى السلطة انتصاراً، وافلاتهم - من دون الشعوب - من الهزائم، تأكيداً لصوابيتهم! ومن أبرز كتب قسطنطين زريق الى ما ذكرنا"القضية العربية"1953 و"معنى النكبة مجدداً"1967 و"ما العمل؟ حديث الى الاجيال العربية الطالعة"الذي كان، في العام 1998 آخر ما وضعه من كتب.