السيدة الوزيرة، لا يبالغ أحد عندما يقول بأنه ليس بالامكانات الاسرائيلية و اليهودية وحدهما كان بمقدور اسرائيل أن تزدهر وأن تشن حروباً وأن تحتل وأن تتوسع وتستعمر وتبني جداراً و تتحدى المجتمع الدولي وكل قرارات الأممالمتحدة. وقد سئل مثقفون اسرائيليون عقب التوقيع على اتفاق اوسلو 1993 عما اذا كانوا يفضلون احتلال الأراضي الفلسطينية على علاقة قوية بالولاياتالمتحدة الأميركية فأجابوا بأن علاقة بلادهم القوية بواشنطن لها الأولوية على الاحتلال و لكن أميركا التي تراجعت بشكل مخجل عن مواقفها من الاحتلال والاستيطان و القدس واللاجئين ابتداء من عهد الرئيس رونالد ريغان تعطي لاسرائيل رسائل بأن في امكانها أن تحتفظ بعلاقتها القوية مع واشنطن وأن تحتل وتستوطن وتهزأ بالأممالمتحدة وبالاتحاد الأوروبي وروسيا, وأن ترتكب بحق لشعب الفلسطيني أعمالا لا أنسانية يشين لها الجبين وتجد من قبلها الحماية المفتوحة ولذلك فان اسرائيل تعتبر ما تقوله الولاياتالمتحدة في غير صالحها غير ملزم لها ويساعدها على ذلك أن العرب يبدأون حواراتهم مع الأميركيين من حيث انتهوا بالأمس فقط ولا يذكرونهم بما تعهدوا به من قبل. وقد قال الأميركيون كلاماً كثيراً عقب عدوان اسرائيل عام 1967 بشأن القدس على وجه الخصوص ثم أوضحوا أكثر من مرة وعلى لسان أكثر من رئيس بأن الأراضي الفلسطينية بما فيها القدس محتلة و تحكمها اتفاقيات جنيف و ان اصروا على عدم عودة القدس الى وضعها السابق على الاحتلال الثاني وابقاءها مفتوحة و موحدة لانها مدينة لكل الديانات السماوية وقد ربط الأميركيون منذ صدور القرار 242 حل مشكلة القدس بالحل الشامل والعادل والدائم للصراع العربي - الاسرائيلي ولكنهم في حقيقة الأمر لم يعملوا شيئاً من أجل ذلك بل أسهموا بشكل مباشر وغير مباشر في دعم الاستيطان والاحتلال وتقوية الآلة العدوانية العسكرية الاسرائيلية. العدل والشمول والديمومة كلمات اميركية قيلت مراراً وتكراراً عقب عدوان يونيو وليست كلمات اخترعها العرب، يضاف الى ذلك أن الأميركيين كرروا القول بأنهم لا يقبلون اكتساب الأراضي بالقوة، وهذا الكلام في صلب قرار مجلس الأمن 242 الصادر عام 1967 وهم يدركون أن الاستيطان ومصادرة الأراضي الفلسطينية هما شكلان من أشكال ضم أراضي الفلسطينيين بالقوة ولكنهم لم يستنكروا ذلك ولا مرة واحدة بل استخدموا الفيتو وأضعفوا موقف الشرعية الدولية للمرة الاولى ازاء احتلال أجنبي. وفي خطاب شهير لوزير الخارجية الأسبق وليام روجرز خصص لقضية الشرق الأوسط وألقاه في 9 كانون الاول ديسمبر 1969 اوضح فيه بجلاء سياسة بلاده نحو الصراع العربي - الاسرائيلي و حمل توازناً كبيراً افتقدناه فيما بعد على لسان وزراء خلفوه. وبعد هذا الخطاب أحدث هنري كيسنجر الذي خلفه انقلاباً يهودياً على هذا الموقف وأرسى اسساً جديدة لعلاقة أميركية اسرائيلية ترى فيها أميركا مصالح اسرائيل وحدها بغض النظر عن عدم شرعيتها واضرارها أحيانا بالمصالح الأميركية في المنطقة ودائماً بمصالح الفلسطينيين والعرب. ابتداء من عهد كيسنجر بدأت السياسة الأميركية الانفرادية ازاء المنطقة التي لم تتوجع منها اوروبا و غيرها الا بعد احداث 11/9 وقبل كيسنجر كان يوجد تشاور رباعي في مجلس الأمن بين القوى الدولية الأربع، الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفياتي وبريطانيا وفرنسا، وفي خطاب روجرز سالف الذكر أكد على أن قدرة الولاياتالمتحدة على التغلب على معوقات السلام تتطلب سياسة أميركية متوازنة وأن سياسة بلاده تقوم على تشجيع العرب على قبول سلام دائم يرتكز على اتفاقية ملزمة و حث اسرائيل على الانسحاب من الأراضي المحتلة عندما يضمن مجلس الأمن سلامة اقليمها. وأوضح في خطابه التاريخي هذا أن قرار مجلس الأمن الرقم 242 يتضمن أربعة عناصر هي: السلام والامن والانسحاب والاراضي. وقصد بالأخيرة الحدود و أيد روجرز في خطابه هذا انشاء حدود سياسية دولية متفق عليها بين الاطراف موضحا في ذات الوقت بأن أي تغييرفي خطوط ما قبل حزيران يونيو 1967 لا يجب أن يعكس ثقل"الفتح"وأن ينحصر ذلك في تغييرات غير جوهرية يتطلبها الأمن المتبادل. وقال أيضاً أن الولاياتالمتحدة لا تدعم التوسع و تؤمن بأن القوات الاسرائيلية يجب أن تنسحب كما ينص على ذلك القرار 242، وفي هذا الخطاب أيضا عبر روجرز بصورة متوازنة عن اهتمام أمريكا بأمن اسرائيل وأمن الدول العربية معا وأكد أن بلاده مع سلام دائم يوفر الأمن للجميع. ان القدس تتعرض اليوم لأخطر تحد منذ احتلال جزئها الشرقي عام 1967، من قبل منظمة ريفافا لما يسمى بأمناء جبل الهيكل ومجموعة النواة الصلبة المتطرفة اللتان تخططان لهدم المسجد الأقصى في ذكرى تدمير الهيكل على يد الرومان قبل أكثر من 2000 عام الذي يصادف 10 نيسان ابريل. وهاتان المجموعتان المتعصبتان مدعومتين من قبل أميركيين يهودا ومسيحيين يمينيين يأتون الى القدس للمشاركة في هدم المسجد الأقصى وتحصلان على تمويل من عدة منظمات أميركية يهودية ومسيحية صهيونية لا تفرض عليها القيود الأمريكية التي تشدد الرقابة على الأموال التي يستفيد منها"الارهاب"لأنها من يهود ولاهداف يهودية واليهود من الارهاب براء. في 9 كانون الاول 1969 كان روجرز آخر من تحدث من المسؤولين الاميركيين بعقلانية نسبية عن القدس، اذ قال أنها تمس أعمق العواطف والينابيع التاريخية والدينية وأن بلاده على مدى عامين ونصف العام أعلنت أنها لا تقبل الأعمال الانفرادية من جانب أي طرف لتقرير وضع القدس النهائي وأنه الى جانب مصالح الطرفين الاسرائيلي والأردني في القدس فإنه لا بد من الأخذ في الحسبان مصالح الدول الأخرى في المنطقة والجماعة الدولية، ووضع روجرز مصالح مسلمي المدينة ومسيحييها مع مصالح اليهود على قدم المساواة وهو يقصد بذلك القدس ككل الشرقية و الغربية لأن الأخيرة لاتزال منطقة محتلة في نظر القانون الدولي وغير معترف بأن وجود اسرائيل شرعي فيها. وفي هذا الخطاب تحدث روجرز عن اللاجئين الفلسطينيين قائلا ما نقوله الآن ومن قبل وما داست عليه الادارات الأميركية المتعاقبة. يقول روجرز أن السلام الدائم لن يتحقق بدون حل مشكلة أولئك الفلسطينيين الذين جعلتهم حروب 1948 و 1967 مشردين. ان أخذ البعد الانساني في الصراع العربي - الاسرائيلي ظل موضع اهتمام خاص من جانب الولاياتالمتحدة لأكثر من 20 عاماً، وان الولاياتالمتحدة تؤمن بأن الحل العادل لهذه المشكلة يجب أن يأخذ بالحسبان رغبات وتطلعات اللاجئين والقلق المشروع للحكومات في المنطقة. وتنبأ روجرز في خطابه بأن مشكلة اللاجئين ستتعاظم اذا لم يحل مستقبلهم, لأن هناك وعياً جديداً لدى الشباب الفلسطيني تتطلب توجيهاً بعيداً عن المرارة والاحباط ونحو الأمل والعدل. بعد انقلاب كيسنجر لم يعد أحد في الولاياتالمتحدة يقول أن الأراضي الفلسطينية محتلة أو يطالب اسرائيل بانهاء احتلالها أو يؤكد على حق غير اليهود ومنهم مسيحيون في القدس، الكل يجبن أمام الطغيان الأميركي - الاسرائيلي المتحالف ولا يستطيع أن يقول لاسرائيل أن عليها أن تنسحب كما قال لغيرها ولا يستطيع أن يصدر قراراً من مجلس الأمن يلزم اسرائيل بالانسحاب كما عمل قبل أشهر قليلة. ان الخطر المحيق بالمسجد الأقصى جدير بتذكير الولاياتالمتحدة بمواقفها السابقة وبحثّها على فتح ملفاتها القديمة التي لم تكن شديدة الانحياز لاسرائيل. وتتهيأ الآن فرصة ذهبية لوزيرة الخارجية كوندوليزا رايس كي تحدث انقلاباً على سياسة كيسنجر لصالح العدالة والمصالح الأميركية طويلة البقاء. و سيكون مفيداً أن تقرأ السيدة رايس خطاب زميلها السابق روجرز وتعلن التزام بلادها بما أعلنه لأنه كان قريبا من روح قرارت الشرعية الدولية اذا كانت واشنطن حريصة حقاً على سلام عادل شامل دائم كما قال روجرز و غيره من المسؤولين الأميركيين. ان الوضع في المنطقة خطير جدا و قابل للتفجيرفعلا وبأمكان أميركا وحدها لجم العدوان المتعدد الأشكال وأن تجبر اسرائيل على الانسحاب وأن تقبل بالسلام العربي الذي تمناه روجرز في خطابه وقدمه العرب لها في بيروت عام 2002 . وختاماً ليس صحيحاً أن هناك علاقة سببية بين نية اسرائيل سحب مستعمريها من غزة وبين تهديد المسجد الأقصى وتكثيف تهويد المدينة عبر توسيع مستوطنة معاليه أدوميم، لأن أهداف اسرائيل الرسمية والدينية واضحة وأعمالها لم تتوقف منذ عام 1967 للاستيلاء على شرقي المدينة بكاملها بشتى السبل والولاياتالمتحدة وغيرها تراقب ذلك عن كثب عن طريق قنصلياتها العامةفي القدسالشرقية ولكنها لا تحرك ساكنا.ً ان السلام يتطلب شجاعة أميركية خاصة عندما يكون فقدانه سبباً رئيسياً من أسباب الارهاب الذي لا تزال الولاياتالمتحدة والغرب بشكل عام يدفعان ثمنه. السيدة الوزيرة، لقد خلت كل خطبك وتصريحاتك، وآخرها خاطبك في مؤتمر دعم السلطة الوطنية الفلسطينية، ومحاضرتك في باريس من اية اشارة الى الاحتلال الاسرائيلي والمطالبة بانهاء هذا الاحتلال، وهي"أم المآسي"في المنطقة والكوارث التي لم تسلم منها بلدك. سفير ورئيس بعثة جامعة الدول العربية في بريطانيا.