لما يسمى اليوم بطريق صيدا القديمة في الضاحية الجنوبية الشرقية للعاصمة بيروت، والذي يفصل بين منطقتي الشياح وعين الرمانة، دلالة تتعدى حادثة البوسطة التي كانت الشرارة التي أذنت باشتعال الحرب اللبنانية في 13 نيسان ابريل من العام 1975، اذ يبدو ان هذه المنطقة، وبعد مرور اكثر من 15 عاماً على انتهاء الحرب في لبنان، ما زالت نقطة توتر، ومرآة لتظهير حال عدم الالتآم الناجم عن ضعف ارادة الدولة والقوى السياسية وعدم الرغبة في الحد منه. وطريق صيدا القديمة هذا الذي يفصل بين جماعتين لبنانيتين تتنازعان أساليب العيش والسكن والتجاور، خط شبه مستقيم يمتد من مستديرة الطيونة حتى تقاطع مار مخايل، من الجهة الغربية منه السكن الشيعي الساعي الى التمدد باتجاه الشرق والناجح نسبياً بذلك، ومن الجهة الشرقية منه يتقهقر السكن المسيحي باتجاه الداخل محاولاً دائماً صد التمدد الشيعي ومحققاً في ذلك نجاحاً اقل. وعلى مدى الخمسة عشر عاماً من السلم المفترض لم ترع علاقة التمدد والصد هذه اي معادلة سياسية سوى طغيان القوى السائدة وفرضها معادلة انتصارها بعد الطائف. فالدولة في بؤر من هذا النوع، شديدة الضعف وموزعة بين نفوذ القوى الأهلية، وهي هنا تنظيما"أمل"و"حزب الله"الشيعيين، فيما تمثل المسيحيون في هذه المعادلة الأهلية بنفوذ ميشال المر الذي بدا ضعيفاً اذا ما قورن بنفوذ التنظيمين الشيعيين. في الشياح سكن شيعي ونفوذ كبير لحركة"أمل"و"حزب الله"، وفي عين الرمانة أكثرية مسيحية ووجود تقليدي لتيار القوات اللبنانية. وفي الآونة الأخيرة تضاعف التوتر على خطي السكن هذين. والمتجول ليلاً في أحياء شطري المنطقة يمكنه رصد وجوه مختلفة للاحتقان. في عين الرمانة شبان موزعون على التقاطعات وآخرون يقفون متحفزين امام مداخل الأبنية، فيما الشياح راقد في"نصره"الذي توجه في العام 1990. يتشابه سكان شطري طريق صيدا القديمة من حيث تكوينهم الاجتماعي والسكاني. فغالبية السكان من الطرفين مهجرون ونازحين. في الشياح غلبة لسكان جنوبيين، وفي عين الرمانة غلبة موازية لمهجري الشوف، ما يعني ان بذور التوتر سبقت المحنة الأخيرة التي مر بها لبنان. صحيح انه في كلا المنطقتين يسود صفاء طائفي، ولكن ثمة ضعفاً في الانسجام الاجتماعي خلفته أحوال التهجير القسري. ففي عين الرمانة اخلاط مسيحية من الشوف اولاً ومن الجنوب وبعض مناطق الجبل والشمال اضافة الى السكان الأصليين، وفي الشياح اخلاط شيعية مهجرة من الجنوب والبقاع اضافة الى عائلات شيعية من السكان الأصليين. يكاد العابر يعتقد بأن حال البرود التي تسود العلاقات بين سكان المنطقة أرخت بثقلها على الشوارع والتقاطعات، فعلى رغم التشابه في احوال المباني والأزقة، ثمة ما يشعرك بأن حدود التحرك والالتقاء مرسومة، والمسافة محددة سلفاً بين الشخص وجاره. فمروان الذي يقطع الشارع يومياً من الشياح الى احد الدكاكين الصغيرة في عين الرمانة حيث يجلس لقضاء اوقات لا يمكنه قضاء مثيل لها في الحي الذي يسكنه في الضاحية الجنوبية، مروان هذا لم يقرن مجيئه اليومي الى دكان العائلة المسيحية بمشاعر تتعدى قبول الجيرة الاجتماعية لا السياسية لأصدقائه اصحاب الدكان. يقول انهم من القوات اللبنانية وتهجروا من الشوف وقتل ابنهم في معارك الجبل وكانت العلاقة معهم ممتازة الى حين قتل الرئيس رفيق الحريري التي أشعلت المشاعر مجدداً. ولكن على رغم ذلك ما زال مروان مواظباً على القدوم الى دكان عين الرمانة هذا. ولكن ما لم يقله مروان عن علاقته بالعائلة القواتية هو ان ما غيَّرته حادثة الاغتيال هو ان القوات اللبنانية لم تعد مجرد حزب محظور، وانما اشهر وجوده السياسي، وعلى مروان الذي ينتمي بدوره الى حزب موال للسلطة ان يتعامل مع هذه الحقيقة. مروان الآتي من الضاحية الجنوبية الى دكان العائلة الشوفية في عين الرمانة هاله ان يكتشف ان شباب عين الرمانة يتجمعون كل مساء ويتوزعون على التقاطعات"ليحرسوا"احياءهم بعد موجة التفجيرات الأخيرة، ولكنه، وبفعل العادة طبعاً، لم يكن بديهياً تذكيره بأن في الضاحية الجنوبية مناطق تشهد ما يتعدى الحراسة المدنية للأحياء والأبنية. لقد طرأ في الأسابيع الأخيرة تغير جوهري في العلاقة بين جماعات السكان في هذه المنطقة، ومجدداً لا يبدو ان لهذا التغير وعاء سياسياً يؤطره ويرعاه، وهنا نقطة التوتر. فبرود العلاقات الأهلية الذي شهدته الأعوام الماضية عرضة دائماً للتحول الى حال احتقان في ظل غياب قنوات التصريف السياسي السلمي للمتغيرات. الحكايات الصغيرة التي يرويها السكان والتي أفضت بهم الى اللجوء الى عين الرمانة، يصعب وضعها في سياق ما يجري اليوم. سيدة قواتية قتل ابنها في معارك دير القمر بين القوات اللبنانية والحزب الاشتراكي تشير الى انه من الصعب عليها ان تنضوي في معارضة يقودها اليوم وليد جنبلاط. شاب من جزين قريب من احد نواب تكتل التحرير الذي يتزعمه رئيس مجلس النواب نبيه بري، يقول انه في جزين موال وفي عين الرمانة معارض. مدرّس من بين السكان يقول انه ألقى سلاحه بعد اغتيال بشير الجميل مباشرة، ولكنه عاد اليوم الى الشارع ليحمي منطقته من السيارات المفخخة. في احد محلات البلياردو الكائنة في زقاق فرعي في عين الرمانة تجمع شباب المنطقة قبل انطلاقهم الى ما يسمونه"نقاط الحراسة". ضم اللقاء نحو عشرة شباب ودارت بينهم نقاشات حول علاقتهم بالبلدية التي تؤمن لهم بعض الشروط اللوجستية للحراسة، كتوزيع بعض السندويشات على نقاط الحراسة التي يبلغ عددها نحو عشرين نقطة، وبعض أجهزة الاتصال. معظم الشباب هم من غير السكان الأصليين وتتفاوت اعمارهم بين 20و35 عاماً، ومن الواضح ان معظمهم ينتمي الى تيار القوات اللبنانية، ومعظمهم يعمل حرفياً او موظفاً صغيراً. وفي لقائهم هذا أبدى شباب عين الرمانة حماسة في نشاطهم الجديد هذا، اذ انهم شعروا، على ما يبدو، ان وظيفتهم الجديدة هذه تمت الى وظيفة تيارهم القديمة بصلة ما. الكلام هنا عن الشكل وليس عن الجوهر، اذ اننا حيال نزق الشباب وحماستهم حيث يطغى الشكل على الجوهر، فالجميع لا يرى ان الحرب مقبلة وهم بحسب ما يقولون يحرسون احياءهم من السيارات المفخخة لا خوفاً من جيرانهم الشيعة الذين يرحبون بهم دائماً في منطقتهم. ويشير اندريه صاحب محل البلياردو الى ان من بين زبائنه كثيراً من الشيعة"المرتبين"الذين يأتون مع صديقاتهم الى محله. تحدث الشباب عن الاشكال الذي وقع في عين الرمانة نهار تظاهرة الموالاة بين شباب الحي وبين بعض المتظاهرين الذين وصلوا الى المنطقة رافعين صور الرئيس السوري بشار الأسد، فقال روي ان ابناء عين الرمانة ما كانوا ليتصدوا لهؤلاء"لو انهم رفعوا صور السيد حسن نصرالله او اي زعيم لبناني آخر، ولكن شباب عين الرمانة لن يقبلوا بأن ترفع صور الأسد في منطقتهم مهما كلف الأمر". يتحدث شباب عين الرمانة بمرارة عن وسائل الاعلام الموالية والتي أعادت منطقتهم الى الواجهة مصورة إياها فتيل انفجار محتملاً. يقولون ان تلفزيون المنار استيقظ فجأة على اوضاع منطقتنا، فبث تقريراً يتناول حادثة مختلقة حول اطلاق نار تعرضت له سيارة عبرت من عين الرمانة. وصور الطلقات التي اخترقت السيارة، وانهى تقريره بهذه الصور. ولكن وعندما كشف الجيش اللبناني على السيارة تبين ان هذه الطلقات اصابت السيارة منذ اكثر من ستة اشهر، وطبعاً يشير السكان الى ان تلفزيون المنار لم يوضح لاحقاً النتيجة التي توصل اليها الجيش اللبناني. في عين الرمانة أوهام كثيرة. واقعة البوسطة التي أذنت باشتعال الحرب في العام 1975 يستعيدها شبان محل البلياردو بصفتها علامة على ان منطقتهم ترفض اختراق غرباء لها. يتحدثون عن انفسهم بصفتهم متقدمين خطوة عن باقي اللبنانيين في ايمانهم بقضيتهم. يمكن الأشارة هنا الى ما يشبه"عصبية عين رمانية"، وكل عناصر هذه العصبية متوافرة، من خرافة البوسطة الى القلق الذي يحدثه الزحف الشياحي مروراً بحال الاضطراب الناجم عن النزوح والتهجير. ويضاف الى ذلك طبعاً ان التسوية السياسية والأهلية ألحقت بهؤلاء السكان غبناً ملحوظاً. ايلي يعمل سائقاً عند احد الوزراء الحاليين، ويقول انه من التيار العوني، وهو مسؤول أحد نقاط الحراسة في المنطقة. وفي اللحظة التي وصل فيها خبر وقوع انفجار برمانا صعد ايلي خلف احد الشباب على دراجة نارية سريعة وتوجه الى منطقة صنين في قلب عين الرمانة، وهي النقطة التي يطلق عليها الشباب تسمية"القيادة". كانت لحظة وصول خبر حصول الانفجار لحظة استنفار وانشداد لمعظم الأزقة والأحياء. الشباب الكثر المتوزعون في الأحياء انطلقوا الى ما يبدو انه نقطة التقاء متفق عليها. انجذب جسم ايلي نحو جهاز الاتصال الذي بحوزته، وانطلق الشاب باتجاه الدراجة النارية مبقياً على الجهاز في يده ورافعاً اياه فوق رأس زميله الذي قاد الدراجة. وفي هذا الوقت كان مروان يشير بيده اليهم متعجباً ومستنكراً استنفارهم. في المقلب الآخر، وفي شارع اسعد الأسعد المقابل كانت الضاحية الجنوبية تغط في نعاس كامل. انفجار برمانا كان بعيداً ولم يوقظ في السكان غرائز الخوف. لم تكن الساعة قد تجاوزت الحادية عشرة ليلاً، ولكن مباني اسعد الأسعد المتزاحمة على طرفي الطريق كانت نائمة. سيدة مرتدية نقاباً اسود تعبر مسرعة والى جانبها زوجها على الأرجح، فيما الأزقة المفضية الى الأحياء المتفرعة عن الشارع غارقة في عتمة عادية. لا شيء في هذه الساعة يمكن رده الى حال الاضطراب التي يعيشها لبنان. لا صورة ولا لافتة، والسكان النائمون نوماً عادياً لا يبدو ان لقلق جيرانهم ويقظتهم في عين الرمانة صدى يذكر في أحيائهم.