وضع العاهل الاردني الملك عبدالله بلاده على بدايات العودة الي مسار الديمقراطية التي حادت عنه، بعد سنوات من قيام الحكومات المتعاقبة على اطلاق الوعود المعسولة، وممارسة السياسات المزدوجة والمتناقضة التي خسرت المملكة الكثير من مصداقيتها داخلياً وخارجياً، بعد ان كانت مضرب مثل لرواد التحديث السياسي في العالم العربي. فبين ليلة وضحاها، قام الملك بتعليق جرس الاصلاح السياسي، واختار د. عدنان بدران وهو اكاديمي مخضرم ومسيس وسطي لا يعرف مصطلح الخوف، لشغر منصب رئيس الحكومة، وعين د. مروان معشر، وهو من اهم رموز الاصلاح النابع من الذات في العالم العربي، وزيراً للبلاط الملكي في اول مرة يستلم فيها مسيحي اردني هذا المنصب الرفيع والمهم، وطلب منه الاشراف على ملف التحديث السياسي، واعاد الاعتبار لرئيس الوزراء المستقيل، فيصل الفايز، ذي الثقل العشائري والمعروف بولائه المطلق للعرش، اضافة الى ارتياح الملك الشخصي الى التعامل معه خلال سنوات من الصداقة. والشخصيات الثلاثة الرئيسية معروف عنها نظافة اليد في بلد اختلطت فيه أخيراً ظاهرة الحكم والتجارة. وحلفت الحكومة الجديدة اليمين امام الملك مساء يوم الخميس، بعد مشاورات لتشكيلها احيطت بسرية تامة. وستساعد هذه الخطوات الدراماتيكية والمفاجئة التحضير لارضية التغيير المطلوب احداثه ولمأسسة الاصلاح وفتح الباب امام حكومة تحاور الجميع، لامتصاص اجواء الاحتقان الداخلي سيما بعد ان دخلت الازمة بين الحكومة والنقابات بسبب تعديلات مقترحة على قانون النقابات المهنية المناوئة لعلاقات الاردن الحميمة مع اميركا واسرائيل، طريقاً مسدوداً. وقرن الملك خطواته برسائل ملكية موجهة للداخل وللخارج، شددت على ضرورة تسريع وتيرة الاصلاحات الشاملة لمواجهة التغيير الانقلابي الذي تدفع به واشنطن لادخال اصلاحات سياسية واقتصادية على العالم العربي، اضافة الى ضرورة تحسين علاقات الاردن المتأزمة مع عمقه العربي وتحديد دور اكثر فاعلية لجهة التعامل مع المتغيرات السياسية المتسارعة في العراق وفي فلسطين، والتي ترمي بظلالها على الاردن. فقد استجاب الاردن وبسرعة لدوامة التحديات السياسية والدبلوماسية المحيقة في خضم التغييرات المتسارعة في المنطقة بعد الانتخابات الاخيرة في العراقوفلسطين وبدايات تحول نحو الانفتاح في السعودية ومصر والتظاهرات المناوئة للوجود السوري في لبنان بعد اغتيال رئيس الوزراء الاسبق رفيق الحريري قبل ستة اسابيع. وقرر الملك مجابهة الواقع ووقف سياسات الخطوة الى الامام والخطوة الى الوراء التي مارستها معظم الحكومات التي عينها منذ ان تولي الحكم بعد موت ابيه عام 1999، ومعظمها كان بهدف تعميق الاصلاح الاقتصادي وتأجيل الاصلاح السياسي بهدف كسب الوقت والمناورة في ظل عدم الاستقرار السياسي في المنطقة والعالم بعد احداث أيلول سبتمبر 2001. ويسجل له ان اجراءاته الاخيرة كانت بمثابة"ضربة معلم"، استباقية تنم عن استشعار واضح وحساسية مفرطة لجدية وحجم المخاطر المحيطة بالاردن وان كان من المبكر الحكم على نتائج هذا التغيير وجدية السياسات الجديدة وكفاءة الطاقم الوزاري الجديد القديم. 12 من الوزراء ال 26 في الحكومة الحالية هم من الوزراء الذين شاركوا في حكومات سابقة، وبعضهم مثار جدل مثل وزير المالية د. باسم عوض لله، ووزير اداء القطاع العام د. صلاح البشير تأتي خطوات الملك المتسارعة والمتناغمة لتعكس ايضاً واقعية سياسية اخرى املتها على الاردن ضرورات تغيير دفة السياسة الخارجية وكسر العزلة العربية المتنامية التي تجلت قبيل القمة العربية الاخيرة وخلالها، بعدما شاب توتر شديد علاقات الاردن مع كل من السعودية والعراقولبنان وسورية، لاسباب مختلفة، وبدت عمان كانها أكثر حرصاً على علاقاتها الاستراتيجية مع اميركا واسرائيل ولو كان ذلك على حساب عمقها العربي. وسط تلك التحديات، بدأ الملك الشاب زلزال التغيير الداخلي السريع بعد اقل من اسبوع على عودته من رحلة عمل سنوية الى واشنطن، حيث قوبل الوفد الاردني هناك بانتقادات متزايدة بسبب تخبط وجهة الاصلاح السياسي الداخلي. وتأكد له ايضاً، وبصورة قطعية، ان الولاياتالمتحدة وساستها من المحافظين الجدد ومن الاصوليين المسيحيين الموالين لليمين الاسرائيلي سيخوضون قريباً جداً حرباً ضروساً لفرض الاصلاحات الاقتصادية والديموقراطية على العالم العربي، حتي لو ادى ذلك الى زعزعة الامن والاستقرار في المنطقة على غرار النموذج العراقي والافغاني. وخلال لقاءاته مع العديد من نشطاء منظمات حقوق الانسان الدولية، تفاجأ الوفد الاردني باطلاعهم على ادق تفاصيل المشهد الداخلي وبعض الممارسات والاعتقالالت التي ارتكبت أخيراً، متعارضة مع روح الاصلاح التي كان يتم الحديث عنه للخارج، اضافة الى التدخلات اليومية للمرجعيات المختلفة من حكومة وديوان ملكي واجهزة امنية، في تحديد سياسات الصحف المحلية واولوياتها الاخبارية مثلاً. وقبل زيارته لاميركا بأسابيع، أصدرت وزارة الخارجية الأميركية تقريرها السنوي عن الأردن ووجّهت فيه انتقادات حادة"للانتهاكات الحكومية لحقوق الإنسان، وتراجع حرية التعبير المكفولة في الدستور". وقبل ذلك احرج صحافي اميركي الرئيس الاميركي جورج بوش عندما طلب منه تعليقاً على قيام الحكومة الاردنية باعتقال علي حتر، وهو ناشط سياسي معارض، بعد مزاعم تحريض ضد النظام وبسبب مطالبته ايضاً خلال اجتماع نقابي بمقاطعة البضائع الاميركية. بعد ذلك، فجرت الأزمة الحادة بين الحكومة والنقابات المهنية جدلاً داخلياً واسعاً حول ملف وجدية الإصلاحات السياسية وحرية الاعلام والرأي التي طرحها الأردن عام 1989 كواحة للديموقراطية للمنطقة التي كانت تغط في ظلام الأنظمة الشمولية والقمعية واستبداد السلطة. وثم جاءت تداعيات القمة العربية. فكان لا بد من التحرك سريعاً للتعامل مع هذة الازمات المتلاحقة، واعادة ترتتيب الجبهة الداخلية، لمواجهة استحقاقات الضغوط الخارجية الدافعة باتجاه التغيير. وقد يكون للملك ايضاً هدف استراتيجي من وراء التغيير الاخير، اذ يود تقديم مثال عربي جديد للاصلاحات السياسية النابعة من الداخل والتي قد تصلح نموذجاً للمنطقة بعدما حصدت سياسات الاصلاح الاقتصادي والاجتماعي التي اشرف عليها بنفسه خلال السنوات الخمسة الماضية الكثير من الريادة الاقتصادية للاردن في العالم العربي. فحسم خياراته واطلق حملة اصلاح وتطهير داخلي لاعادة الثقة للاردنيين، ولاعانتهم ايضاً على مواجهة قوى الشد العكسي القوية والمتغلغلة والمناهضة للتغيير والاصلاح في مجتمع تقليدي وعشائري. فلجأ الي ادوات اصلاح جديدة يبدو انها اكثر جدية، حيث وقع خياره على د. بدران من خارج الصندوق الاعتيادي - او ما يعرف بنادي رووساء الوزارات التقليدي. فبدران، رجل اكاديمي مرموق من اصول شرق اردنية لا يعرف ثقافة الخوف والتزلف والتردد، ويعتبر من رواد الاصلاحيين من التكنوقراط الوسطيين خلال العقدين الماضيين الذين نجحوا بالمزاوجة بين ضرورات التغيير والانفتاح على العالم مع الابقاء على الخصوصية المحلية ومراعاة العادات والتقاليد واعتبارات الموروث الديني. وعلى رغم دخول بعض الوزراء من الاسماء المثيرة للجدل والتي لا تتمتع برصيد شعبي، ربما بسبب عوامل الجغرافية وضغوط الاعتبارات الداخلية الاخرى، او لضرورات مواجهة محاولات الابتزاز والعرقلة التي ستمارسها القوى الداخلية، الا ان اغلب الشخصيات التي استلمت الحقائب الاساسية والسيادية، كالخارجية والداخلية، مثلاً، تتمتع برصيد من السمعة الطيبة داخلياً وخارجياً وسبق ان اثبتت موجوديتها. فمنها فاروق القصراوي وهو مستشار الملك للشؤون السياسية، ديبلوماسي مخضرم ومحنك ومفاوض شرس لكن لبق، حل مكان وزير الخارجية هاني الملقي، الذي قام الملك بانتقاده، ووصف تصرفاته خلال القمة العربية بالانفعالية، حيث فشل في تسويق مشروع قرار لتفعيل مبادرة السلام العربية - الاسرائيلية التي اطلقتها السعودية عام 2002 اضافة الى تسرعه بسحب القائم بالاعمال الاردني من العراق وحماسه للطلب من سورية ولبنان الالتزام بقرار مجلس الامن الدولي 1559المثير للجدل خلال زيارته لاسرائيل. كما حاول الملك المزاوجة بطريقة اكثر اتزاناً هذه المرة بين الجيل الجديد من التكنوقراط والوجوه الليبرالية والوسطية، مع الوجوه القديمة والمألوفة، وذلك لخلق توافق وطني لمجابهة التجاذبات الداخلية الخطيرة ولردم الهوة السحيقة التي اصبحت تفصل بين طريقة عمل الاسخاص الذين دخلوا الحكومة خلال ما قبل وما بعد مرحلة اعتلاء الملك عبدالله العرش. وقام الملك بترتيب امور الديوان الملكي الدخلية، ليضع الجميع ممن حوله على نفس الموجة ووتيرة العمل، بعد شهور من المناكفات السياسية وتضارب الصلاحيات وتعدد المرجعيات التي سادت بين بعض الوزراء وبعض المتنفذين في القصر والتي دفع الفايز ثمن جزء كبير منها. وازاح نفوذ الثنائي السياسي سمير الرفاعي وسيما بحوث، التي استبدلت برانية عطالله، التي عملت بنجاح على ادارة مكتب الملكة رانيا لست سنوات متتالية، اضافة لعملها مديرة للمكتب الاعلامي الاردني في واشنطن لاكثر من ستة سنوات. وقد شكا الصحافيون مراراً من شخصنة الامور ومن تدخل الاثنين في ادق تفاصيل الاعلام وفي التعتيم على الكثير من تصريحات الملك السياسية والمثيرة للجدل مثل تلك التي حذر فيها من مغبة نشوء"الهلال الشيعي"في العراق من خلال الانتخابات الاخيرة في العراق. وبعودته الى منصب رئيس الديوان الملكي، وهو المركز الثالث من ناحية هرمية القيادة، سيكون باستطاعة الفايز ان يساعد الملك على تجسير الهوة مع ممثلي الشعب كافة على الساحة الداخلية، اضافة الى تنسيق نشاطات رأس الدولة مع السلطات كافة، وتنظيم جدول زياراته ولقاءاته الداخلية والخارجية. واختار الملك مروان المعشر وزيراً للبلاط، بعدما كان نائب رئيس الوزراء ووزير الدولة لمراقبة الاداء الحكومي السابق، وقبل ذلك وزيراً للخارجية والاعلام. واصبح المعشر خلال السنوات القليلة الماضية احد ابرز الرموز العربية المدافعة عن ضرورة المضي قدماً ببرنامج اصلاحي مرحلي يتم وضعة داخلياً، قبل ان يفرض على المنطقة من جانب اميركا. المعشر شرق اردني، وبحكم عمله السابق كسفير لدى واشنطن، فإنه يفهم طريقة مخاطبة وعمل العقلية السياسية الاميركية، اضافة الي علاقاته الجيدة مع العالم العربي والتي وطدها خلال عمله كوزير خارجية لحوالي ثلاث سنوات. ونقل الملك مع المعشر ملف الاجندة الوطنية والاصلاحات الهيكلية التي اشرف عليها في الحكومة السابقة، كمؤشر اخر ومهم الى الاهتمام الملكي بهذا الملف باعتباره اولوية ملحة لضبط ايقاع عمل السلطة وتشبيكها مع سائر اذرع الدولة من خلال هذا المنصب المهم. وقد اضطر الملك للطلب من المعشر الانضمام اليه لاحقاً خلال رحلته الاخيرة لواشنطن لشرح الاجندة الوطنية التي يشرف عليها لطمأنة واشنطن حول نيات الاردن الجدية في المضي بنهج الاصلاحات بدون تردد من بعد اليوم. وستحدد الاجندة التي ستنتهي ملامحها الرئيسية في شهر ايلول سبتمبر سياسات الاردن في مجالات الاصلاح السياسي والاقتصادي والاعلامي ومكافحة الفساد والفقر والبطالة والتنمية وتشيع الاستثمار واولويات التعليم وتعزير دور المرأة والنوع الاجتماعي لعام 2014 وستربط بالموازنات المقبلة لضمان تنفيذ هذه السياسات. والمعشر ايضاً عضو رئيسي في لجنة ملكية تعكف على درس تقسيم المملكة إلى اقاليم والعودة إلى القواعد الشعبية في خطوة ريادية في المنطقة. اذاً، باتت خارطة الطريق للاصلاحات الداخلية معروفة، وادواتها التنفيذية الرئيسية صارت محددة، والقيادة تتمتع بالشرعية السياسية والعزم الواضح على الدفع باتجاه التغيير السياسي الطوعي، وقد يبدأ الاردنيون قطف ثمار هذا التحول خلال الشهور القليلة المقبلة بعدما سئموا المراوحة واللف والدوران في حلقات مفرغة. وهناك ايضاً قدر متزايد من التفاؤل الشعبي بالوجوه الجديدة وان كان من المبكر اصدار الأحكام. * كاتبة وصحافية اردنية.