قدم المخرج شريف عبدالنور عرضين متتالين على مسرح "مونو" في بيروت، الأول بعنوان "بتفرق على ثانية" والثاني بعنوان "مشهد من المسرح". وقد ساعد قصر مدة العرضين وبساطتهما على تقديمهما في الليلة نفسها. القصر والبساطة، هنا، لا يعنيان إمكان تحمل المشاهدين عرضين معاً فحسب، بل يعني، أيضاً، خفة العرضين واتكاءهما السردي والبصري والأدائي على بنية خيطية غير معقدة وغير متشعبة، وعدم طرحهما أسئلة وهواجس مسرحية مقلقة قد تكون لها علاقة بطموح أي عرض مسرحي يُقدم في بيروت اليوم من جانب مسرحي شاب. والحال ان المشاهدين تسلّوا و"فرفشوا" والكثير منهم تجاوبوا مع المنطق الكوميدي والبسيط والسهل للعرضين على رغم اختلافهما في الشكل. يعتمد عرض "بتفرق على ثانية" على المفارقات والمفاجآت التي يمكنها أن تنشأ من استعمال العبارات بين ثانية وأخرى عبر تبديل كلمة في الجملة أو تغيير الجملة كلها أو طريقة إلقائها. الحوار موزع على فتاة ياسمينا حاتم تقرأ الجريدة وتنتظر على طاولة في مقهى، وشاب أشرف مطاوع يحاول استمالتها وإغواءها أو، على الأقل، الثرثرة معها، ويتدخل النادل رؤوف خليفة ليقاطعهما بين حين وآخر. العرض بكامله يقوم على تقنية الإعادة حيث يعيد كل واحد من الممثلين الثلاثة الجملة التي يقولها بتغيير شيء ما فيها. وأحياناً تُعاد الجملة مع إعادة حركة الممثل أيضاً كأن أحداً يعيد شريط فيديو الى الوراء، ويستخدم لهذه الغاية صوت جرس لتنظيم الاعادات ومنحها إيقاعاً أدائياً ورقابياً معيناً، ساهم في جذب المشاهدين وتفاعلهم مع ما يحدث. وما يحدث هو أن التبديلات والإعادات المتواصلة تخلق جواً من الفكاهة والكوميديا. أما طموح المخرج فيكمن في أن الحياة تقدم لنا احتمالات كثيرة وأن تبديلاً صغيراً جداً في اختياراتنا قد يغيّر رغباتنا ومصائرنا. الفكرة طريفة وتحمل بصيص أسلوبية مبتكرة، ولكن المشكلة تتجلى في اكتفاء شريف عبدالنور بطرح الفكرة فقط من دون التفكير في استثمارها نصياً وأدائياً وإخراجياً. الفكرة ظلت على سطح العرض، وانشغل النص بالتبديلات والاحتمالات أكثر من انشغاله بمراكمة الحال الأدائية للممثلين وتطويرها على رغم توافر النية الحسنة عند أشرف مطاوع والمحاولات الكوميدية لرؤوف خليفة والبرودة المستفزة لياسمينا حاتم. لقد احتوى العرض على اشارات تأليفية واستعدادات أدائية. ولكن كل ذلك افتقد التوليف التجريبي القوي والمحترف، التجريب الذي كان في الإمكان مزاوجته مع أجزاء مهمة في النص تذكرنا بمناخات مسرح العبث وحداثته المتجردة. أما عرض "مشهد من المسرح" فيقطع مع العرض الأول من نواح عدة أهمها انه عرض صامت وليس ايمائياً كما كتب المخرج في دليل العرض، وهناك فارق شاسع وحاسم بين الايماء كفن تعبيري وجسدي متكامل وبين الأداء الأخرس الذي يعتمد على ترجمة الكلام بالصمت. يقوم العرض على ادارة المخرج نفسه لإنشاء مشهد مسرحي بالاعتماد على تطوّع بعض المشاهدين للمشاركة في تنفيذه. المشهد يصور تعارضاً بين شاب وفتاة يتطور الى حب وزواج ثم خيانة وقتل. مشكلة العرض تمثلت في إصرار شريف عبدالنور على تنفيذه من دون كلام أو حوار، وهذا ما أدى الى خوض واستسهال سمحا للهمهمات والنحنحات والاشارات بالقضاء على مشروع العرض الايمائي المفترض. صحيح أن المتطوعين ليسوا ممثلين ولكن كان يمكن استخراج ما هو أفضل من اندفاعهم ورغبتهم في المشاركة. لقد بدا أن المخرج يحاول انهاء المشهد بأي طريقة، وقد ساعده في ذلك ضحك الجمهور الذي أوهم المخرج ومنفذي المشهد بأنهم يقومون بذلك في شكل جيد ومقبول. والواقع أن عرضاً كهذا ينبغي أن يتحلى بصفة السهل ? الممتنع وليس بالتساهل والسطحية. مسرحيتان خفيفتان تزامن عرضهما، بالصدفة، مع الأجواء المتوترة هذه الأيام في بيروت، فالتفجيرات المتتالية جعلت معظم الناس يفضلون البقاء في منازلهم ليلاً. الخروج الى المسرح والتسلي ببعض الكوميديا كان نوعاً من الحل، وهذا ما قد يدفع المشاهد الى التغاضي عن التنظير، قليلاً، لمصلحة الخفة والمرح.