بعد دقائق من البداية المرتبكة للعرض يستحوذ"يالو"* في شكل معقول على انتباه المشاهدين. و"يالو"هو بطل الرواية الأخيرة للكاتب الياس خوري التي تحمل الاسم نفسه. ارتباك البداية يعود، على الأرجح، الى تشعب الرواية وكثرة أحداثها وتفاصيلها بما يجعل اقتباسها مسرحياً تعترضه صعوبات كبيرة. المخرج الشاب شريف عبدالنور في تجربته الثانية، بعد"البادئون بالحرب"عشية الحرب على العراق، اختار سبيلاً شاقاً لتقديم عمل مسرحي مأخوذ عن رواية، وكان في امكانه اعادة تأليف الرواية أو قراءتها بصرياً بحسب التكوينات القابلة للتأويل مسرحياً. وهو حين فعل هذا اكتفى بالخطوط العامة للرواية."يالو"في الرواية مبتكر من سرد متوغل في الذاكرة الفردية للبطل وعلاقته الغامضة بأسرته السريانية، وتماسه مع الحرب اللبنانية ونضوجه فيها وعلى خلفية السلم الذي أعقبها، وتشرده في باريس وعمله في فيلا رب عمله في أحراش منطقة"بلونة"واستغلاله عمله في تشليح أو سرقة الباحثين عن الجنس السريع في سياراتهم المتوقفة في الحرش، وعلاقته الغريبة والمتوترة مع"شيرين"التي سرق صاحبها في الحرش وتعلق بها... الخ. كل هذه التفاصيل أو معظمها موجود في المسرحية أيضاً، ولكنها موجودة من دون حمولاتها السردية والروائية، الخلفية الروائية ليست دائماً مرشحة للتحول الى مشهد مسرحي مرئي، ولكن استبعاد هذه الخلفية لتسهيل إظهار الأحداث والشخصيات قد يحول المسرحية الى تلخيص فقير للرواية أو تظهير قليل العمق للأصل الروائي. استفاد شريف عبدالنور من مناخات الرواية خصوصاً الجانب البوليسي المتعلق باعتقال"يالو"وخضوعه للتحقيق وأشكال مهينة من التعذيب النفسي والجسدي، وجرّب أن يستثمر الحضور الواسع ل"يالو"في الرواية كاقتراح مسرحي لممثل وحيد. العرض، بهذا المعنى، كان مونودراما وضع فيها المخرج"يالو"قام بالدور جوني الحاج وحيداً على الخشبة وغطى المحقق علي وهبة بستارة ورقية مظهراً خياله فقط، وأحضر شخصية الكاهن أفرام أشرف مطاوع على الشاشة الخلفية للعرض، ولعب بحضور شيرين روسانا بو عبسي المغوي والمؤثر في حياة"يالو"، فأظهر ساقيها العاريتين فقط من خلال ستارة المسرح. كل هذا منح الحضور الوحيد للبطل نفوذاً مونودرامياً مقنعاً لكي يلعب وحده ويروي سيرته المختلطة بسيرة الحرب والسلطة والحب والعائلة أمام المشاهدين. لكن هذا الحضور افتقر في لحظات كثيرة الى الكاريزما التي يحتاج ممثلو المونودراما عادة اليها. الممثل الشاب جوني الحاج حاول أن يقرأ وجهة نظر المخرج ويمزجها مع امكاناته الأدائية والجسدية، ولكن الأداء والجسد لم يطاوعاه طوال العرض الذي دام أقل من ساعة، صحيح انه كسب تعاطف بعض الحضور ولكن هذا التعاطف كان وليد تفهم سطحي مع النص الذي تم تنظيفه من معظم ثقله الروائي والسردي ومُنحت البطولة فيه لتسلسل الأحداث بأقل قدر ممكن من العمق والتوغل في جسم الرواية. العمق والتوغل، على أي حال، كانا يفترضان قراءة مسرحية وبصرية أخرى للرواية التي لم تكتب للمسرح أصلاً. كما ان العرض يطرح سؤالاً عاماً عن الكيفية التي تتحول فيها رواية ما إلى عمل مسرحي، ولماذا اللجوء الى مثل هذا النوع من الاقتباس الذي لا ينصف الرواية ولا يثري العرض المشتق منها. رواية"يالو"كما كتبها الياس خوري كانت تحتاج الى مونتاج ومحو وقطع واعادة وصل وإخضاع عالمها وأجوائها الى مخيلة مشهدية يمكنها أن تبتكر معادلات أدائية واخراجية موازية للسرد والكتابة. والمخرج شريف عبدالنور قدم عرضاً رشيقاً ومتقشفاً من دون أن يثقل على المشاهد، وبذل الممثل جوني الحاج جهداً طيباً وصادقاً لتظهير الاقتباس المقترح. غير أن الإخراج والأداء وإن غامرا في تقديم عمل شاق، كان يعانيان نقصاً في الاستعداد والابتكار والمخيلة. والأمر، على الأرجح، كان مرهوناً بمخرج شاب ما زال في بداياته. تعرض المسرحية على مسرح مونو/ بيروت.