قد يكون اخفاق يوحنا بولس الثاني في تدوين المسيحية مصدراً روحياً من مصادر الحضارة والروح الأوروبيين، - في مقدمة الدستور الأوروبي المقترح على دول الاتحاد - من أشد الأمور ايلاماً لحبر الكنيسة الكاثوليكية الراحل، وأدعاها الى التساؤل عن دلالة الاجماع الظاهر الذي حظي به رأس الكنيسة الجامعة في حياته وبعد مماته. ففي خريف 2002 استقبل يوحنا بولس الثاني رئيس الجمهورية الفرنسية الأسبق، فاليري جيسكار ديستان، رئيس الجمعية الأوروبية المندوبة الى صوغ المعاهدة الدستورية، وطلب اليه ادراج الرافد المسيحي، أو اليهودي - المسيحي، في روافد أوروبا المعاصرة، الديموقراطية الليبرالية، ومنابعها التاريخية والحضارية. وغداة ذكرى ولايته السدة منذ خمسة وعشرين عاماً، في أواخر 2003، حض البابا الأوروبيين في رسالته"الكنيسة بأوروبا"، ألا ينسوا ما يدينون به الى قيم المسيحية، وما يقوم من أوروبا مقام اهابها، على رغم المنازعات الكثيرة التي كانت أوروبا مسرحها الأثير ومرآتها الصادقة والقاسية. والحاح الحبر البولندي على الأوروبيين في الأمر لم يكن وليد الظرف ولا حادثاً طارئاً. فهو ذهب في رسالة راعوية تعود الى مطالع ولايته الحبرية، في اليوم الأخير من 1980، الى تنصيب كيريليس وميتودوس، منصّري البلقان وظواهر"العالم"السلافي الى قديس ثالث،"أولياء أوروبا وقديسيها". وبعد نحو سنتين دعا من اسبانيا، من أحد مزارات الكرامات المقصودة والمشهورة، الى كرازة انجيلية أوروبية"تجدد صبغ أوروبا بصبغة الانجيل"، و"تغمسها"على قول بني تغلب في روحه ومائه. فأثارت دعوته انكاراً واسعاً في صفوف"أوروبيين ثقافيين"كثر. وحملها بعضهم على دعوة أو دعوى"ظلامية"تنكص بالأوروبيين الى حال سبقت العمل الثقافي والفلسفي والديني والسياسي الذي سعوا به الى بلوغ"رشد"النفس العسير، أي قيامها بنفسها من غير ضمانة من خارجها، أو من غير أقرانها وأندادها ونظرائها. وزعم منكرو الدعوة البابوية ان"امتياز"أوروبا، وهو امتياز متناقض لأنه يحمل على العمومية ولا يستثني أحداً، هو نصبها الرشد هذا معياراً وغاية أو"فكرة"لا تبلغ، وانما يهتدي بها الجنس البشري و"تربيته". ولعل جهر البابا البولندي، القادم من ايمان تقليدي راسخ وحرفي، دعوته الانجيلية من مزار عجائبي اسباني، سان ? جاك ? دو-كومبوستيل، خالطته محافظة شعبية أو عامية شديدة المنافاة للعقلانية والمساواة التنويريين، لعل الجهر بالدعوة من هذا الموضع كان بعض السبب في حذر كثيرين من"حلف"قطبين كاثوليكيين، البولندي والاسباني، أقاما طويلاً على هامش المجرى الأوروبي الديموقراطي والليبرالي الفردي العقلاني. والحق ان يوحنا بولس الثاني لم يبدد، طوال الأعوام السبعة والعشرين من حبريته الطويلة والغنية بالحوادث والمواقف، التباساً برز مع خطواته الأولى ولم تطوه آراؤه الأخيرة. وليس هذا جزماً بقابلية الالتباس للحسم والبت، ولا رأياً في"قصور"كارول فويْتيلا، اسم الحبر الذي سماه به والداه وبقي اسمه قبل ارتقائه"عرش بطرس"على ما يسمي أهل الكثلكة"السدة"الفاتيكانية الرومانية، عن حسمه. فحمل الدعوة البابوية الى غمس أوروبا في"الانجيل"وهو أناجيل وكتب والروح الانجيلي، على الترجح والالتباس لا يزعم الا الانتباه الى بعض ما حف، ويحف عملاً تاريخياً كبيراً في العالم المعاصر. فشبهة ارتداد رأس الكنيسة الكاثوليكية عن الرشد التنويري، الديموقراطي الليبرالي والعقلاني، يخالفه مخالفة صريحة، بل يكذبه رئيس الأساقفة البولندي الروح في مقاومة البولنديين الطغيان الشيوعي منذ خطوت البابا الجديد الأولى. والنداء الأول الى اطرح الخوف "لا تخافوا"، مع الاطلالة من نافذة"البيت"البابوي ? التي أعاده اليها، في الملأ الأعلى، صاحب خطبة التأبين الأخيرة -، ومعانقة سلفه العنيد والشامخ في سدة الرئاسة الأسقفية البولندية، هذا النداء لم يتوجه على أنفس مكبلة بالاساطير والخرافات، أو رازحة تحت ثقل الوصاية والقصور و"الأموات المنيخين على عقول الأحياء". فالرسالة البابوية الأولى في آذار/ مارس 1979 وضعها أسقف روما الجديد على حقوق الانسان. وهي سبقت زيارته البولندية الأولى، في العشر الأول من حزيران يونيو، بأقل من ثلاثة أشهر. فلما أطل على جمهور مواطنيه المتجمهرين في ساحات فرصوفيا وغنييزنو وشيستوشوفا وكراكوفيا ? ولم ينسَ التعريج على أوشفيتز في طريقه الى زيارة كبير حاخامي روما ايليا تُوَاف في أوائل 1981 ? لم يخطئ الشعب البولندي معنى الاهابة الحبرية، الصادرة عن"الابن"العائد، الى ترك الخوف من السلطان الجائر والساحق. فاستيلاء الحزب الشيوعي على بولندا بواسطة الجيش الأحمر الستاليني المتعقبة القوات الألمانية والهتلرية المتراجعة، أدى في رأس ما أدى اليه الى انقطاع بولندا والبولنديين وشرق أوروبا عموماً من أوروبا، وخروجها وخروجهم منها. فعلى مثال النازية الألمانية و"القومية ? الاجتماعية"وان على وجه مختلف، كانت الشيوعية السوفياتية والروسية"ردة"على التراث الأوروبي التنويري، الديموقراطي الليبرالي الفردي والعقلاني، ونقضاً عليه. فزَعَم جهازها الحزبي والسياسي والأمني لنفسه القوة على تمهيد النتؤات والفروق والخلافات والمنازعات الاجتماعية والسياسية والثقافية والأهلية من خارج الجماعات نفسها وبالنيابة عنها، أي بالعنف والتخويف والقسر والافساد. وقضى الجهاز هذا في الخلافات عليه وعلى سياسته، كلها، بالمروق وموالاة طور متخلف وسابق من أطوار التاريخ التي يتوجها ويختمها سلطان الجهاز. ولما كان مصدر الخلاف الأول والأقوى على البيروقراطية البوليسية والحزبية الشيوعية، هو الوطنية بل القومية البولندية الملابسة الكنيسة ملابسة شديدة وقديمة، ناصب الحزبُ الشيوعي الكنيسةَ و"شعبها"المؤمن عداءً واضطهاداً لا هوادة فيهما. وحين انعقد المجتمع الفاتيكاني الثاني بروما في منتصف تشرين الأول أوكتوبر 1962، وكان باكورة أعمال"المطران"فويتيلا خارج ابرشيته بكراكوفيا وسُلَّمه الى الحبرية من بعد، لم يحضره التشيكي بيران رئيس أساقفة براغ، ولا الكاردينال الأوكراني سليبيي، ولا الكاردينال المجري ميندزينتي، ولا الأساقفة الليتوانيون والرومانيون سلادكيفيشيوس وشيبونا فيشيوس وهوسو وبوروس. وكانوا كلهم معتقلين في سجون الجهاز الحاكم"الوطني"أو لاجئين الى السفارة الأميركية في بلدهم وكانت هذه"غرفة عمليات"معارضات البلدان الشيوعية، بحسب تهمة الأجهزة الحاكمة. واستجابة البولنديين، عمالاً ونقابيين ومثقفين، نداء البابا"الوطني"الى النظر في أمورهم وشؤونهم بأنفسهم، ونفض وصاية الجهاز الحزبي المتسلط عليهم، أدخلت الاستجابة البولنديين في التاريخ الأوروبي المعاصر من بابه العريض، وطوت الانقطاع من أوروبا الذي أرادت الشيوعية السوفياتية تثبيته وترسيخه. وكان هذا قرينة على أن التدين بديانة قوامها"الدنيوي"والزمني صرح أو جسم كهنوتي مرتبي ومركزي، لا ينافي المبادرة الحرة والتلقائية الى مقاومة التسلط والتسليم وجهه السالب والآخر. وقد يكون سنداً للمبادرة هذه، وباعثاً عليها. وكان قرينة على ان ثقافة وطنية راسخة ومشبعة بروح هذه الديانة وتقاليدها، مثل الثقافة البولندية الكاثوليكية، قد تصلح بيئة حية تغذي منازع ديموقراطية وليبرالية وعقلانية. والحق ان اليقين بتلازم المنزع الايماني، المسيحي وغير المسيحي، والمنزع الى الحرية الروحية والشخصية، كان حادي الحبر الراحل الى معظم مواقفه. وهو قدم من غير شك المنزع الروحي والشخصي الى الحرية والحياة على ما حملته الحداثة الأوروبية على الديموقراطية ونسبته اليها. فنسَبَ الرغبة البولندية، ومن بعدها الرغبات الأوروبية الشرقية والوسطى الأخرى، في الديموقراطية، وفي هوية أوروبية جامعة، الى الإيمان. ولم يفصل الإيمان من هبة الحياة وعطيتها، على ما كان يردد ويكرر من غير كلل ولا ملل. ولم"يطهر"الإيمان أو يخلصه من صوره التي صورته بها وفيها"عجائز نيسابور"على قول الجويني، كناية عن الاعتقاد الشعبي والعجائبي. فكان شعاره الأسقفي، حين سمي اسقفاً في 1958، مريمياً:"لكِ بكلِّيتي"اذا جازت ترجمة"توتوس تُووس"على هذا النحو. وطوَّب العالم على اسم"عذراء فاطيما"في خريف 1983. وطوب ورسم وسام من القديسين وأصحاب الكرامات والأولياء ومن شفاة المرضى ورعاة الأطفال والخائفين، وملجئي الضعفاء، المئات. ولم يرتب على مراتب خادمة المرضى والزَّمْنى بكلكوتا في الهند، وتلميذة ادموند هوسيرل أحد كبار فلاسفة القرن الماضي اللامعة. وعلى خلاف هذا، ان لم يكن على نقيضه، ارتاب ريبة عميقة في بعض أركان التنوير الأوروبي المحدث، وانتظر حلول أواخر 1998 لينشر على الملأ رسالته الفلسفية في"الإيمان والعقل". فحمّلها تنديده المرير بالفردية والذرائعية والمنطق النفعي والأناني والعقلانية الحسابية التي غلبت على الحداثة، على ما ذهب اليه. ولكنه سبق، في رسائله الكثيرة في النساء والأولاد والأسرة والانجاب والحمل والجوع والعمل والنقابات والمثلية والتعليم والصلاة والحروب الصليبة والمحرقة، الى معارضة"الحق في الحياة"ب"ثقافة الموت"، على وصفه الاجهاض. وحمل بعض أعظم الخسائر والنكبات والكوارث البشرية على أركان التنوير الأوروبي، وعلى منطقه المضمر. فكان هذا أحد"صلبانه"وصلبان سواد معاصريه. كاتب لبناني.