يأخذ رأس الكنيسة الكاثوليكية، يوحنا بولس الثاني، على "الفلسفة" المعاصرة، وهو يحملها على كلٍّ واحد ومجتمع، تركها مسألة الكون كون الكائن أو المكون، والمعنى الأخير، إلى مسائل ثانوية مثل مسألة الواقعة، أو الإنِّية، ومسألة المعرفة الإنسانية، والذات الإنسية، والغايات العملية والذرائع. وتحمِّل رسالة حَبر روما الأخيرة، "الإيمان والعقل" أذاعها في منتصف تشرين الأول/ اكتوبر المنصرم، الفلسفة، وتياراتها ونزعاتها العدمية والملحدة والوضعية والعلموية والتشككية اللاأدرية، التبعة عن وقوع الطلاق بين الفلسفة وبين الإيمان، وبين الفلسفة وبين اللاهوت، وعن انتهاج العقل الفلسفي والعلمي طريق إنكار "الحقيقة المطلقة" وتنكب الفحص عنها والسعي فيها. فالفلسفة وحدها، على زعم الرسالة، تُسأل عن "آفات" العالم المعاصر وأمراضه، على النحو الذي يشخصها عليه ويصفها رأس الكثلكة. فإذا غلبت المشاعر والانفعالات على القِيَم، وتقدمت عليها تعليلاً وتأويلاً" وإذا انقاد جزء من البشرية إلى الطمع في سلطان عظيم على الطبيعة" وغلبت تجزئة المعرفة على وحدتها "الميتافيزيقية والخلقية"" ورضي الفكر بالأجوبة المؤقتة والنسبية عوض الإجابات "الأخيرة" عن الأسئلة الحاسمة والموضوعة على "معنى الحياة الإنسانية وركنها الأخير"" وانصرفت المسألة إلى ما يحدّ المعرفة ويقبضها عن الإحاطة ب"معنى الكون" - فما ذلك إلا جَرّاء تواضع الفلسفة الكاذب والمشبِّه. والسبب في هذا التواضع، على حسب الرسالة، نأي الفلسفة بنفسها عن الدين، وانقطاعها من معينه ومعين مسائله، على خلاف تراث فلسفي "عظيم" يرقى إلى "القدماء" وآباء الكنيسة، وإلى من أخذ عن هؤلاء وأولئك من "معلمي" علم الكلام الوسيطي. و"المعلمون" الشيوخ هؤلاء لم تنقطع ذريتهم. وخَلَفُهم، اليوم، يَبعثون علمهم، ويتمّونه بما حصله "الفكر الحديث والمعاصر". وهذا، إذا صدق، ينبغي أن يبعث على الطمأنينة. فالتقليد العريق، عراقة السلسلة المتصلة منذ القِدم، أي منذ حكماء اليونان وفلاسفتها وربما منذ حكماء الهند والصين معاصري "العصر المحوري" الذي جمع فيه كارل ياسبرز أنبياء فلسطين وحكماء اليونان ومعلمي الشرق الأقصى، هذا التقليد يطمئن إلى "أزل الحقيقة"، على قول كارول فويتيلا، وتعاليها عن الحدوث. وعلى هذا فما ينكره أسقف فرصوفيا السابق على الفكر والتاريخ المعاصريْن إنما هو كله وليد الحداثة وتراثها، ونتاج تركها التقليد العريق، والقديم وخروجها على مبانيه المتصلة. وهو يعزو صور الترك والخروج هذه إلى انقطاع أول نَسَب "الحقيقة" إلى العلاقة بين البشرية وبين المَكون، وأرساها تالياً على أطوار هذه العلاقة، وعلى تغيرها وتبدلها. فخسرت "الحقيقة"، على قول خليفة البابوات اللاهوتيين، نسبتها إلى ركنها الثابت، وخسرت المجتمعات التي انقادت إلى مباني علم وعمل مناطها هذا الضرب المحدث من "الحقيقة" مرساها القائمَ خارجها وليست الإنسانويات الملحدة والجاحدة، على قول القاضي القاسي في المقالات اللاهوتية المجددة بأوروبا وبعض أميركا وبالهند، إلا ثمرة فك العروة والولاية بين الخليقة وبين مرجعها في الكون ومصدرها. فتحمل الرسالة البابوية "الأنظمة الكلِّيانية"، وجَرحَها البشرية جراحاً لا تبرأ، على "تمام العقلانية"" وهي العقلانية المكتفية بنفسها وبعللها، والمنقلبة إلى ديانة، والمُنزِلة الإيمان مَنزلة عطالة النفس والعقل عن الرشد والقدرة. وترتبت على فك العروة بين الخليقة وبين مصدرها وغيرِها "آفات" الحداثة التي ناهضها البابوات من أسلاف الحبر البولندي، ووسموها بالبدع، منذ فجر العصور الحديثة. وتقصر الرسالة نقدها وإنكارها ومطاعنها على تظاهرات الحداثة الإجتماعية والفكرية. فتطرح العلوم والطرائق العلمية من هذا النقد. لكن تركَ الفكر الفلسفي، والتفلسفِ عموماً، النظرَ في المصدر، والبناءَ على صدارته وتقدمه، إنما ابتداؤه الجهير والقوي كان علوم الطبيعة. وقضت الكنيسة يومذاك بتبديع صاحب علم الفلك غاليليه، وسوغت التبديع والإدانة بإخراج العالِم الإيطالي الأرض من مركز عالمَ الكواكب والأفلاك، والإنسان والخليقة مع الأرض. ورجعت الكنيسة الكاثوليكية في تبديع غاليليه، على نحو ما رجعت في تبديع داروين. وكان رجوعها المزدوج هذا في عهد يوحنا بولس الثاني نفسه، وفي السنتين الأخيرتين. أما الأصل الثاني للحداثة، وهو الفردية أو الذاتية، فخرج من إهاب الكنيسة نفسها، وكان ردَّ جواب "إصلاحياً" على تقليدها المتمادي، وترتيبها الناس، وإيمانهم وعقولهم، على مراتب ثابتة - إذا اقتصر التعليل على الوجه الإعتقادي -، وعلى إرسائها التقليد والترتيب على اتصال تعليمها، المعصوم، بمصدر الخلق. ولعل غلو بعض تيارات الفكر الفلسفي الأوروبي الحديث في "نقد" العلم، أو العقل المحض ومجردِّه، مرده إلى الهوة العظيمة التي جعلها الإصلاح البروتستانتي، اللوثري والكالفيني، بين الخليقة وبين الخلق. فإذا أُوكل إلى الإنسانية أمر نفسها، وتركت في مهب "نعمة" لا يسبر غور معناها، لم يؤمن ترك إنسانية هذه حالها وشأنَ نفسها، وهي على هي عليه من الضعف وتوهم الإقتدار. ولم تحمل بعض المجتمعات على طلب سطان جامح على نفسها، وهذا الطلب من مقدمات الكليانيات وشرائطها، إلا وهي تحسب نفسها متمكنة من علمها، ومن إرسائها عملها على علم صحيح وقوي. وتطلب الرسالة البابوية علماً مثل هذا العلم، ولو على ركن المكون وحقيقته، للفلسفة وللإنسانية المعاصرة معها. وتضع تحفظها الحيي على تنكب الإيمان العقل وانقلابه، جراء هذا التنكب، ترهات وتصديقاً محضاً. فتغفل عن مصير طلب علم متمكنٍ من حقيقة مصدره، ومن طرق غير طرق العقلانية والفردية والزمنية، تغفل عن مصيره المحتمل إلى ما صارت إليه الديانات الإنسانوية الجاحدة، على قول الأسقف اللاهوتي. وإغفال هذا الجواز معناه ربما أن دخول الكنيسة الكاثوليكية الحداثة ما زال، قرناً وثلث قرن بعد رسالة "سيلابوس"، من باب جانبي أو خلفي. * كاتب لبناني.