لا شيء في ليل بغداد يغري بالخروج فيما تدفع اصوات الانفجارات الليلية، وأحاديث المواجهات اليومية تعززها أصوات الأعيرة النارية، الأهالي إلى اختصار يومهم ليركنوا في بيوتهم، قبل ساعات حظر التجول المسائي الذي يبدأ منتصف كل ليلة وينتهي فجر اليوم التالي ماحياً صباحه اثار ما سمعوه في المساء. وتؤكد الشرطة ان نشاطها يتضاعف بعد حظر التجول، عبر تسيير مئات الدوريات، واقامة نقاط التفتيش في كل أحياء بغداد، وعلى المداخل الرئيسية لمحيطها لكن ذلك لا يمنع بعض العمليات ضدها. ويروي من تضطرهم عوارض طارئة لمغادرة المنزل في ساعات حظر التجول، مثل الذهاب إلى المستشفى، قصصاً متباينة تباين الاحياء التي ينتمون اليها. ويقول زياد الاعظمي، من الاعظمية شمال بغداد، ان قوات الجيش والقوات الاميركية هي الوحيدة التي تسيّر دوريات ليلية في حدود الاعظمية ولا تجرؤ في معظم الاحيان على دخول قلب المدينة الذي يحتله المسلحون. ويعتقد سكان الاعظمية، عموماً ان حظر التجول يبدأ في مدينتهم قبل ساعة او اثنتين من احياء بغداد الاخرى، بسبب اغلاق المنافذ المؤدية اليها في العاشرة مساء واحياناً قبل ذلك. ويفضل الاهالي التزام منازلهم قبل بدء مواجهات ليلية وانفجارات مجهولة لا يجدون لها اثراً في الصباح. ويرى محمد شامل ان الجماعات المسلحة كثيراً ما تلجأ إلى استهداف الدوريات الاميركية والعراقية لكن اثر تلك المواجهات يزال قبل بزوغ النهار. منطقة الدورة جنوببغداد هي الاخرى تشهد نشاطاً ملحوظاً للجماعات المسلحة، ليلاً، ويعتقد الاميركيون ان معظم الصواريخ وقذائف الهاون الموجهة إلى المنطقة الخضراء تنطلق من بساتين في الدورة. ويروي الاهالي عن انفجارات هائلة تحدث في هذا الوقت، لا يشار اليها في اليوم التالي، بسبب غياب التغطية الاعلامية ليلاً. وفي العامرية والغزالية والخضراء ذات الغالبية السنية روايات مماثلة. ويرى مطلعون على خفايا المشهد العراقي ان الجماعات المسلحة كانت تستغل ساعات المساء للقيام بعملياتها لكن غياب التغطية الاعلامية لتلك الهجمات والخسائر الناجمة عنها قلل كثيراً من اهميتها، ودفع المسلحين الى التركيز على الهجمات النهارية التي تحظى بتغطية اعلامية واسعة. وتبدو الصورة مختلفة تماماً في مناطق اخرى من بغداد، في مدينة الثورة الصدر شرقاً، ذات الغالبية الشيعية يلاحظ انتشار الحراسات الليلية ونقاط التفتيش ودوريات الشرطة، فيما يغيب إلى حد ما وجود القوات الاميركية والجيش العراقي. والحال نفسها تنطبق على مدن الشعب والكاظمية التي تشهد حركة للأهالي حتى منتصف الليل وبعد ذلك الوقت ايضاً. ويحاول اهالي بغداد تجنب الخروج في ساعات حظر التجول حتى لا يتحولوا إلى هدف لرصاص الدوريات الاميركية تحديداً. ويروي عبدالستار الزوبعي حادث مقتل احد اطفاله برصاص دورية اميركية، سارعت إلى فتح النار على سيارته المتوجهة إلى مستشفى اليرموك، وسط بغداد، قبل اسبوعين ويقول"لم يكن امامي حل سوى المجازفة بنقل طفلي ذي العامين إلى المستشفى بعد تفاقم حالته الصحية ووصوله إلى حافة الموت"ويضيف"كنت اصطحب زوجتي معي كي يشعر رجال الشرطة والجنود الاميركيون بالاطمئنان لخروجي الليلي. لكن ذلك لم يشفع لي عندما واجهتني دبابة متمركزة في شارع العمل الشعبي في العامرية واطلقت الرصاص على السيارة ما ادى إلى اصابة زوجتي وولدي المريض الذي وافاه الاجل قبل الوصول إلى المستشفى". وتفضل القوات الاميركية نقل مؤنها وقطعاتها عبر قوافل تتحرك بعد حظر التجول، وغالباً ما تعتبر اي عنصر بشري في هذه الاوقات"هدفاً متحركاً". وتغلق المحلات والمطاعم في الشوارع الرئيسية من بغداد أبوابها، في وقت مبكر، وعادة ما تصبح شوارع، مثل المنصور والجامعة وفلسطين والسعدون شبه مهجورة، ابتداء من التاسعة مساء فيما يستمر اصحاب المحلات في الشوارع الفرعية والتجمعات السكانية في عملهم حتى منتصف الليل. وتشير دراسة لمنظمة مستقلة لحقوق الانسان ان اكثر من 95 في المئة من الاهالي لا يعرفون ماذا يجري في بغداد بعد منتصف الليل، منذ اكثر من سنتين ونسبة تصل إلى 50 في المئة يفضلون عدم الخروج من منازلهم بعد الخامسة عصراً، لكن الأكيد في كل ذلك ان اهالي بغداد جميعاً يفتقدون إلى ليل مدينتهم المحبب بعد غياب يكمل شهره الثاني والثلاثين مع مطلع العام المقبل.