أثقل العام 2005على اللبنانيين كما لم يسبق لأي عام أن أثقل عليهم بأحداثه منذ انتهاء الحرب في العام 1990، والتي عانوا منها على مدى عقد ونصف العقد. لكنه استنفر فيهم حراكاً سياسياً نادراً ما شهده البلد الصغير في تاريخه الحديث، وأطلق مزيجاً من الآمال والأحزان والإنجازات والأزمات المتوالدة والانقسامات الحادة السياسية والطائفية، التي وضعتهم على خريطة الاهتمام الدولي، والتي ستبقى متحكمة بحياتهم خلال العام الطالع. ولدت أحداث العام المنصرم في لبنان من رحم زلزال ضرب الحياة السياسية المضطربة فيه باغتيال أبرز شخصية سياسية لبنانية منذ انتهاء الحرب، الرئيس الشهيد رفيق الحريري الذي كان رمزا للأمل عند أكثريتهم الساحقة، حتى عند بعض الذين كانوا على خصومة سياسية معه، بالقدرة على تجاوز تداعيات الحرب اللبنانية والنهوض بالاقتصاد والحياة السياسية. وشكل غياب"مالئ الدنيا وشاغل الناس"، الذي انعقدت له زعامة سنية نادرة ولبنانية واسعة عند اللبنانيين، صدمة ما بعدها صدمة،أمعنت ارتداداتها المتواصلة في صناعة الأحداث اللاحقة، وأبرزها الانسحاب السوري من لبنان بعد 28 سنة من وجود عسكري واستخباراتي كان تحول جزءاً من الحياة السياسية إلى حد إدارتها في شكل كامل خلال العقد الأخير. في 14 شباط فبراير، أشعر الانفجار الهائل الذي تسببت به متفجرات قدرت زنتها بنحو طن، والذي استهدف موكب الحريري بعد 5 دقائق على انطلاقه من ساحة النجمة يرافقه النائب باسل فليحان، حيث شارك بمناقشة قانون الانتخاب في البرلمان، اللبنانيين بأنهم استبيحوا، وأن لا مظلة فوق رأس أي منهم، وأن بلدهم مكشوف بالكامل. وكان منظر الحفرة التي أحدثها الانفجار يؤشر إلى أبعد من القتل: الإبادة بالمعنيين الجسدي والسياسي. فالرجل الذي أشعرهم في كثير من الأوقات بأنه"خارق القوة"وأنه يتمتع بأقصى الحمايات السياسية وأوسعها عربياً ودولياً وبأكثر الحمايات الأمنية دقة وتطوراً في تنقلاته وموكبه، ذهب إلى حتفه بعد أن تعاطى مع التحذيرات التي جاءته قبل أسبوع، وأسبوعين وثلاثة، عن شيء يدبر له بالقول لأصدقائه ولأفراد عائلته:"كبّر عقلك.لن يجرؤوا على فعلها."لكن كل ذلك لم يمنع انتقاله الى الدنيا الآخرة ومعه 19 شخصاً آخر بينهم 7 من مرافقيه. إلا أن التحذيرات له كانت تأتي في ظل الأجواء المحيطة بالوضع السياسي المتأزم الموروث من أواخر العام 2004. صعق أصدقاء الحريري في الخارج من الجريمة المروعة خصوصاً فرنسا والمملكة العربية السعودية والولاياتالمتحدة الأميركية وأوروبا، وطالب الرئيس جاك شيراك بتحقيق دولي لكشف القتلة فحذت الدول الأخرى حذوه. ودعت المعارضة اللبنانية التي اتهمت بعد خمس ساعات على الجريمة"النظام الأمني اللبناني السوري"بها، الى تحقيق دولي. فقادتها، يتقدمهم رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط الحليف الأقرب إلى الحريري، اعتبروا أن مقدمات الاغتيال كانت واضحة في ممارسات السلطة والمدعومة سورياً، ضد رئيس الحكومة السابق وأنها كانت كافية لتحديد هوية الجهة الفاعلة: إخراج الحريري من رئاسة الحكومة بعد اضطراره تحت التهديد للموافقة على التمديد للرئيس إميل لحود، سعي حكومة الرئيس عمر كرامي إلى وضع قانون للانتخابات، الهدف من إعادة توزيع الدوائر فيه تقليص قدرة الحريري على الإتيان بكتلة نيابية راجحة مع حلفائه، السعي إلى فرض مرشحين على لوائحه من حلفاء سورية رفضهم بدوره خلافاً للدورات الانتخابية السابقة، الحملات الإعلامية المتواصلة ضده واتهامه بالفساد والتسبب بالديون من حلفاء دمشقاللبنانيين ومن وسائل إعلام لبنانية وخصوصاً سورية، التضييق على محازبيه في العاصمة عبر القضاء الممسوك من السلطة ومن السوريين وكان آخر فصول هذا التضييق قد انتهى قبل ساعات من الاغتيال حين اتهم بعض معاونيه بتوزيع حصص من زيت الزيتون على المحتاجين، بالرشوة فأفرج عنهم من دون اتهام، وأخيراً لا آخر، اتهام الحريري بأنه وراء قرار مجلس الأمن الدولي الرقم 1559 الذي طالب سورية بالانسحاب من لبنان وهي التهمة نفسها التي وُجهت إلى الوزير مروان حمادة قبل محاولة اغتياله...الخ. كان الحريري وصل إلى قناعة حاسمة بأنه بات من المستحيل أن يُحكََم لبنان ويعالج مشاكله، في ظل استمرار دمشق في إدارة تفاصيل شؤون الحكم فيه على الشكل الذي خبره منذ العام 2000، وأخذ ينضم تدريجاً إلى قوى المعارضة التي تشكلت إثر التمديد للحود لقاء البريستول، كي لا يستفز دمشق ويزيد من استنفارها ضده قبل أشهر من الانتخابات المقررة في الربيع. لكنه لم يكن يخطط من أجل انسحاب سوري سريع كالذي حصل بعد غيابه. اقترنت الاتهامات الدولية التي وجهت إلى سورية بالإصرار على انسحابها السريع من لبنان، فيما توزعت مواقف معارضيها اللبنانيين بين الإلحاح على الانسحاب الكامل والدعوة إلى تطبيق اتفاق الطائف بانسحابها إلى البقاع كمرحلة أولى. ومع أن اغتيال الحريري أصاب اللبنانيين جميعاً بالذهول، فإن انقساماً حصل بين المعارضة وبين الموالين للحود ودمشق الذين كانوا تجمعوا في"لقاء عين التينة"آنذاك حول اتهام سورية، تماماً مثل الانقسام الحاصل الآن حول اتهام مسؤولين سوريين من قبل لجنة التحقيق الدولية في الجريمة. وبعد أن توزعت اتهاماتهم بين إسرائيل والتنظيمات الأصولية بالجريمة، اعترض الموالون على فكرة التحقيق الدولي ثم سلموا بها بعد أن وجدوا أن مجلس الأمن سيقرها لا محالة. لكن الأهم أن ارتدادات الزلزال أطلقت تسلسلاً للأحداث عجزت قوى محلية وحتى دولية عن التحكم ببعض مساره، وفاجأ قوى أخرى مع أنه جاء لمصلحتها. فقد تفجر الاحتقان الشعبي المتراكم على مدى سنوات ضد الممارسات السورية وسياسة الدولة اللبنانية، حالة تعبوية قلّ نظيرها على صعيد الشارع، أنتجت تظاهرات لم يشهد لبنان الذي يتميز على مدى العقود باحتضان هذا النوع من التحركات، مثلها:خرج مئات الآلاف لتشييع الحريري ورفاقه في 16 شباط، تحوّل ضريح الحريري منذ اليوم التالي إلى مزار للناس حيث تجمع الآلاف حوله وفي موقع الانفجار مطلقين أعنف الهتافات ضد سورية ولحود، في 21شباط تجمع زهاء مئة ألف من اعضاء المنظمات الشبابية في مسيرة نحو الضريح، في 28 شباط تحدى أكثر من 60 ألف متظاهر قرار الحكومة بمنع التظاهرالذي أعلنه وزير الداخلية سليمان فرنجية، في ساحة الشهداء، في حين كان نواب المعارضة يشنون هجوماً عنيفاً على حكومة كرامي فاضطر لإعلان استقالتها نتيجة الاتهامات لها بالتغطية على الجريمة خصوصاً من شقيقة الرئيس الشهيد بهية الحريري... ومن العوامل التي جعلت الحكومة تترنح، تلك الضجة التي قامت من آل الحريري وسائر القوى الحليفة لهم على التدابير التي اتخذت من الأجهزة الأمنية لإزالة معالم الجريمة في موقع الانفجار، تحت ناظرها. كان المناخ الذي عاشه بعض كبار المسؤولين أن الحزن سيدوم 3 أيام، تعود بعدها الحياة إلى طبيعتها. وكان أركان الموالاة يراهنون على إمكان ضبط تحرك الشارع بالوسائل السياسية والأمنية فكانت محاولات إلغاء لبعض التحركات بالتخويف الذي لم ينجح وبافتعال تظاهرات مضادة فشلت. لكن احتقاناً شعبياً مقابلاً كان تصاعد في الوقت نفسه، بالتلازم مع ضغوط دولية وعربية متصاعدة على سورية كي تنسحب من لبنان. فالغالبية في الطائفة الشيعية رفضت الاتهامات الموجهة إلى سورية والحملة المطالبة بانسحابها. وبعد زيارة قام بها الرئيس السوري بشار الأسد الى المملكة العربية السعودية، اضطر في 5 آذارمارس للإعلان عن قرار الانسحاب من لبنان تنفيذاً للقرار 1559 وليس استناداً إلى اتفاق الطائف. لكنه أكد أن الانسحاب لا ينهي دور سورية في لبنان لأنه يستند إلى التاريخ والجغرافيا وصلات القربى... وفي 8 آذار تظاهر أكثر من 400 ألف بدعوة من"حزب الله"والأحزاب الحليفة لسورية غالبيتهم الساحقة من الشيعة، رافعين شعارات التأييد والشكر لها، ضد التدخل الأجنبي. وعلى وقع بدء الانسحابات السورية، تجمع في 14 آذار أكثر من مليون شخص بدعوة من المعارضة لقاء البريستول في أكبر تظاهرة شهدها لبنان وأدهشت العالم كما قال غير مسؤول دولي، إذ ضمت أكبر التجمعات الشعبية في الطوائف المسيحية والسنة والدروز. وفوجىء منظمو التجمع الشعبي بحجمه مثلما شكل صدمة للموالين ولدمشق، وسبب الإعجاب الدولي فأطلقت العواصم الغربية عليه شتى الأوصاف مثل ثورة الأرز، والتشبيهات بثورة أوكرانيا. وفيما كانت الحملة الإعلامية لحلفاء دمشق والسلطة على المعارضين بانهم ينفذون رغبات أميركا، منذ صدور القرار 1559، وبأنهم يشكلون غطاء للتدويل وصولاً إلى وصف بعضهم بأنهم "عملاء لإسرائيل"، كانت الولاياتالمتحدة تحديداً ترفع درجة اهتمامها بالوضع اللبناني تحت شعار إحراز تقدم في المنطقة لخطتها من أجل نشر الديموقراطية في الشرق الأوسط. فقد كانت واشنطن تستفيد إعلامياً من تصاعد ثورة شعبية لا دور لها فيها سوى تأييدها بالتصريحات والبيانات للتغطية على عثرات وعود"الدمقرطة"في العراق من دون أن يكلفها ذلك لا حرباً ولا مالاً ولا دماء، فدوافع أكثرية اللبنانيين للنزول إلى الشارع على الشكل الذي حصل، كانت أقوى من كل الإمكانات التي استخدمتها واشنطن في بلاد الرافدين. ولذلك أعمت الاتهامات للمعارضين بالعمالة والسعي نحو التدويل، بصيرة الموالين للحكم الذي كان يقوده ضباط الاستخبارات ودمشق، عن رؤية الانقلاب الهائل في الشارع اللبناني رداً على ما ترمز إليه جريمة الاغتيال بالنسبة إليه، كانقلاب بالوسائل الأمنية على التطورات الحاصلة في الموقف اللبناني والذي كان سيتجسد في الانتخابات النيابية الآتية. بدا أن تظاهرة 14 آذار أحدثت"توازناً"مع النفوذ السوري في السلطة، فطفت على السطح محاولات لترجمتها تحولاً في الحياة السياسية. فبين هذا التاريخ وبين تاريخ اكتمال الانسحاب السوري العسكري من لبنان في 26 نيسان ابريل، طرحت مجموعة من التوجهات، مع ترؤس نجيب ميقاتي حكومة انتقالية إثر عجز الرئيس كرامي عن تشكيلها بسبب القيود التي وضعها حلفاؤه عليه: - طرح جنبلاط فكرة رحيل الرئيس لحود وانتخاب رئيس جديد من البرلمان القائم حينها،الموالية أكثريته لسورية، فيكون ذلك نوعاً من التسوية مع دمشق بعد خروجها المدوي من لبنان. لكن الفكرة رفضت من دمشق ومن قيادات مسيحية. وفيما طرحت دمشق عبر حلفائها تأجيل الانتخابات النيابية سنتين ثم سنة ثم ستة أشهر، كانت أولوية المجتمع الدولي والمعارضة إجراءها مهما كلف لأنه يفترض ملء الفراغ الذي تركته الإدارة السورية في الوضع الداخلي وعدم القبول باستمراره لأنه يكرس نظرية عدم قدرة اللبنانيين على حكم أنفسهم بأنفسهم. وهذا ما قاد إلى تسوية بين النائب سعد الحريري الذي كانت العائلة بايعته لحمل الراية، وجنبلاط من جهة وبين حركة"أمل" و"حزب الله"من جهة ثانية على إجراء الانتخابات في موعدها وعلى رفض البند المتعلق بنزع سلاح المقاومة في القرار الدولي من قوى مسيحية حليفة للحريري وجنبلاط وإخضاع هذا البند للحوار الداخلي. وهذا ما أنتج"التحالف الرباعي"الذي ترجم في دوائر عدة في الانتخابات النيابية استناداً إلى قانون العام 2000 الذي لقي معارضة مسيحية لأنه يسمح للقوتين الشيعيتين الرئيستين بالسيطرة على الجنوب وجزء من البقاع. - تشكلت لجنة التحقيق الدولية في الجريمة في مجلس الأمن على رغم محاولات عرقلتها من بعض حلفاء دمشق في السلطة. - عاد العماد ميشال عون إلى بيروت مضيفاً جديداً إلى التعديلات في ميزان القوى الداخلي لكنه سرعان ما اختلف مع"قوى 14 آذار"وشكل لوائحه المستقلة عنها محققاً فوزاً غير منتظر من مناوئيه، ومتحالفاً مع بعض رموز المرحلة السورية السابقة. - كرّست الانتخابات التغيير في موازين القوى الداخلية لمصلحة المعارضة بأكثرية 72 صوتاً فيما تقاسم العماد عون 21 والتحالف الشيعي 32 الباقي. فتشكلت الحكومة الجديدة من الأكثرية بالتحالف مع"أمل"وپ"حزب الله". وأولى خطواتها كان اخراج قائد"القوات اللبنانية"سمير جعجع من السجن. لم تكد المعادلة الداخلية تستقر على هذه التحالفات حتى واجهت تعقيدات لا حصر لها أهمها: - الاضطراب المفزع في الوضع الأمني الذي كان بدأ بتفجيرات في أماكن تجارية وصناعية في المناطق المسيحية، قبل الانتخابات، واستمر أثناءها وبعدها بالاغتيالات: الزميل سمير قصير والأمين العام السابق للحزب الشيوعي جورج حاوي اللذان لعبا دوراً في الانتفاضة الشعبية، ثم جاءت محاولتا اغتيال وزير الدفاع الياس المر تحدث بعدها عن تلقيه تهديدات من الأمن السوري والزميلة مي شدياق إلى أن اغتيل الزميل جبران تويني في ظل خوف معظم الرموز والأقطاب اللبنانيين من استهدافهم إلى درجة بقاء بعضهم في الخارج الحريري. وتطور التحقيق في اغتيال الحريري باتجاه إعلان رئيس لجنة التحقيق ديتليف ميليس أن"ضباطاً سوريين متورطون"في الجريمة"أمام مجلس الأمن الدولي. وهو تطور سبقه ولحقه شد حبال وتبادل للضغوط بين المجتمع الدولي وسورية استدعى صدور قرارين جديدين عن مجلس الأمن 1636 و1644 يتناولان سورية وتعاونها تحديداً. وتطورات التحقيق أخذت تتحكم بالأوضاع الداخلية اللبنانية الحكومية وبالتحالفات، بدليل تعليق وزراء"أمل"و"حزب الله"عضوية وزرائهما في الحكومة على خلفية رفض الضغط الدولي على سورية عبر التحقيق. وعنوان هذا الرفض في أوساط حلفاء دمشق هو طرح السؤال عما إذا كان من المجدي الذهاب حتى النهاية في معرفة"الحقيقة"إذا كان ثمنها تهديد الوضع داخل سورية وتدهور العلاقات بينها وبين لبنان، وفي البلد الصغير أيضاً. بدأ العام باغتيال الحريري لكن تداعياته بقيت تتحكم بنهايته ولن تتوقف مع العام الجديد، في ظل دخول عوامل جديدة على المشهد الإقليمي المتحرك أهمها التأييد الإيراني الحاسم لدمشق في مواجهة الضغوط عليها في مقابل الرعاية الدولية - السعودية - المصرية للوضع اللبناني الجديد.