ظلت"الفلوجة"في قلب الحدث العراقي طوال عام مضى، وتصدرت الاهتمام مرة حين خاضت اكبر معارك المواجهة مع القوات الأميركية وقاطعت ومن خلفها العرب السنة انتخابات بداية العام، ومرة اخرى عندما تقدمت المدن السنية المتمردة إلى خوض انتخابات نهاية العام بحماسة اثارت الدهشة بقدر ما فجرت من تساؤلات.. ماذا حدث في تلك المدينة التي اعترفت القوات الاميركية بأنها استخدمت اسلحة محرمة لقتال المسلحين فيها؟ وأين ذهب انصار الأردني"أبي مصعب الزرقاوي"الذين شيدوا في منازلها اقبية تعذيب واختطاف ومتاريس ومصانع تفخيخ؟ هل استقرت الفلوجة باستبدال القوات الاميركية بالمسلحين؟ ام ان الحماسة تعكس رغبة الناس بالخلاص من حصار خانق ما عاد في امكانهم مقاومته بشعارات انصار"الزرقاوي"؟ رماد المعركة في كانون الثاني يناير من هذا العام كان العراقيون مشغولين بالحملات الانتخابية للاحزاب والكتل السياسية الشيعية والعلمانية والكردية التي اختارت المضي في مواعيد العملية السياسية العراقية بحسب قرارات مجلس الامن ذات الصلة، على رغم مقاطعة العرب السنة للانتخابات مؤكدين يومها ان"من العبث الحديث عن انتخابات سياسية والفلوجة لم يزل جرحها ينزف". وبصرف النظر عن مدى واقعية هذا الطرح فان اهالي الفلوجة الذين تقاطروا إلى مدينتهم منذ النصف الثاني من كانون الثاني لم يكونوا معنيين بما يجرى على الخط السياسي. كانت لهفتهم للبحث عما تبقى من ابنائهم ومنازلهم لا تفوقها لهفة اخرى... لكن الفلوجة بعد المعركة، كما يقول محمد العيساوي احد العائدين اليها،"كانت اطلال مدينة عرفتها ذات يوم هدمت منازلها وشوارعها.. وحتى بساتين النخيل". ويؤكد حاكم الفلوجة قائد قوات حفظ الأمن والنظام اللواء مهدي صبيح ان"قواته التي أنيطت بها مهمة ضمان امن الفلوجة بعد نهاية المعارك دخلت إلى المدينة وكانت اشبه بالارض الحرام". ويضيف:"فوجئت مع دخولي الفلوجة التي اعرفها سابقاً، باعتباري قائداً في الجيش العراقي السابق، بمستوى التدمير الذي طاولها، والواقع احسست بثقل المهمة الملقاة على عاتقي في ان اكون مسؤولاً عن توفير الأمن وتنظيم الأوضاع واستقبال العائلات العائدة". الجنود العراقيون الذين لم يشاركوا في المعركة فوجئوا بدورهم بمستوى الخراب الذي حل بالمدينة. ويقول ضابط في قوات اللواء صبيح التي حكمت الفلوجة لأشهر:"كان الخط الفاصل بين ان اكون جندياً احارب الارهابيين او اكون احد الارهابيين قد تلاشى عندي في لحظات دخولي إلى المدينة في شهر شباط فبراير من هذا العام... فصورة العائلات التي نصبت خياماً امام منازلها المهدمة في حي النزال وحي الضباط وغيرها من الاحياء كان كفيلاً ان يربكني ويزعزع قناعاتي، كنت أسأل باستمرار هل حقاً كان الارهابيون هنا؟". من رفع السلاح؟ ماذا حصل مع الاهالي خلال المعركة؟ يروي الشيخ مزاحم، احد الوجهاء في الفلوجة، بعض الحقائق عما جرى في تلك الايام العصيبة التي سبقت المعركة:"لا اريد ان ابتعد عن الواقع فأدعي ان الفلوجة لم يكن يسيطر على مقدراتها، بطريقة او بأخرى، ارهابيون عرب وتكفيريون ومتورطون بأعمال خطف وقتل، لكن حدود سلطة هؤلاء لم تكن كبيرة كما قد يتصور البعض. صوتهم كان مرتفعاً بفعل الشعارات الحماسية التي رفعوها بشأن تفسيرهم لكيفية"جهاد المحتل"فانضمت إليهم مجموعة كبيرة من شباب الفلوجة الذين لا يمكن اعتبارهم من الارهابيين وانما ضمن المغرر بهم من قبل هؤلاء". ويضيف:"قائد الفلوجة الفعلي طوال مرحلة ما بعد الاحتلال في 2003 كان الشيخ عبد الله الجنابي - وهو رجل دين وامام جامع من اهالي المدينة، ولم تكن له قبل الحرب اي نشاطات او اتصالات سياسية. لكن ثقة الناس به اجبرته على تسلم زمام الأمور بعد معركة الفلوجة الأولى التي كان خلالها في المعتقل الاميركي واطلق سراحه حينها ليتمكن من ابرام اتفاق وقف اطلاق النار مع القوات الاميركية ليقود منذ ذلك الحين شؤون المدينة ويؤسس مجلس شورى محلياً لادارتها، تطور لاحقاً ليصبح اسمه"مجلس شورى المجاهدين". ومن الاسرار التي لم تكشف عن هذا الرجل انه كان بالفعل بعيداً عن تنظيم"القاعدة"وان كان ممثلون عن الزرقاوي بايعوه بعد معركة الفلوجة الأولى ليكون قاضياً شرعياً للبت في امور عملياتهم العسكرية، واختلف معهم في قضية استهداف مدنيين او خطف ابرياء، وحصلت قطيعة بين الطرفيين قبيل معركة الفلوجة الثانية اواخر عام 2004 شكل على اثرها ما عرف بپ"جيش مجاهدي الفلوجة"الذي كان بعيداً كل البعد عن جماعة الزرقاوي المتواجدة ايضاً في المدينة. ويؤكد مقربون من الجنابي في تلك المرحلة ان"تصاعد نبرة التهديدات الاميركة اضطرت الاخير إلى عقد اتفاقات للدفاع عن الفلوجة مع جهات عدة بينها الجيش الاسلامي الذي كان نطاق عمله حينها خارج الفلوجة وكتائب ثورة العشرين وايضاً مع جماعة التوحيد والجهاد التي يقودها الزرقاوي". ويضيف هؤلاء:"خلال المعركة انضم آلاف الشباب الى صفوف الجنابي من داخل الفلوجة وخارجها وكان البحث عن منفذ سياسي لتجاوز الازمة قد اصبح ضرباً من الخيال بسبب غلبة جماعة الزرقاوي، الى ان اندلعت المعركة التي شهدت ايامها الأولى انسحاب جماعة التوحيد والجهاد إلى الرمادي عبر نهر الفرات". وتقول المصادر عينها ان المراحل الأخيرة للمعركة كانت تدور بين مقاتلين بعيدين تماماً عن تنظيم الزرقاوي معظمهم من الاهالي ضد القوات الاميركية، وان عبدالله الجنابي اصيب خلال القصف ونقل إلى مكان مجهول، ولا يعرف اهالي الفلوجة منذ ذلك الحين ان كان حياً ام ميتاً. الخريف الطويل عندما عاد الاهالي لم يكن هناك أثر لأي وجود مسلح غير القوات الاميركية والعراقية ومزيد من الخراب. بعض العائدين ممن لم يجدوا منازل لهم غادروا المدينة مرة اخرى على أمل العودة بعد حين، فيما اعتقل مئات الشباب خلال المعركة وبعدها، فلم يكن امام عائلاتهم سوى طرق ابواب الاقارب في المدن الأخرى للسكن. اكثر الاهالي عادوا إلى المدينة بين شهري نيسان ابريل وحزيران يونيو اي بعد اشهر عدة من نهاية المعركة خصوصاً حين أعلنت القوات الاميركية عزمها على تعويض المتضررين وشرعت بالفعل بدفع منح تعويضية لم تكتمل حتى الآن، فيما شرعت فرق فنية في الجيش الاميركي في محاولة اصلاح خطوط الكهرباء وشبكة الماء وتأهيل الشوارع. وحينما تسأل ان كانت المنح هي دافع الاهالي لترك السلاح والاتجاه بقوة إلى العملية السياسية، تكون الاجابة بالنفي وان كان احدهم يقول من دون ان يفصح عن هويته:"ان تخلص المدينة من سيطرة المسلحين كان دافعاً مهماً للتحول إلى المشاركة في العملية السياسية". ويضيف:"اي ميليشيا مسلحة مهما كانت صادقة في شعاراتها سرعان ما تتطور إلى حالة قمع للأهالي، وقد ارتكب المسلحون الكثير من الاخطاء وضغطوا على الناس في التبرع لمصلحة الجهاد بل اعتبروا من لا ينضم اليهم من الشباب"مرتدين"اضافة إلى تطبيقهم القوانين الشرعية في حكم المدينة التي كانت تتجه لتصبح كابول اخرى". لكن عبدالله الفلوجي، الذي عايش الاحداث ولم يترك المدينة حتى اثناء المعركة، يحاول تفسير ما حدث بالقول ان"غياب الواجهات الدينية والمسلحة التي تسببت بطريقة او اخرى باجتياح المدينة كان كفيلاً بان يتصدى لخطب الجمعة والقيادة خط ثان من الاسلاميين المعتدلين بينهم حمزة العيساوي الذي اغتيل قبل ايام من الانتخابات وهو أثر طوال الأشهر السابقة في تغيير القناعات العامة للناس باتجاه القبول بالنشاط السياسي وخوض الانتخابات بدل المواجهة المسلحة، وساعده على ذلك احباط عام بين الأهالي من النتائج التي نتجت عن حمل السلاح". ويضيف:"في المقابل كان لانسحاب المجموعات المتطرفة من المدينة في بداية المعركة اثره في انحسار التأييد لها مقابل تصاعد وتيرة التأييد لمجموعات اقل تطرفاً ابدت استعدادها لدعم مشاركة السنة في الاستفتاء على الدستور في منتصف تشرين الاول اكتوبر ثم في انتخابات كانون الاول ديسمبر لكن البحث في اسباب المشاركة الواسعة في الانتخابات يتطلب ايضاً محاولة الاقتراب من مشاعر اهالي الفلوجة الذين وجدوا انفسهم يدفعون ضريبة التصعيد ويفقدون ابناءهم في المعتقلات او تحت انقاض المنازل المهدمة، فلم يعد امامهم سوى محاولة الحفاظ على المتبقي من قوة ومال وابناء مؤكدين انهم دفعوا ما عليهم ولم يتبق في الكيس ما يدفع!". وكان لاغتيال حمزة العيساوي، مفتي الأنبار، الذي كان من اشد الداعين إلى مشاركة الانبار في الانتخابات اثره في حض الناس على تحدي قاتلي العيساوي والاصرار على المشاركة املاً بتغيير قد يطرأ على واقعهم بعد وعود بان حكومة السنوات الاربع المقبلة ستكون اكثر استقراراً وسيتم تمثيل السنة فيها بطريقة تحمي أهالي الانبار من القوات الاميركية والمسلحين المتطرفين على حد سواء، مع تصاعد نبرة جدولة الانسحاب الاميركي وتأكيد القوى السياسية السنية ان اعادة ضباط الجيش والأجهزة السابقة إلى مناصبهم سيكون في مقدم اولوياتها. مع ملاحظة ان الفلوجة من بين اكثر المدن العراقية التي تضم ضباطاً سابقين في الجيش والأجهزة الامنية. ذاكرة الفلوجة ذاكرة هذه المدينة التي شغلت العالم طوال مرحلة ما بعد الاحتلال تحمل بالتأكيد الكثير من الاسرار والوقائع التي ستكشف تباعاً لتسلط الضوء على اسئلة ظلت معلقة طوال العام الماضي:"لماذا استخدمت القوات الاميركية الفوسفور الأبيض في معركة الفلوجة؟ وهل كانت عاجزة عن مواجهة قوة المسلحين هناك؟ هل حل الزرقاوي في الفلوجة حقاً ليجعلها مركزاً لعملياته قبيل المعركة؟ ما هو مصير عبدالله الجنابي الذي وضعت القوات الاميركية مكافأة قدرها عشرة ملايين دولار مقابل رأسه؟ هل مات حقاً ام انه يسير الامور هناك من مكان مجهول؟ وهل كان الجنابي احد اتباع الزرقاوي حقاً ام اختلف معه بالفعل؟ ومن قتل الشيخ حمزة العيساوي الذي كان يحث على المشاركة في الانتخابات؟ جماعة الزرقاوي كما يؤكد بعض الاهالي ام الجيش العراقي كما يرى بيان وقع عليه تنظيم قاعدة الجهاد؟". وبصرف النظر عن الاجوبة يظل السؤال ان كانت مشاركة الفلوجة الواسعة في الانتخابات بوابة لتطبيع الاوضاع في الانبار ومختلف المدن المتمردة، ام ان المسلحين سرعان ما يعودون إلى مواقعهم حال انسحاب القوات الاميركية والعراقية من المدينة ليطبقوا احكامهم الشرعية؟ اليوم وبعد نهاية الانتخابات لا يمكن ان تلمح أحداً من أهالي الفلوجة من دون أثر لحبر الانتخابات في سبابته اليمنى على رغم ان آثاراً اخرى للضغط على زناد البنادق يمكن ان يظهر ايضاً.