فاجأ جونيشيرو كويزومي جيرانه الآسيويين، فضلاً عن ديموقراطيي بلده حين قام، قبل نحو أسبوعين، بزيارة معبد ياسوكوني. صحيح أنها لم تكن زيارته الأولى، فهي الخامسة منذ تولّي رئيس الحكومة اليابانية رئاسة الحكومة. لكن مبعث المفاجأة حصولها بعد حملة انتخابية في أيلول سبتمبر الماضي خاضها بشعار"الإصلاح"وبرنامج يدعو، رغم غموضه وتعميمه، الى التحديث والتجذير الديموقراطي. فهو ما أن تحقق له ولحزبه"الديموقراطي الليبرالي"الفوز الكاسح حتى أدى فريضة الزيارة المتلفزة لذاك المعبد والمتحف الملحق به وسط طوكيو. وياسوكوني نُصب لتكريم المليونين ونصف المليون من اليابانيين الذين قضوا في الحرب العالمية الثانية. بل هو، عند عتاة القومية والتعلق بالماضي الامبراطوري، نُصُب لتقديسهم. وبين المكرّمين والمقدّسين أؤلئك 14 جنرالاً ينتمون الى الزمرة"أ"من فئات مجرمي الحرب، حوكموا وأُعدموا بعد هزيمة اليابان. والمذكورون هم من سبق أن أشرفوا على فظاعات حفلت بها العقود الأولى من القرن العشرين، قبل أن تتوّجها الحرب، وقد نزلت تباعاً بصينيين، بمن فيهم التايوانيون، وبسنغافوريين، وبكوريين في الشمال كما في الجنوب. وللسبب هذا كانت زيارات كويزومي للمعبد تخلّف دائما، لدى الشعوب المذكورة،ً مرارة واستياء، وتثير الرأي العام الديموقراطي في اليابان الذي يطالب بالاعتذار عن الماضي بدل تبجيله، ويرى في اعتذار كهذا شرطاً شارطاً لتطوير الديموقراطية اليابانية. وكان ما ضاعف استهجان آخر الزيارات أن المحكمة العليا سبق لها أن أصدرت حكماً ينفي عنها الصفة الدستورية ولا يصنّفها واجباً وطنياً. وقد ظهر، بالمناسبة، من تذكّر رونالد ريغان حين زار، في 1985، برفقة المستشار الألماني يومها هيلمت كول، مقبرة بيتبورغ لتكريم ضحايا الحرب الألمان، علماً أن بينهم 49 من جنود"الصاعقة"النازية! وإبان حملته الانتخابية، جعل كويزومي تعبير"إصلاح"الكلمة الخامسة بعد كل أربع كلمات يتفوّه بها. بيد أنه صوّر انتصاره انتصاراً ل"محارب من الساموراي"، مؤثراً إرضاء الجناح اليميني القومي في حزبه والذي، من دون تحجيمه، يبقى كل تحديث وإصلاح معاقاً. ولا شك، بادىء بدء، في الحاجة اليابانية الى التغيير. فمنذ 15 سنة انضم الركود الاقتصادي لبلد يبلغ حجم اقتصاده 5 تريليون دولار، الى السياسات التي أرساها"الحزب الديموقراطي الليبرالي"الحاكم منذ 1946، والذي لم ينقطع حكمه المتواصل إلا أشهراً من العام 1993. ومؤدى السياسات تلك تعدد الكتل الممسكة بالحزب، والمسبّبة لعجزه كجسم سياسي تنظيمي، والشالّة صناعة القرار، في مقابل تعزيز القيم الأبرشية والزبونية مما ينؤ بالفساد على صدر البلد في تطوره الديموقراطي والرأسمالي. والاستياء الواسع من الاقتصاد، ومن السياسات، هو ما رآه المراقبون وراء ارتفاع نسبة التصويت يوم 11 أيلول الماضي، حيث بلغت 67 في المئة، أي بزيادة 7 في المئة عما كانته في انتخابات 2003. فاليابان، التي تئن تحت وطأة أسوأ العجوزات المالية في البلدان الصناعية تشهد، حسب مارغاريتا إستفز-أي، أستاذة السياسة في جامعة هارفارد، درجة غير مسبوقة في التقادُم الديموغرافي. ففي 2025، ستكون قرابة ثلث السكان فوق ال65 عاماً. ويلاحظ الكاتب الياباني نوريكو هاما انخلاعات ثلاثة كبرى تعصف ببلد ال120 مليوناً والاقتصاد الثاني حجماً في العالم: بين البيزنس الصغير والبيزنس الكبير، وبين الريف والمدينة، وبين الغنى والفقر. فما كان مألوفاً في دوائر المال والأعمال أن ما يفيد كبيرها ينعكس تلقائياً على صغيرها. ذاك أن الطبيعة العمودية المتلاحمة التي تربط بين الشركات ضمنت وحدة المصلحة ووحدة المصير. والقاعدة هذه هي ما بدأت العولمة تتحداه. فقد تعولم البيزنس الكبير، ليس فقط لناحية انخراطه في الأسواق، بل أيضاً في أدائه وتجهيزاته وتعاقداته. وهو ما عنى أن المزوّدين التقليديين للسلع والخدمات الفرعية، والمتعاقدين الفرعيين التقليديين كذلك، جعلوا يواجهون أوضاعاً سيئة ينفردون بها. وأصاب انفصال مشابهٌ الريفَ والمدينة، حيث تزدهر العاصمة وتتراجع الأطراف. أما المسألة الاجتماعية فشرع تفاقُمُها يجد الدليل عليه في ازدهار الكتب التي تتناول التفاوت، وتحتل في المكتبات موقعها ضمن"الأكثر مبيعاً". ويرى هاما أن اليابانيين صاروا، على حين غرّة، يريدون أن يعرفوا من هم الأغنياء، ولماذا الفقراء فقراء، وأي الآمال متاحة للمهزومين. إلا أن الحس العدالي هذا، والمتأدي عن استطالة الركود يكسر، من ناحية أخرى، الانسجام التقليدي الذي اشتهر به المجتمع الياباني، مطلقاً حساً تنافسياً وتعددياً غير مسبوق، خصوصاً أن العولمة تؤجّجه وتسوقه بعيداً عن الاحتمالات العدالية التي يفتح كوّتها. وعلى تضارب معاني"الإصلاح"و"التحديث"و"التغيير"، بقي أن كويزومي كان من استولى على الرغبات المتفاوتة والغامضة هذه. فعلى رغم مضي اكثر من أربع سنوات عليه في رئاسة الحكومة، ورغم أنه سوف يتقاعد بعد عام، ضمن لحزبه 296 مقعداً من أصل 460 في"الدايت"البرلمان، وكان قبلاً يحظى ب249 فقط. أما الحزب المعارض الرئيسي،"الحزب الديموقراطي لليابان"، فنال 113 مقعداً وكان يحظى ب175 في البرلمان السابق، وقد سقطت قيادته وحل محلها وجه يقود جناحه اليميني ويقلّد، تبعاً لتقارير الصحافة الغربية، كويزومي وتوني بلير. لكن كتّاب التقارير أنفسهم أشاروا مراراً الى الدراما التي يضفيها رئيس الحكومة على حملاته وإكثاره الاستعانة بالصورة والتلفزيون مما لم يكن واسع الاستخدام في السياسة اليابانية. وهو، الى هذا، صاغ أهدافه في عبارات قصيرة لاقطة، فأضاف براعة التسويق الى تركيبة حزبه بوصفه الحزب المديني والعولمي في آن. وقد أفاده، في هذا، أن معركته ضد الدولة الكبيرة وتقديماتها مع أنها متواضعة في اليابان قياساً بألمانيا مثلاً غدت أقرب الترجمات المعتمَدة لمعاني"الإصلاح"و"التحديث". هكذا أضاف كويزومي الى رئاسته الحكومة معارضتَه بعض ما يضرب عميقاً في التربة الأبوية اليابانية. وبذا تُركت المعارضة، كما حال"المحافظين"البريطانيين، خالية الوفاض أفكاراً وديناميةً، تلهث يائسةً وراء ما يطرحه. وعاد الموقع المركزي في برنامج كويزومي الى خطته لخصخصة النظام البريدي الضخم في 2017، هو الذي يُعدّ أكبر مصرف وشبكة مالية في العالم. وقد شبّه بعض المراقبين خصخصة البريد بما أقدم عليه توني بلير حين أسقط"الفقرة 4"الشهيرة من دستور"حزب العمال"البريطاني، والتي قضت بالتزام الملكية العامة لوسائل الانتاج الصناعي. فقدّمته الخطوة المذكورة، بالتالي، بوصفه رئيس الحكومة الياباني الأهم والأشجع منذ ياسوهيرو ناكاسوني في الثمانينات، فضلاً عن الأوصاف الاحتفالية التي حفّّت بمردود خطته على القطاع الخاص وتحريك الاقتصاد. لكن كويزومي أعمل مبضعه في حزبه أيضاً. ذاك أن معارضي خصخصة البريد لم يجدوا مكاناً لهم على لوائح الترشيح، وحل محل كثيرين منهم نساء سُمّين"شيكاكو"، أي"القاتلات"، بعضهن اعلاميات تلفزيونيات، وبعضهن ديبلوماسيات أو مهنيات معروفات. وعموماً، كنّ وجوهاً جذابة تعني الجمهور وتخاطبه، مكمّلةً تعويل كويزومي على"الصورة"و"الجديد". بيد أن الأمر أكثر من"صورة": فحلول نساء في الصدارة السياسية محل رجال، أقطاب ومشاهير، ذو أثر مزلزل على التقاليد الذكرية الراسخة في اليابان. وبالفعل، زاد عدد النساء المنتخبات ل"الدايت"الى 43، وهو أعلى ما نالته المرأة منذ أن منحها دستور ماك أرثر، في 1946، حق التصويت. وقد أطيح بعض كهول الحزب وباروناته فتباهى كويزومي بأن حزبه القديم"دُمّر"، وان حزباً جديداً"يظهر". كذلك، ضرب الجناح الحمائي داخله، بمنع ممثليه من الترشح وإفساح المجال لأسماء جديدة تظهر للمرة الأولى، تجاوز مجموعُ أصحابها ربعَ نواب الحزب. ولئن افتقر رؤساء الحكومات السابقون الى السيطرة على عملية الترشح والترشيح الحزبية، ولم يعدُ رئيس الحكومة كونه قائداً عارضاً ينتزع سلطته من تفويض الكتل الحزبية المتضاربة، فهذا ما أنهاه أيضاً كويزومي. ففي الانتخابات الأخيرة استقل حزبه عن لوبيّاته، مقلّصاً ارتباطه بصناعة البناء التي عُرف كبارها بالفساد، ومضعفاً قدرة اللوبي الزراعي على التدخل في انتخابات الأرياف. وفي محاكاة منه لبلير الذي جعل حزبه"جديداً"هو الآخر، وحّد الديموقراطيين الليبراليين جدياً للمرة الأولى، وهُمّش أجنحتهم البيروقراطية المتنافسة، بحيث بات نقاده يغمزون من إرسائه، كيما يحاصر الفساد وينعش الاقتصاد، نظاماً"رئاسياً". مع هذا، وكما سبق القول، جاءت مغازلة قوميي الحزب وتكرار زيارة النصب، تشي بوجهة أخرى. والحال أن الاشارات تتكاثر الى أن كويزومي ينوي مراجعة"المادة 9"، وهي"العبارة السلمية"في الدستور التي حرّمت على اليابان نشر قوات عسكرية، لأغراض سياسية، في الخارج. ويتردد الآن أن التعديل المنويّ جزء من إعادة تعريف للدور الياباني في العالم، لا سيما في زمن الصعود الصيني على المستويات جميعاً. فيريد كويزومي، من ثم، إسباغ الشرعية على إنشاء"قوات دفاع ذاتي"تكون"جيشاً"قابلاً للنشر خارج الحدود الوطنية. وتستطيع اليابان، بهذا، أن تلعب دوراً أنشط وأكبر في الاستراتيجية الأمنية الأميركية على نطاق كوني. وفي مجمله، يتصل الأمر بالاحتقان الذي تأدى عن صدّ محاولة طوكيو، مطلع العام الجاري، الحصول على مقعد دائم في الأممالمتحدة، ما قد يحث كاويزومي، حسب توقع أندرو ستيفنز، على خفض نسبة المساهمة في المؤسسة الدولية والمساعدات الخارجية. ولئن لعبت الصين دوراً بارزاً في إحباط المحاولة اليابانية، بقي أن زيارة ياسوكوني الأخيرة جعلت كل سيء أسوأ. فهي أثّرت سلباً على علاقات طوكيو بكوريا وباقي الجيران، فضلاً عن الصينيين، قبل أن يهدأ التوتر الذي استجرّته الكتب المدرسية اليابانية، وإبّان الإلحاح على تضافر الجهد الآسيوي للجم الجموح الكوري الشمالي المقلق. وقد يتعطّل، من جراء التطورات هذه، مؤتمر أمن آسيا الشرقية الذي يُفترض انعقاده في كانون الأول ديسمبر في كوالا لامبور، ما يجمّد حل مشكلات جدية كالخلاف حول حقول الغاز الطبيعي المتنازع عليها بين طوكيووبكين. وإذ يُلاحَظ أن الولاياتالمتحدة ستكون الأسعد بتردي العلاقات، فتمكّن مواقعها في اليابان، وفي الخطط الاستراتيجية لآسيا التي تسعى بكين الى إزاحتها عنها، فضلاً عن الحدّ من الاعتماد الياباني المستجد على الاقتصاد الصيني، يتأكد كم أن التحليل الخطّي خاطىء هنا أيضاً. فكويزومي الذي يشبه بلير، ويشبه مارغريت ثاتشر بدرجة أكبر، يجمع غواية الصورة الى إنجازات الواقع، ويضم العصرنة والأسواق الحرة الى القومية المتأججة، كما يزوّج التحديث المؤسسي الى القيادة شبه الرئاسية. وهو يرفق التعويل على الشبيبة والدور الأكبر للمرأة بالذهاب أبعد في أمركة يصحبها تسخين الوضع الاقليمي وأمن آسيا. وقد سبق لثاتشر، التي قاتلت الأرجنتين في الفوكلاند، ونصرت أميركا دوماً، وحطّمت النقابات وصغّرت الدولة، أن جعلت لندن مدينة أوروبا الأولى وعززت الطبقة الوسطى على حساب الأريستوقراطية القديمة. وهي وجهة تتضارب عناصرها، فيستدعي بعضُها الاحتجاجَ، وبعضُها الترحيبَ، ومعظمُها الانتظار.