في تحرك تكتيكي لتخفيف الأضرار الديبلوماسية في العلاقة مع الصين وكوريا الجنوبية قرر رئيس الوزراء الياباني جونيتشيرو كويزومي زيارة معبد ياسوكوني في الذكرى السادسة والخمسين لاستسلام اليابان في الحرب العالمية الثانية. وشاهد ملايين اليابانيين موكب كويزومي متوجهاً إلى المعبد الأكثر إثارة للجدل في العالم. والسبب أنه يضم رفات 14 "مجرم حرب من الدرجة الأولى" أُعدِمُوا بموجب قرار المحاكمة الشهيرة التي جرت في اليابان المهزومة آنذاك بين عامي 1946 و1948 واتهم خلاله 28 قائداً سياسياً وعسكرياً يابانياً بجرائم ضد السلام وحكم عليهم بالشنق عدا ثلاثة ماتوا خلال المحاكمة. ومن المعدَمين رئيس الوزراء المشهور توجو. و"يهمس" الكثير من اليابانيين بأن تلك المحاكمة وظروفها قد فُرِضَت على اليابان المهزومة فرضاً. وقال كويزومي مبرراً زيارته أنه يريد التعبير عن إحترامه للذين ضحوا بحياتهم من أجل ازدهار اليابان وليس تمجيداً للحرب، وبأنه تنازل عن تعهده زيارة المعبد في 15 آب أغسطس مراعاة لمشاعر المعارضين المحليين والدوليين. وحظيت هذه القضية باهتمام استثنائي هذا العام لأنه لم يسبق أن قرر رئيس للوزراء زيارة المعبد في 15 آب منذ زيارة رئيس الوزراء الأسبق ناكاسوني الرسمية الأخيرة في عام 1985 والتي أثارت عاصفة ديبلوماسية مع آسيا أجبرت الحكومة اليابانية بعدها على تفادي زيارة المعبد رسمياً. ويقع معبد ياسوكوني في قلب العاصمة طوكيو ضمن مجمع يضم حديقة ضخمة ومتاحف ومعابد لدين الشنتو. ومبناه الرئيس شُيد عام 1872 باسم مختلف. وفي عام 1874 زاره الإمبراطور الإصلاحي ميجي للمرة الأولى، وأعطاه في 1879 إسم ياسوكوني "تمجيداً لأرواح الذين ضحوا بحياتهم لأجل اليابان بإخلاص". وتتألف الكلمة من قسمين الأول ياسو التي تعني باليابانية السلمية الأبدية والثاني كوني التي تعني الوطن. ويضم مجمعات لرفات الجنود الذين شاركوا في جميع الحروب اليابانية من القرن الماضي مثل حرب الصين، وروسيا والحرب العالمية الأولى وحروب شنغهاي ومنشوريا والباسيفيك والحرب العالمية الثانية. كما يضم رفات ضحايا زلزال منطقة كانتو التي تضم طوكيو الكبرى. ويحوي متحفه عدداً من الأسلحة القديمة الأثرية. كما يحتوي على وثائق ورسائل مثل تواقيع بالدم من طياري الكاميكاز اليابانيين الانتحاريين. ويرى بعض المحللين أن الدين البوذي الياباني يعتبر أن "الموتى جميعاً يتحولون إلى بوذا" ما يضع الأشرار والأخيار منهم على قدم المساواة ولا سيما من تعرض لعقوبة الإعدام مثل مجرمي الحرب اليابانيين آنذاك. وفي ديانة الشنتو يصبح الميت "جوشي" وتعني الرب أو الإله بطريقة ما، لكنه يختلف تماماً عن إله المسلمين والمسيحيين واليهود. ونظراً لأن هؤلاء البوذا أو الجوشي يحظون بتقدير وعبادة إحترام، وليس عبادة ألوهية، تعتبر الصين وكوريا الجنوبية أن مجيء رئيس وزراء ياباني إلى هذا المعبد يهدف بشكل غير مباشر إلى تمجيد مجرمي الحرب اليابانيين. وقد زار ياسوكوني رؤساء وزراء يابانيون منذ عام 1945 رسمياً أو بصفتهم الشخصية. كما زاره الإمبراطور السابق هيروهيتو ولكن لغاية نقل رفات "مجرمي الحرب" إليه في بداية الثمانينات. وفي آب أغسطس 1952 أصبح المعبد منظمة دينية تابعة لدين الإمبراطور الياباني "الشنتو". ويحتوي المعبد أيضاً على رفات ملايين اليابانيين الذين ماتوا في الحروب منذ ثورة ميجي في القرن التاسع عشر وحتى الحرب العالمية الثانية. والقبر الياباني عبارة عن قطعة رخامية أو نصب حجري توضع عليه خشبة تضم رماد الميت. وتعتبر الصين وكوريا أن مثل هذه الزيارات تعني عدم اعتراف الحكومة اليابانية بمجازرها في الحرب العالمية الثانية ضد آسيا. وعلى رغم اعتذار اليابان أكثر من مرة عن تلك المجازر فإن الصين تطالب باعتذار رسمي على وثيقة تريده مقروناً بتغييرات في المواقف الرسمية مثل نقل رفات مجرمي الحرب من المعبد. كما تطالب كوريا بتسوية بعض المشكلات العالقة من زمن الحرب مثل قضية نساء المتعة وهن نحو مئتي ألف كورية أجبرهن الجيش الإمبراطوري الياباني على تقديم الخدمات الجنسية لجنوده خلال احتلال اليابان شبه الجزيرة الكورية. لكن توجد مجموعة كبيرة من اليابانيين يعتقدون أن حربهم في آسيا كانت بهدف تأسيس جبهة إزدهار شرق آسيا الكبرى وتخليصاً لتلك القارة من الاستعمار الأوروبي. وهؤلاء من الذين يتركزون في الحزب الديموقراطي الليبرالي والحزب الليبرالي والمنظمات اليمينية القومية، ينفون "مزاعم" الآسيويين بحجم الخسائر التي تعرضوا لها على يد الجيش الياباني الإمبراطوري. ويقولون ان برامج مساعدات اليابان الإقتصادية للدول الآسيوية وبخاصة الصين تعتبر تعويضاً عن الماضي. ويتهم يمينيون اليابانيين بأن الصين تستغل هذه القضية للضغط على اليابان وامتصاص المزيد من المساعدات الإقتصادية منها. ويضيف هؤلاء أن قمع الصينيين لسكان التيبت أو الطلاب في ساحة سانت إيتيين لا يقل فظاعة من المبدأ عما ارتكبه الجيش الإمبراطوري الياباني. كما تستغل بعض أحزاب المعارضة هذه القضية لانتقاد الحزب الحاكم وسياساته معتبرة أنها تعكس التيار اليميني المتطرف في الحزب الديموقراطي الليبرالي. ويهدف هذا التيار الى تحويل اليابان "دولة طبيعية" من خلال تدابير عدة تتضمن تعديل الدستور الذي لا يعترف بالقوات اليابانية. وعندما دخل كويزومي المعبد وخرج سمع الجميع هتافات التأييد والتنديد وبعضها شتائم. وفي هذه المعمعة اختلطت الأعلام اليابانية بالمشاعر القومية بلافتات الشجب والاستنكار بما أوحى أن ظلال الحرب العالمية الثانية لا تزال تخيم على شرق آسيا وقلب طوكيو. ومنذ توليه مركزه تحت شعار "تغيير اليابان" أكد رئيس الوزراء كويزومي أن ديبلوماسيته تركز على تعزيز العلاقات مع الدول الآسيوية إنطلاقاً من دعامة ثابتة هي التحالف العسكري، أو الأمني، مع الولاياتالمتحدة. لكن ما حصل لغاية الآن أن كويزومي نجح في إثارة جارتيه العملاقتين الصين وكوريا فنددتا بالزيارة فور حصولها ورفضتا "لعبة" كويزومي بتغيير الموعد. وجميع الأنظار تتركز الآن على الفصل الثاني وما إذا كان كويزومي سينجح في تطييب خواطر الآسيويين ووضع شعارات للعبة جديدة في شرق آسيا وإقناعهم بعدم التركيز "زيادة عن اللزوم" على ياسوكوني بل على العلاقات الشمولية. لكن معارضيه يتساءلون الآن عن الخطوة الثانية لكويزومي "الغامض". فبينما كان كويزومي في ياسوكوني نقلت محطة تلفزيون مقابلة مع مدير متحف "ذكرى السلام" في مدينة شيران التابعة لمحافظة كاجوشيما الجنوبية . وقال المدير: "عندما زار المتحف هنا توقف لمدة ثلاث دقائق أمام هذه الوثيقة وشاهدتُ عينيه تترقرقان بالدموع". وعندها انتقلت الكاميرا إلى الوثيقة التي أظهرتْ الوصية الأخيرة من أحد طياري الكاميكاز كتبها إلى عائلته قبل يوم من توجهه بالطائرة في مهمة بلا عودة في الحرب العالمية الثانية. وقال معلق: "كلمات ذلك الجندي تؤثر في كويزومي أكثر من تحذيرات الصينيين".