وحدهم الذين لم يشاهدوا فيلم"طفل المليون دولار"فاجأهم فوز هذا الفيلم بأكثر من جائزة أوسكار، خلال توزيع هذه الجوائز التي تعتبر أرفع ما تقدمه عائلة السينمائيين الاميركيين، الى أفضل أبنائها مرة في كل عام. ووحدهم الذين نسوا"غير المسامح"و"نهر المستيك"اللذين حملا توقيع كلينت ايستوود مخرجاً، أدهشهم كيف يفوز"أشهر راعي بقر أميركي حي"و"أقذر مفتش في الشرطة الأميركية"، بجائزة الاخراج عن"طفلة المليون دولار". أما الذين كانوا شاهدوا"الصبيان لا يبكون"فقد كان من شأنهم، وفي كل بساطة، أن يتوقعوا فوز بطلته هيلاري سوانك، بجائزة أفضل ممثلة، للمرة الثانية، وهي التي بالكاد تجاوزت الثلاثين من عمرها، وبالكاد مضى عقد على بدء قيامها بأدوار رئيسة في أفلامها. عوالم سكورسيزي فالحقيقة ان"طفلة المليون دولار"فيلم كبير، وفي كل المقاييس. وإذا كان كثر حزنوا، لإخفاق مارتن سكورسيزي، مرة أخرى... ومرة سابعة بالتحديد، في الحصول على الأوسكار عن فيلمه الجديد"الطيار"على رغم تسمية هذا الفيلم لنحو دزينة من الجوائز، فإن عزاء هؤلاء كان أن فيلم كلينت ايستوود الجديد... إنما ينتمي، بأكثر من معنى، الى عالم مارتن سكورسيزي. فيه من سينما سكورسيزي أشياء كثيرة. وحسبنا أن نقارن"طفلة المليون دولار"ب"الثور الهائج"وب"لون المال"من ناحية الموضوع، ثم ب"بعد الدوام"من ناحية الاسلوب واللغة الغنيين، لنقول إن كلينت ايستوود الذي أعلن دائماً انه ضد العودة الى تحقيق أفلام قديمة، كاد يبدو هنا، في"طفلة المليون دولار"وكأنه يعيد تحقيق"الثور الهائج"وغيره من أفلام سكورسيزي تحديداً... وليس فقط لأن القاسم المشترك الأساس بين"الثور الهائج"و"طفلة المليون دولار"هو تموضعهما في عالم الملاكمة. فهذا التموضع هو، هنا، من أسهل الأمور وأقلها أهمية... بل لا بد لنا من أن نبادر منذ الآن لنقول ان عالم الملاكمة، ليس سوى الذريعة ? في الفيلمين معاً ? التي تحكم قيام كل من سكورسيزي وايستوود بتحقيق فيلم عن التوبة والندم، والتضحية بالمعنى الكاثوليكي للكلمة. وفي هذا الأمر واضح أن الثاني ، وهو أصلاً غير كاثوليكي ، هو الذي يقلد الأول، الذي تتلبسه كاثوليكية حتى الأعماق. غير ان هذا لا يعني أن ايستوود يقلد هنا زميله الطليعي خطوة بخطوة... كما انه لا يعني، من ناحية أخرى، انه في اختياره موضوعاً عن فتاة تحترف الملاكمة، إنما يقلد فيلماً بعنوان"فتاة مقاتلة"سبق أن عرض في مهرجان"كان"قبل سنوات، وحقق نجاحاً نقدياً من دون أن يواكبه انتشار تجاري واسع للفيلم. فكلينت ايستوود، إنما يؤفلم هنا قضيتين قصيرتين ومعهما من بين قصص كثيرة كتبهما واحد من أهل الملاكمة انطلاقاً من تجارب شخصية عاشها. وكل هذا جمعه ايستوود في بوتقة واحدة، في فيلم ينتمي اليه في نهاية الأمر، ويبث فيه مواضيع تواصل مواضيع أفلام كثيرة له، مثل الشيخوخة، والحب والعلاقات البشرية ومرة أخرى: الندم والتوبة والتضحية. ذلك انه، في ما وراء ما يحدث في الفيلم، هناك البشر: هناك تلك الفتاة الفقيرة العاملة نادلة في مطعم وحلمها أن تصبح ملاكمة محترفة، وهناك صاحب نادي التدريب على الملاكمة المفتقد علاقته مع عائلته، والذي يعيش ما يبدو له سنوات عمله الأخيرة قبل الانسحاب الى حلم عماده كوخ وتأمل وقراءة بعيداً من العالم. حلمان متناقضان هما حلما الفتاة ماغي والكهل فرانكي... ووضعان متناقضان أيضاً: هو يحن الى ابنته ويكاتبها من دون أن تصل رسائله اليها. وهي أي ماغي تحن الى الأب الذي فقدته ذات يوم. إذاً، يجد فرانكي في ماغي بديلة من ابنته وتجد هي فيه أباً جديداً؟ ليس في هذه السهولة... حتى وإن كان اندفاع الفتاة نحوه أول الأمر فيه إيحاء قوي بذلك... وتمنعه هو عن القبول بتدريبها على الملاكمة شخصياً فيه رفض باطني منه لإحلال أحد مكان ابنته... حتى ولو كانت الذريعة، أمام رفيقه اندي مورغان فريمان ان هذه المهنة مهنة ذكور لا مهنة إناث. فعل أخير قبل الاختفاء طبعاً، سيلح اندي على فرانكي لكي يقبل. وماغي ستحاصره ايضاً لكي يدربها. وسينتهي الأمر به الى القبول... ومن الطبيعي والحال هذه ان تتقن ماغي المهنة جيداً وتبدأ صعودها ملاكمة محترفة حتى تتطلع الى مباريات بطولة عالمية. وهذا المقطع من الفيلم يشغل وسطه تقريباً، ولا يتعدى ثلث زمنه الزائد عن ساعتين وعشر دقائق. بعد ذلك ستسوء الأمور بالنسبة الى ماغي، وستتحول حكاية المعلم وتلميذته، الى حكاية شغف مسكوت عنه, معاناة لن تنتهي إلا بتلك الخبطة المسرحية التي بعدها سيختفي الاثنان، ماغي وفرانكي، كل على طريقته، ليبقى اندي يروي الحكاية كلها في رسالة يكتبها موجهاً إياها الى ابنة فرانكي الحقيقية. القسم الأخير من الفيلم قسم شديد الكآبة والقسوة، حتى وإن كان يشع بضياء ماغي وهي على فراشها في المستشفى... فماغي بعد كل شيء، حققت حلمها... ولو كلفها ذلك كثيراً... بل كل شيء. أما فرانكي فعليه أن يقوم بتصرف أخير قبل أن يحقق هو الآخر حلمه. وإذا كان فرانكي هو الذي ساعد ماغي على تحقيق حلمها، فإنها هي، بدعوته ذات لحظة الى وضع حد لحياتها وتخليصها من عذاباتها، من يتيح له أن يختفي تماماً، كما يفيدنا اندي. وهذه التفاعلات التي تشغل القسم الثالث والأخير من الفيلم، هي، بالطبع، أقوى ما فيه: هي الميدان الذي أثبت فيه كلينت ايستوود قدرته الكبيرة كمخرج متمكن، شرط أن يكون بين يديه سيناريو صلب. هنا في هذا الجزء أعاد ايستوود ربط فيلمه هذا بأعمال سابقة كبيرة له، من"بيرد"الى"غير المسامح"الى"نهر المستيك". ولكن، مرة أخرى، وعلى رغم كآبة الأحداث، وعلى رغم خطورة الوقوع في ميلودرامية عاطفية تبسيطية، تمكن ايستوود، في فيلمه الخامس والعشرين كمخرج، من أن يتفادى كل ميلودرامية، مبقياً متفرجيه في قلب دراما تراجيدية عقلانية تماماً. وهنا بالتحديد تكمن نقطة القوة الأساسية في هذا الفيلم: فإذ اختار ايستوود، انطلاقاً من سيناريو كتبه بول هادجيس، الذي يجرب حظه للمرة الأولى مع السينما، بعدما عرف ككاتب تلفزيوني، اذ اختار ألا يدفع متفرجه الى عملية اسقاط وتماهٍ مع آلام ماغي، ومع معاناته قبل أن يحدد اختياره الأخير، فإنه تعمد هذا، لأنه أراد لفيلمه أن يدفع الى التفكير، لا الى الغرق في الدموع، حتى وإن كانت الدموع قادرة على أن تطل في كل لحظة. من هنا سرعة المشهد الأخير. ومن هنا وضع الحواجز إذ ان الأحداث تروى لنا من طريق مورغان فريمان، لا في شكل مباشر. ومن هنا عدم التوقف طويلاً في لقطات كبيرة أمام ماغي وهي تعيش لحظاتها الأخيرة. وبهذا تحديداً حوّل ايستوود فيلمه من عمل عاطفي، الى عمل كبير... من دون أن يلغي إمكان العواطف. والحال ان كل هذا أتى متناقضاً مع بطء حركة الفيلم منذ البداية ثم تسريعها مع المباريات التي تخوضها ماغي والتي ندر أن ترك فيها المخرج مجالاً للحظات تشويق تتلاعب بالمتفرجين... ذلك ان ايستوود شاء هنا، مرة أخرى كما في أبرز أفلامه السابقة، ان يدخل الى احداثه بعد أن يتمكن تماماً من تصوير شخصياته في وحدتها المطلقة، ليجمعها في النهاية، ولكن من دون أن يلغي تلك الوحدة. وفي يقيننا ان هذا كله هو ما أعطى هذا الفيلم، القاسي والجميل، قوته وجعله يفوز بأوسكارات اساسية منها أيضاً تلك التي أعطيت لمورغان فريمان عن أفضل دور مساند، الذي راقب الأحداث وراقب رفاقه في الفيلم، نيابة عنا نحن المتفرجين، فأدخلنا عوالمه وخفايا الشخصيات، من دون أن يفرض علينا عبء تحمل آلامها. وهذه النقطة الأخيرة يمكن اعتبارها جديدة على سينما ايستوود التي كانت على الدوام سينما شعبية بامتياز لتثبت في هذا الفيلم ان السينما الشعبية يمكن ان تكون قوية وذكية في الوقت نفسه.