يشهد المغرب منذ أسابيع سلسلة جلسات تنظّمها "هيئة الانصاف والمصالحة" لضحايا سنوات الاحتقان السياسي في البلاد منذ الخمسينات وحتى نهاية التسعينات من القرن الماضي. ويعرض هؤلاء الضحايا وذووهم للانتهاكات الرهيبة التي تعرضوا لها في السجون والمعتقلات المغربية. محمد الأشهب، مدير مكتب "الحياة" في الرباط، يعرض في هذا التقرير لتفاصيل شهادات الضحايا، ويضعها في السياق التاريخي الذي حصلت فيه. فيشرح خلفيات الانقسامات السياسية التي شهدها المغرب خلال حكم الملك الراحل محمد الخامس وبعده ابنه الراحل الملك الحسن الثاني، والخلافات التي نشبت في صفوف مقاومي الاستعمار الفرنسي، و"انتفاضة الريف" ضد الحسن الثاني. كذلك يعرض بالتفصيل للخلافات التي نشبت في صفوف الطبقة السياسية في البلاد، بدءاً بانقسام حزب الاستقلال ونشوء الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي انشق عنه لاحقاً الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. وفي ظل هذه الانقسامات السياسية، يتناول صراعات الأحزاب في ما بينها وبينها وبين القصر، والاغتيالات ومحاولات الانقلاب التي تعرّض لها حكم الملك الحسن الثاني في تلك الحقبة، عارضاً لبعض أبرز أبطالها وضحاياها... والمعتقلات التي مرّوا بها من سجن تازمامرت الرهيب في جبال الأطلس الى دار المقري في العاصمة الرباط. عقّب سياسي مغربي مخضرم على افادات معتقلين سياسيين وذويهم حول مظاهر انتهاكات حقوق الإنسان التي عرفتها البلاد على امتداد أكثر من أربعة عقود، بأن مفهوم "الانصاف والمصالحة" تبلور عملياً منذ عام 1994. وشرح ذلك بالقول إن اصدار الملك الراحل الحسن الثاني وقتذاك عفواً سياسياً على أعداد من المعتقلين والسماح بعودة المنفيين وبدء مصالحة بين القصر وفصائل المعارضة، كان يختزل جوانب من هذا المفهوم، أقربه أن عودة المعارض الراحل الفقيه محمد البصري الذي كان يتزعم الجناح الثوري في المعارضة التي حملت السلاح لإطاحة النظام، عبر محاولات عدة، كان يعني القطيعة مع سمات المواجهة، في حين أن اختيار الزعيم المستقيل للاتحاد الاشتراكي عبدالرحمن اليوسفي لتحمل مسؤولية رئاسة الوزراء في عام 1998 كان يرجح الانفتاح على التيار المعتدل داخل الاتحاد الاشتراكي. وكشف السياسي المغربي أنه سأل اليوسفي في الأيام الأخيرة في جلسة حميمية في الدار البيضاء إن كان يعتزم كتابة مذكراته، فأجابه بالقول إنه يترك ذلك للتاريخ، موضحاً، بحسب ما نُقل عنه: "شاركت في المقاومة لتحرير بلدي من الاستعمار وتعرضت للاعتقال والنفي ابان الاستقلال، لكنني قدت أهم مصالحة بين القصر والمعارضة في فترة كانت البلاد في أمّس الحاجة الى ثقافة المصالحة"، معتبراً أن تجربته "كتاب مفتوح أمام الأجيال" في المغرب. لكن أحد القريبين الى الجنرال محمد أوفقير الذي قاد محاولتين لإطاحة نظام الملك الحسن الثاني عامي 1971 و1972، نقل الى "الحياة" صورة تقريبية عن مضمون المشاورات السياسية التي قادت المعارضة الى الحكومة ومفادها ان "على المعارضة أن تحتمي بالنسيان لطي صفحة الماضي. بما في ذلك قضية خطف المهدي بن بركة واغتياله. وعلى القصر أن ينسى التورط المحتمل لشخصيات معارضة في الانجذابات الى الجنرال أوفقير في تخطيطه الفاشل لإطاحة النظام". وبصرف النظر عن صدقية الرواية أو اختلاقها، فالثابت أن اليوسفي عندما كان رئيساً للوزراء لم يغضبه شيء أكثر من الرسالة التي نُسبت الى رفيقه الفقيه البصري حول التورط المحتمل لشخصيات معارضة في التنسيق مع أوفقير. لذلك يُعتقد بأن رد فعله المتمثل في صدور أمر بحجز أسبوعية "لوجورنال" التي كانت نشرت الرسالة التي نُسبت الى الفقيه البصري في هذا الصدد، كان هدفه "عدم انتهاك الاتفاق المبرم مع ملك البلاد الراحل". وعندما انفجرت قضية اغتيال المعارض المهدي بن بركة من جديد خلال افادات العميل السابق للاستخبارات أحمد البخاري، اكتفى الاتحاد الاشتراكي عام 2002 بتسجيل شكوى قضائية ضد مجهول. بيد أن مسار الأحداث نما في اتجاه آخر من خلال تشكيل "هيئة الانصاف والمصالحة" التي عهد اليها العاهل المغربي الملك محمد السادس اتخاذ اجراءات تكفل الطي النهائي لملفات انتهاكات حقوق الإنسان من عام 1956 الى عام 1999، أي منذ استقلال البلاد الى تولي محمد السادس عرش البلاد، خصوصاً أن هذه الفترة عرفت من الناحية السياسية تعاقب حكومات وأحزاب على إدارة المسؤولية، وبقيت السنوات الأولى للاستقلال مغيبة في كثير من الشهادات والكتابات والوقائع التاريخية، إذ غالباً ما كانت تُقرن سنوات القمع السياسي والمواجهات المفتوحة بين النظام والمعارضة بأحداث القلاقل المدنية التي عرفتها الدار البيضاء عام 1965، وفي أقرب تقدير كانت تحيط بجوانب من الهزات السياسية التي شهدها عام 1963، وصولاً الى المحاولتين الانقلابيتين لإطاحة الملك الراحل في 1971 و1973، وما تلاها من أحداث تُعرف في البلاد بتواريخ الأعوام التي حصلت فيها وهي 1973 و1981 و1984 و1990. غير أن ما ترتب على السنوات الأولى لاستقلال البلاد من تداعيات الصراع على السلطة وحدوث حركات تمرد عدة في الشمال والجنوب والشرق، قادها منتسبون الى قوات "جيش التحرير" قبل حله ودمجه في الجيش الملكي، كان لها أثر كبير في تكييف الأحداث، لا سيما أن البلاد عرفت وقتذاك أزمات حكومية عدة الى درجة أن الحكومات لم تكن تعمّر غير بضعة أشهر. واللافت ان الحكومة الأولى التي شكلها رئيس الوزراء الراحل البكاي لهبيل في نهاية 1955 ضمت شخصيات متنفذة في الأحزاب السياسية، مثل الزعيم السابق للاتحاد الاشتراكي الراحل عبدالرحيم بوعبيد ، والعضو القيادي البارز في الاستقلال محمد الدويري ، والمستشار السابق للملك الراحل الحسن الثاني أحمد رضا غديرة. وسيعرف العام ذاته تأسيس المركزية النقابية "الاتحاد المغربي للعمل" في سياق صراعات سياسية تصبح فيها للمركزيات النقابية أدوار مؤثرة. بيد أن عام 1956 الذي عرف تشكيل الحكومة الثانية لرئيس الوزراء البكاي، وأصبح ضمنها عبدالرحيم بوعبيد وزيراً للاقتصاد واليهودي الدكتور بن زاكين وزيراً للبريد، سيعرف أولى الأحداث الساخنة التي تؤرخ لما اصطُلح عليه بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان من خلال اندلاع أولى المواجهات بين قياديين في قوات جيش التحرير، إذ تعرض المقاوم عباس المسعدي الى عملية خطف واغتيال وجهت ضمنها اتهامات الى قياديين بارزين في الاستقلال، في مقدمهم المعارض المهدي بن بركة. ومع اختلاف الروايات حول ظروف مقتله، فإن زعيم الحركة الوطنية الشعبية المحجوبي أحرضان الذي كان أجرى تحقيقاً في الحادث، يقول إن شخصين على الأقل اعترضا المقاوم المسعدي في مدينة فاس و"أدخلاه سيارة ابتعدت حوالى مئة متر وأطلق عليه أحدهما الرصاص من مسدس صغير". وثمة افادات بأن هناك من تولى إخبار المهدي بن بركة بذلك. غير أن الملك الراحل الحسن الثاني يُضفي على الحدث بُعداً سياسياً أشمل، إذ يروى أن "جيش التحرير" والمقاومة كانا يشكلان وقتذاك جناحين مختلفين: "كانت المقاومة المنتشرة في المدن خصوصاً، حساسة للغاية تجاه خطاب الأحزاب السياسية. وقد أراد بن بركة تسييس جيش التحرير أيضاً، وتدخل المصريون في الأمر، وكانوا يزودونه السلاح، وكان هدف بن بركة اخضاع التسعة أو العشرة آلاف رجل في جيش التحرير لسيطرة حزب كان سيصبح حزباً وحيداً". وبارتباط مع تداعيات الفترة، يسوق المعتقل السابق صالح العتيق افادات عن ظروف اعتقاله عام 1956، كونه كان ناشطاً في تنظيم "الهلال الأسود" الذي يضم أعضاء من المقاومين. ويقول إنه اعتُقل برفقة 17 من الناشطين في ظروف بالغة القسوة، وان أعداداً منهم تعرضوا للتصفية الجسدية في إحدى الضيعات في ضواحي مراكش بعد أن عانوا أصناف التعذيب الوحشي، قبل أن يتم الزج به واحياء نجوا من موت محقق في مخفر الشرطة في ساحة جامع الفناء في مراكش، ثم في سجن لعلو في الرباط، من دون أن توجه اليهم أي تهم غير ارتباطهم بالمقاومة. ويخلص الى السؤال: "أي ذنب اقترفناه غير الإصرار على مقاومة الاحتلال الفرنسي قبل الاستقلال؟"، غير أنه يستدرك بحسرة وألم: "سامح الله الجلادين الأموات والأحياء". العلاقة مع أميركا هيمنت مظاهر الأزمة الاقتصادية والاجتماعية على انشغالات الحكومة الثانية للبكاي وأبرم وزير الخارجية المغربي وقتذاك أحمد بلا فريج اتفاقاً مع السفير الأميركي يقضي بمنح بلاده مساعدة بمبلغ 20 مليون دولار لاقتناء تجهيزات ومواد استهلاكية. غير أن العلاقة بين الحكومة المغربية والولايات المتحدة ستدفع في اتجاه ردود فعل، أبرزها صدور اتهامات من الأحزاب السياسية ضد الحكومة لجهة استخدام "القمح الأميركي" الذي كان موجهاً للمساعدة في التأثير في الناخبين خلال الانتخابات الأولى التي ستعرفها البلاد. ويضاف الى ذلك، صدور دعوات لرحيل القواعد الأميركية أدت الى تعطيل بعض الصحف واعتقال مسؤوليها، ثم حدوث أكبر حركة انشقاق داخل حزب الاستقلال، ما أدى الى ظهور الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بزعامة التيار الراديكالي في الحزب، بخاصة عبدالرحيم بوعبيد وعبدالله ابراهيم والمهدي بن بركة في مطلع عام 1956. ومن المفارقة أن المبادرة الأولى التي أقدم عليها بن بركة وقتذاك تمثلت في توجيه رسالة الى القصر أكد فيها ولاءه ورفاقه في الحزب الجديد الى النظام في مواجهة اتهامات بأنهم "ملحدون ومعادون للملكية". غير أن تطورات الأحداث ستقود نحو مسار آخر. الثابت أن الانشقاق الذي حدث داخل حزب الاستقلال أفسح في المجال أمام اندلاع مواجهات بين الاتحاد الوطني للقوات الشعبية والقصر، بخاصة بعد ذهاب حكومة رئيس الوزراء السابق عبدالله ابراهيم التي يُنظر اليها تاريخياً بصفتها أول حكومة قادها زعيم سياسي في الاتحاد الوطني الذي سيتفرع عنه الاتحاد الاشتراكي الحالي عام 1974، وأسندت فيها نيابة رئيس الوزراء ووزارة الاقتصاد والمال الى عبدالرحيم بوعبيد. ومن المفارقات التاريخية أن الجنرال محمد المذبوح الذي تورط في المحاولة الأولى لإطاحة نظام الحسن الثاني في قصر الصخيرات عام 1971 كان يتولى في تلك الحكومة وزارة البريد. وثمة من يذهب الى أنه كان وراء الكشف عن أول محاولة لاغتيال الملك الحسن الثاني حين كان ولياً للعهد. إذ تردد أنه مكّن منفذي العملية من رسوم بيانية حول مداخل القصر، لكن الملك الراحل سيؤكد أنه تعرض لمحاولة اغتيال لدى ركوبه سيارة جيب مكشوفة، وأن محمد حجاج المتهم باغتيال المقاوم عباس المسعدي صوّب في اتجاهه بندقية بمنظار، غير أنه لم يضغط على الزناد. وأصدر الحسن الثاني عفواً عنه من منطلق أنه كان مجرد منفذ، وحين غيّب الموت حجاج في نهاية الثمانينات، صدرت عن الملك الراحل لفتة لناحية الاهتمام بذويه، ما يعني أن العفو الذي كان يقوم به الحسن الثاني تجاه خصومه السياسيين وضمنهم الذين تورطوا في محاولات إطاحته كان تقليداً يتجاوز الأبعاد السياسية نحو ما هو إنساني، وإن كان الأمر يختلف في حال أبناء أسرة الجنرال محمد أوفقير ومتورطين عسكريين قضوا سنوات عدة في جحيم معتقل تازمامرت الرهيب. لم تكن الأزمات الحكومية التي عرفتها سنوات الاستقلال منفصلة عن صراعات القوى السياسية المتنفذة في البلاد، بخاصة بين الاستقلال بزعامة الراحل علال الفاسي والشورى والاستقلال الذي كان يقوده بن الحسن الوزاني، إضافة الى الصراعات التي أدت الى انشقاق الاتحاد الوطني عن الاستقلال، ويُضاف اليها تشكيل أحزاب جديدة مثل الحركة الشعبية وجبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية. وفي خضم ذلك، تعرض رعايا مغاربة الى الخطف والاغتيال والتصفيات الجسدية. وما زالت "دار بريشة" في تطوان شمال البلاد شاهدة على مآس إنسانية، إذ يقول المعتقل السابق مصطفى العمراني إنه تعرض ورفاقه الى الخطف في مدينة طنجة مطلع عام 1956 ونقلوا معصوبي الأعين مقيدي الأيدي الى تطوان وتحديداً "دار بريشة" التي حولها خصوم سياسيون لحزب الشورى والاستقلال بتواطؤ مع السلطات، خصوصاً أن مدير الأمن محمد الغزاوي كان محسوباً على حزب الاستقلال، وهناك تعرضوا لشتى أنواع التعذيب والاهانة وصب الماء الساخن على أجسادهم العارية، ما أدى الى وفاة أعداد من الضحايا. بيد أن منتسبين الى الاستقلال يتهمون خصومهم السياسيين بتصفة قياديين في الحزب، كما في حال عبدالعزيز بن ادريس الذي اغتيل في ضواحي مراكش من طرف عصابة مدعومة سياسياً. لكن ناشطين حقوقيين أقروا تنظيم اعتصام أمام "دار بريشة" كما فعلوا سابقاً أمام "تازمامرت" و"دار المقري"، و"درب مولاي الشريف" و"قلعة سكونة". اضطرابات 1958 و"انتفاضة الريف" سيعرف عام 1958 قلاقل مدنية وأحداثاً سياسية على قدر كبير من العنف والغليان، فقد تزعم ثوار في منطقة الريف على الساحل المتوسطي في الشمال حركة مسلحة استندت الى اهمال المنطقة والتمييز بين أهلها في المناصب الحكومية، فضلاً عن تأثير انخراط أبناء المنطقة في المقاومة وجيش التحرير، في وقت أقرت الحكومة وقتذاك خطة حل جيش التحرير الذي كانت تتنازعه تيارات سياسية عدة. لكن حساسية المنطقة تعزى في جانب منها الى كون منطقة الريف التي خاضت بزعامة القائد عبدالكريم الخطابي حروباً في مواجهة الاستعمار الاسباني، وكذلك التحالف الفرنسي الاسباني للقضاء على المقاومة، كانت تتمتع بخصوصيات ثقافية وسياسية، كون سكانها يتحدرون من اصول أمازيغية. إضافة الى أن القائد الخطابي الذي يوصف بأنه أول من خاض حرب تحرير شعبية في التاريخ المعاصر، كان شكّل حكومة قائمة الذات ابان فترة احتلال المغرب تحت شعار "حكومة جمهورية الريف" تولى رئاستها، وأسند وزارة الخارجية ضمنها الى محمد زرقان ووزارة الحرب الى عبدالسلام بن الحاج محمد ووزارة الداخلية الى يزيد بن الحاج حمد ووزارة العدل الى بولحية بن علي. ولعله لهذا السبب كان يُنظر في الرباط الى احتجاجات أهل الريف على أنها قد تكون مقدمة لحركة انفصالية، على رغم أن متزعميها ينفون ذلك. لكن انضمام قياديين في جيش التحرير من مناطق الأطلس المتوسط الى تلك الحركة زاد في تعقيد الموقف، ما حدا بالملك الراحل محمد الخامس الى توجيه انذار الى سكان الريف يحضهم فيه على الاستسلام وإلقاء السلاح أو تدخل الجيش الذي كان كاسحاً. لكن وفداً يقوده المقاوم محمد سلام أمزيان كان أجرى اتصالات مع ملك البلاد لعرض مطالب أهل المنطقة. ورُوي، في مقابلة غير متداولة، أنه وجه مذكرة الى الملك محمد الخامس يعرض فيها الى تلك المطالب ذات الطابع الاقتصادي والإداري والاجتماعي، لكن أحد أعضاء الوفد تحدث عن إقامة "جمهورية الريف"، ما قد يكون في مقدم أسباب توتر العلاقة بين القصر وأهل الريف الذي أسفر عن مواجهة قال عنها أمزيان إنها أسفرت عن مقتل حوالى ألف رجل من الثوار، بينما كان العدد الأكبر في صفوف الجيش. ويضيف ان قوات الجيش قصفت مسكنه الذي كان يتخذه مقراً للقيادة بالطائرات وحاولوا اعتقاله حياً. لكنه تمكن من الفرار الى اسبانيا ثم الاستقرار في هولندا قبل أن يغيبه الموت. وفي الافادات الأولى لضحايا الاعتقالات التعسفية وانتهاكات حقوق الانسان روى جمال امزيان، نجل المقاوم سلام امزيان، معاناته وذويه مؤكداً ان الذنب الوحيد لوالده الذي صدر حكم باعدامه انه قال "لا للظلم والجبروت، وقال لا لاستقلال جزئي تفاوضي". وأضاف انه وأفراد اسرته تعرضوا للاعتقال مرات عدة وانهم حين حاولوا العودة الى مسكنهم ووجهوا بنظرات الارتياب وانواع من العزلة الاجتماعية والنفسية و"كنا نواجه مصيرنا ونحن عزل في المعتقل الكبير، أي المجتمع". غير ان مناطق ظلال عدة تبقى عالقة. ففي افادات الأب سلام امزيان، من قبل ان يغيبه الموت، ان الجنرال محمد اوفقير الذي كان قاد الهجوم على منطقة الريف طلب اليه التعاون بهدف اطاحة النظام اوفقير في الجنوب وسلام في الشمال لكنه رفض. وفي جانب آخر يكشف ان الباخرة المحملة بالسلاح التي كان اوفدها الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر رست في احد موانئ الشمال، لكنها لم تتكمن من افراغ حمولتها من السلاح، كون كلمة السر كانت عبارة عن نصف صورة لثور، وكان يجب على مستخدمي ذلك السلاح ان يعرضوا لربانها المتحدر من اصول سودانية بالنصف الآخر من الصورة. لكن ذلك لم يحدث. واللافت ان الخلافات بين الملك الراحل الحسن الثاني والرئيس الراحل جمال عبدالناصر قفزت الى الواجهة بعد حرب الرمال المغربية الجزائرية في تشرين الاول اكتوبر عام 1963 حين ضلت طائرة عسكرية مصرية كانت متوجهة الى الجزائر طريقها وأجبرتها قوات مغربية على الهبوط في منطقة الحدود الشرقية مع الجزائر، ما ادى الى اعتقال ضباطها العسكريين ودخول العلاقات بين الرباطوالقاهرة نفقاً مظلماً الى حين مشاركة الحسن الثاني في القمة العربية لعام 1964. فقد توجه الى القاهرة يرافقه وفد الضباط المصريين على متن طائرة مغربية نزلوا منها وهم يرتدون اللباس التقليدي المغربي جلباب ابيض وطربوش احمر عنواناً لبدء مرحلة جديدة من الوئام، سيتعكر على اثر المحاولة الانقلابية الفاشلة لعام 1971 حين نشرت "الأهرام" على صدر صفحتها الأولى "مقتل الطاغية الحسن الثاني". في مساء اليوم نفسه كان الملك استعاد زمام الأمور ووجه خطاباً الى الشعب عبر التلفزيون يعلن فيه فشل المحاولة الانقلابية واندحار المتمردين. وفي مفارقات الاحداث ان القيادي البارز في الاتحاد الوطني للقوات الشعبية عبدالله ابراهيم سيعين رئيس وزراء في الشهر الأخير من نهاية 1958 وسيقال القائد الحسن السوسي من مهماته مستشاراً في البلاط الملكي بعد ان كان وزير داخلية في اول حكومة مغربية بعد الاستقلال. ومع ان أول قانون للحريات العامة كان ذلك الذي اقرته حكومة عبدلله ابراهيم، فإن رفيقيه عبدالرحمن اليوسفي ومحمد البصري، الأول بصفته رئيس تحرير والثاني مدير النشر في صحيفة "التحرير"، سيعتقلان وتوجه اليهما تهمة المساس بشخص الملك في نهاية عام 1959. ما يفسره مراقبون بتداعيات الانشقاق عن حزب الاستقلال من جهة وبداية المواجهة مع النظام الذي كان علق في العام ذاته نشاط الحزب الشيوعي المغربي عبر حكم قضائي، قبل ان يعاوده زعيمه الراحل علي يعتة تشكيل حزب باسم "التحرر والاشتراكية" في عام 1968 قبل ان يصبح "التقدم والاشتراكية" حالياً. بيد انه في غضون هذه التطورات لم تقف الصراعات السياسية عند حدود المواجهات المفتوحة بين الاستقلال والاتحاد الوطني للقوات الشعبية والشورى والاستقلال وفصائل سياسية جديدة شكلت لدعم توجهات النظام، وانما تجاوزت ذلك نحو دخول منتسبين سابقين الى المقاومة وجيش التحرير حلبة الصراع. بعضهم حمل السلاح وتوجه الى الجبال والادغال وبعضهم كان يتصيد المتعاونين السابقين مع الاستعمار، فيما طرف ثالث كان يُستخدم لدعم هذا الحزب او ذاك، ما تسبب في انتشار قلاقل مدنية وظهور تنظيمات سرية مسلحة قادها مقاومون خرجوا للتو من السجون الاستعمارية، كما في حال "شيخ العرب" احمد اكوليز الذي اغتال رجال سلطة وشرطة واصبح المطلوب الرقم واحد وعلقت صوره في شوارع المدن لحض السكان على التعاون في الادلاء بمعلومات تمكن من اعتقاله، في حين ان اعضاء آخرين في جيش التحرير امثال محمد الاطلسي وحسن زغلول وابراهيم امزيد وبن حمو الغوافري وابن الميلودي وغيرهم تورطوا في اغتيال والقيام بحركة عصيان واستخدام الاسلحة، ما ادى الى محاكمتهم وصدور احكام بإعدام اعداد منهم في آب اغسطس عام 1961، أي بعد مرور حوالى ستة اشهر على وفاة الملك محمد الخامس واعتلاء نجله الملك الحسن الثاني عرش البلاد في آذار مارس من العام ذاته. ويُلاحظ ان محمد الخامس كان أقال حكومة رئيس الوزراء عبدالله ابراهيم وأصبح في الوقت ذاته ملكاً ورئيساً للوزراء، والحال ان الحكومة الأولى التي شكلها الحسن الثاني كانت بدورها برئاسته وأسندت فيها الداخلية الى رئيس الوزراء السابق البكاي لهبيل في حين تولى الاستقلاليان محمد بوستة وزارة الوظيفة العامة والاصلاح الاداري ومحمد الدويري وزارة الاقتصاد والمال، وعبدالكريم الخطيب الزعيم السابق ل"العدالة والتنمية" وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، وغاب عنها وزراء الاتحاد الوطني- وإن كانت مشاركة عبدالكريم بن جلون وزيراً للعدل ابقت على نوع من حضور الحزب. وأعلن الحسن الثاني في اول عهده عزم بلاده اقرار دستور واجراء انتخابات، في حين قاد ظهور حركات اسلامية متطرفة وقتذاك تعرض المنتسبون اليها الى محاكمات بدعوى الخروج عن الشرع الى انشاء أول رابطة لعلماء المغرب. وتعرضت في الوقت ذاته سفارة فرنسا في الرباط الى اعمال تخريب قادها ناشطون يريدون التضامن مع الثورة الجزائرية. لكن الموقف من الدستور ومن الحكومة وتداعيات الصراعات السياسية سيسفر عن قلاقل واحداث عنف خصوصاً ان الاتحاد الوطني للقوات الشعبية قرر مقاطعة الدستور الى جانب المركزية النقابية الاتحاد المغربي للعمل التي دعت الى التصويت ب"لا"، بينما التزم الاستقلال موقفاً لمصلحة التصويت ب"نعم" على الدستور. ومهد الملك الحسن الثاني لابداء انفراج لم يكتمل بالتوجه الى مدينة الحسيمة في عمق الريف الذي كان مسرحاً للحوادث بالاعلان عن عفو شامل عن المتورطين في الأحداث. لكن تعرض المعارض المهدي بن بركة لحادث سير بين الرباط والدار البيضاء في تشرين الثاني نوفمبر لعام 1963، وصفته قيادة الحزب بأنه "محاولة اغتيال"، سيزيد في تعقيد الاجواء وإحكام القطيعة بين النظام والاتحاد الوطني للقوات الشعبية. ويحكي المعتقل الكبير الواسطي في افادات عن الفترة انه اعتقل في نيسان ابريل من عام 1957 بينما كان ورفاقه يشاركون في مباراة لكرة القدم رعاها تنظيم تابع لحزب "الشورى والاستقلال" في مدينة خريبكة وسط شرق الدار البيضاء وانهم اقتيدوا الى ثكنة للدرك الملكي وتعرضوا لشتى انواع التنكيل والاهانة. ويقول: "كنا نقضي النهار تحت التعذيب ونبيت ليلاً على قطعة اسفنج مبللة بالماء والملح الى جانب مرحاض قذر". واستمرت معاناتهم اسابيع طويلة قبل ان ينقلوا الى سجن في الرباط وتصدر محكمة هناك احكاماً ببراءتهم. لكنه يصف انواع الاهانات بأنها كانت تتمثل في وصفهم ب"الخونة". وحين اطلق سراحهم لم يتمكنوا من الاقامة في مدينة خريبكة نتيجة التحرشات والخوف من التعرض للقتل على ايدي محترفين، ما حداه وذويه الى الرحيل للاقامة في الدار البيضاء خوفاً على حياتهم: "لم يكن بديل عن الرحيل وسط المضايقات التي بلغت حد التهديد باهدار دمنا". ومن جهته يقول المعتقل السابق بوعزة بن شرة انه تعرض للاعتقال في مدينة فجيج، شرق البلاد، لمجرد مشاركته في تظاهرة سلمية، وان السلطات عمدت بعد ذلك الى فصله من عمله كاتباً لرئيس دائرة فجيج، كون ذلك يتعارض من وجهة نظرها والحق في الانتساب السياسي. واضاف ان اتهامات وجهت اليه عام 1961 بأنه مكلف رعاية تنظيم سري وانه مكث في سجن وجدة من دون محاكمة. وقال ان المضايقات دفعته الى اغلاق مطبعة كانت تشكل مورد رزقه، خصوصاً بعدما طُلب اليه اخضاع الكتب التي يطبعها الى الرقابة ف"قلت لهم ان أي عمل من هذا القبيل يجب ان يتم عبر حكم قضائي وانني غير مسؤول عن الافكار التي ترد في الكتب التي أطبعها". ويضيف: "غير انني اضطررت الى اغلاق المطبعة وانفصلت عني زوجتي التي لم تعد تطيق تلك المضايقات وأصبحت بلا بيت ولا مأوى ولا أسرة".