"العوسق".. من أكثر أنواع الصقور شيوعًا في المملكة    عودة الفرسان    أرسنال يعود بطريق الانتصارات في الدوري الإنجليزي بثلاثية في فريق نونو سانتو    الوحدة يتغلب على التعاون ويبتعد عن مراكز الخطر ب «دوري روشن»    الحارثي في ذمة الله    الانسانية تحتضر    الالتزام بالمواعيد الطبية: مسؤولية مجتمعية تحفظ الصحة وتُحسن الخدمات    ضبط شخص في الجوف لترويجه (3.6) كجم «حشيش»    انترميلان يقسو على هيلاس فيرونا بخماسية في شوط    موعد مباراة النصر مع الغرافة في دوري أبطال آسيا للنخبة    الدرعية في شتاء السعودية 2024: تاريخ أصيل يُروى.. وحاضر جميل يُرى    الطاقم الطبي يحدد موقف محترف الأهلي من مواجهة العين    ابن وريك يدشن معرض الأمراض المنقولة بالنواقل في مهرجان الدرب    وزير الثقافة يلتقي مبتعثي برنامج أسس صناعة المانجا في اليابان    5 مطارات تتصدر تقارير الأداء لشهر أكتوبر 2024    اتحاد الغرف يعلن تشكيل أول لجنة من نوعها لقطاع الطاقة والبتروكيماويات    المنتدى السعودي للإعلام يفتح باب التسجيل في جائزته السنوية    يناير المقبل.. انطلاق أعمال منتدى مستقبل العقار في الرياض    ترمب يرشح سكوت بيسنت وزيراً للخزانة    ضيوف برنامج خادم الحرمين يتجولون في مجمع الملك فهد لطباعة المصحف بالمدينة    مصدر أمني يؤكد استهداف قيادي في حزب الله في الغارة الإسرائيلية على بيروت    معتمر فيتنامي: أسلمت وحقق برنامج خادم الحرمين حلمي    سعود بن نايف يرعى الأحد ملتقى الممارسات الوقفية 2024    الفنان المصري وائل عوني يكشف كواليس طرده من مهرجان القاهرة السينمائي    التحقيق مع مخرج مصري متهم بسرقة مجوهرات زوجة الفنان خالد يوسف    "الجامعة العربية" اجتماع طارئ لبحث التهديدات الإسرائيلية ضد العراق    بريدة: مؤتمر "قيصر" للجراحة يبحث المستجدات في جراحة الأنف والأذن والحنجرة والحوض والتأهيل بعد البتر    ضبط 19696 مخالفاً لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود خلال أسبوع    استمرار هطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    مشروع العمليات الجراحية خارج أوقات العمل بمستشفى الملك سلمان يحقق إنجازات نوعية    24 نوفمبر.. قصة نجاح إنسانية برعاية سعودية    جمعية البر في جدة تنظم زيارة إلى "منشآت" لتعزيز تمكين المستفيدات    موديز ترفع تصنيف المملكة الائتماني عند "Aa3" مع نظرة مستقبلية مستقرة    وفاة الملحن محمد رحيم عن عمر 45 عاما    مصر.. القبض على «هاكر» اخترق مؤسسات وباع بياناتها !    حائل: دراسة مشاريع سياحية نوعية بمليار ريال    الخليج يواجه الشارقة الإماراتي .. وعينه على اللقب الثاني في "آسيوية اليد"    الأمر بالمعروف في عسير تفعِّل المصلى المتنقل بالواجهة البحرية    الاتحاد يتصدر ممتاز الطائرة .. والأهلي وصيفاً    بريطانيا: نتنياهو سيواجه الاعتقال إذا دخل المملكة المتحدة    النسخة ال 15 من جوائز "مينا إيفي" تحتفي بأبطال فعالية التسويق    وزير الصناعة والثروة المعدنية في لقاء بهيئة الصحفيين السعوديين بمكة    القبض على (4) مخالفين في عسير لتهريبهم (80) كجم "قات"    بمشاركة 25 دولة و 500 حرفي.. افتتاح الأسبوع السعودي الدولي للحِرف اليدوية بالرياض غدا    بحضور وزير الثقافة.. «روائع الأوركسترا السعودية» تتألق في طوكيو    «الأرصاد»: أمطار غزيرة على منطقة مكة    الملافظ سعد والسعادة كرم    الرياض تختتم ورشتي عمل الترجمة الأدبية    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"الحياة" تواكب فتح "قضية بن بركة" وتعرض قصة أبطالها وخلفيتها التاريخية منذ الإستقلال . قبل الجنرال أوفقير يد الملك مودعاً ونزلت دمعة من عينه ... كان يظن انها المرة الأخيرة التي يراه فيها حياً ! الحلقة الأولى
نشر في الحياة يوم 07 - 08 - 2001

عادت قضية اختفاء المعارض المغربي المهدي بن بركة في باريس سنة 1965 الى الواجهة هذه الأيام مع إدلاء ضابط الاستخبارات السابق أحمد البخاري بإفادات تؤكد ان مسؤولين مغاربة بارزين تورطوا في خطفه وتعذيبه حتى الموت ثم تذويب جثته في حوض أسيد في "دار المقري" في الرباط. تواكب "الحياة" في هذا الملف الذي أعده مدير مكتبها في الرباط محمد الأشهب، فتح "قضية بن بركة" التي وتّرت العلاقات لسنوات طويلة بين المغرب وفرنسا.
ما هي حقيقة تورط وزير الدفاع والداخلية المغربي الراحل الجنرال محمد أوفقير في تصفية المعارض اليساري؟ ومن هم أبطال القضية، بدءاً بالجنرال الراحل أحمد الدليمي وضابط الاستخبارات محمد العشعاشي، نزولاً الى الفرنسيين الذين رتّبوا عملية الخطف الشهيرة ليل 29 تشرين الأول اكتوبر 1965 أمام حانة "ليب" في الحي اللاتيني في العاصمة الفرنسية؟
يُلقي هذه الملف الذي تنشره "الحياة" على حلقات بدءاً من اليوم، أضواء على الخلفيات التاريخية لقضية وفاة المهدي بن بركة، بدءاً من الصراع الذي نشأ مباشرة بعد استقلال المغرب عن فرنسا بين القصر وبعض قادة "جيش التحرير"، وكيف تطور ذلك الصراع الى أول انشقاق عن حزب الاستقلال الذي خرج من رحمه الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بقيادة يساريين مغاربة على رأسهم بن بركة.
كذلك يعرض واقعة "حرب الرمال" في 1963 مع الجزائر التي أيدها بن بركة. ونال الأخير بسبب "موقفه الخياني" هذا حكماً بالإعدام في الرباط.
ويُسلّط الملف أيضاً الضوء على الاتصالات السرية التي أجراها القصر مع بن بركة في منفاه، في سويسرا وفرنسا، بهدف إقناعه بالعودة الى بلاده رئيساً للحكومة، كما كان يتوقع. لم يكن يعرف بالتأكيد ان اللقاء الذي رُتّب له في باريس، في ذلك اليوم الخريفي من تشرين الأول 1965، كان مع الجنرال محمد أوفقير ومساعديه من ضباط الاستخبارات المغربية الذين يُزعم انهم عذّبوه تعذيباً شديداً أدى الى وفاته.
تعددت الروايات عن طريقة قتله. بعضهم يقول انه طُعن بخنجر كان يحمله أوفقير. آخرون يتحدثون عن وفاته بعدما لوى أحد مرافقي الجنرال عُنقه. بعضهم تحدث عن نقل الرأس بطائرة عسكرية الى الرباط ودفن بقية الجثة في مكان ما في ضواحي باريس، في حين يقول آخرون ان الجُثة كلها نُقلت الى "دار المقري" حيث ذُوّبت في حوض أسيد.
تبدأ الحلقة الأولى اليوم بقصة الاتصالات بين القصر والمهدي بن بركة في الستينات، وتعرض إنفضاح دور الجنرال أوفقير في المؤامرتين الفاشلتين لإطاحة الملك الراحل الحسن الثاني في 1971 و1972، وتُقدّم خلفية تاريخية لمرحلة ما بعد الاستقلال ومحاولات دمج "جيش التحرير" في القوات الملكية النظامية.
صيف 1965 رن الهاتف في الرباط في بيت سفير مغربي سابق في يوغوسلافيا، كان على الخط الآخر الأمير عبدالله شقيق الملك الراحل الحسن الثاني. من دون مقدمات قال الأمير: "هيء نفسك لسفر مفاجئ غداً، ستجد تذكرة سفر ذهابا وايابا من الدار البيضاء الى جنيف في مطار محمد الخامس". واضاف: "قد تجدني هناك، ولكن إياك ان تكلمني او تصافحني حتى نصل الى جنيف". بدا الامر غريبا للسفير المغربي الذي كان يرتبط بعلاقات ودية مع الأمير عبدالله، وفكر في ان الرحلة لن تكون بهدف السياحة. فقبل بضعة ايام كان في رفقة الأمير لكنه لم يحدثه عن اي سفر محتمل.
توجه السفير المغربي الى مطار محمد الخامس في الدار البيضاء صباح اليوم التالي. وجد شخصاً في انتظاره أمام وكالة الخطوط الجوية. سلمه بطاقة السفر وتمنى له رحلة سعيدة. لم يشأ السفير ان يعبر من البوابة الرسمية، اذ لم يكن هناك ما يوحي بأن أميراً مغربياً سيسافر ذلك الصباح. وعندما كان يتقدم لختم جواز سفره لمح وجها يعرفه. انه الأمير عبدالله ذاته بقامته الطويلة ولباسه الانيق. له شاربان فقط ووضع قبعة على رأسه ونظارة سميكة تخفي ملامحه. اختلط الامر على السفير: هل هو الأمير حقاً ام انه الشبه كما في الخلق والظروف؟ تذكر ان الأمير تمنى عليه ألا يكلمه، وعندما جلس الاثنان في مقعدي الطائرة لم ينبس احدهما بكلمة. اخرج الأمير كتاباً من حقيبة يد واستغرق طويلا في القراءة. لم يلحظ عنوان الكتاب، هل كان رواية ام دراسات، الا ان الاكيد ان ولع الأمير عبدالله منذ ذلك الوقت بقوانين البحار ستجعله يعرض دكتوراه في الموضوع حظيت بتقدير باحثين فرنسيين. وربما كان يستلهم من الرحلة عبر اجواء الساحل الاطلسي والبحر المتوسط معالم تلك القوانين وانواع الصراعات الدولية.
دامت الرحلة من الدار البيضاء الى جنيف حوالى اربع ساعات ونصف ساعة، اكتفى خلالها الأمير بطلب قهوة سوداء. لكن السفير ادرك ان الامر يتعلق بمهمة سرية. وبعد انتهاء اجراءات الحدود في مطار جنيف بصورة عادية سلم الأمير الى صديقه السفير بطاقة صغيرة كانت تحمل عنوان اقامة خاصة في جنيف. هناك سيلتقيان مساء اليوم نفسه. وسيكتشف السفير ان الرحلة كان هدفها لقاء المعارض المغربي المهدي بن بركة. كان يعرفه شخصياً، لذلك فقد سر كثيراً حين رن الهاتف في تلك الإقامة الخاصة، وكان بن بركة على الخط الآخر يسأل صديقه السفير كيف تمت الرحلة.
مساء اليوم نفسه اجتمع الرجال الثلاثة، تكلموا في موضوعات عدة، لكن السفير أدرك ان يوم عودة المهدي الى المغرب اصبح قريبا، لكن تلك العودة لم تتم وهو على قيد الحياة. وكان اختيار الأمير عبدالله للمهمة ذاتها يعني ان الموضوع يتعلق بمبادرة من الملك الراحل الحسن الثاني، فقد عُرف عن الأمير عبدالله انه حافظ على علاقات ودية مع قيادات المعارضة وقتذاك. وكان حين يصعب قيام حوار بين الطرفين، يتدخل في الموضوع. وروى سياسيون انهم كانوا يجدون لدى الأمير قدرة فائقة على الاستماع، ما حدا بالملك الحسن الثاني الى تعيينه ممثلا شخصيا في مراحل احتدام الصراع بين القصر والمعارضة.
لم تكن تلك اول جولة مباحثات بين رسميين مغاربة والمعارض بن بركة، فقد سبقتها ايحاءات ولقاءات، تمثلت من جهة في صدور عفو ملكي عن معارضين للنظام في اذار مارس 1965، وأيضاً في ايفاد مبعوثين عن الملك الحسن الثاني الى بن بركة. في فرانكفورت كان المهدي بن بركة اجتمع الى الأمير علي، ابن عم الملك الحسن الثاني الذي عين سفيراً لبلاده في باريس في الفترة التي خطف فيها المعارض المغربي وقتل. وحدث اتفاق على قضايا عدة، في مقدمها ان المهدي سيصبح رئيس وزراء في حكومة مرتقبة، وان البلاد ستدخل مرحلة جديدة من الوفاق بين القصر والمعارضة، لكنه وفاق ظل حبيس الصدور ولم يتحقق إلا بعد مرور 33 عاما على لقاء جنيف. وكما ان كثيراً من الاسرار عن لقاءات المهدي وشخصيات رسمية مغربية لم تكشف غير جوانب قليلة منها، فإن القَسَمَ الذي قال رئيس الوزراء المغربي عبدالرحمن اليوسفي انه أداه امام الحسن الثاني عند توليه المسؤولية سنة 1998 سيظل بدوره سراً غامضاً وإن كانت الظروف تغيرت. فالمحامي اليوسفي الذي كان يرافع في محكمة باريس وهي تنظر في قضية اختفاء رفيقه المهدي بن بركة هو نفسه الذي يرافع الآن من موقع آخر في واجهة المسؤولية الحكومية. يومها خلال الاتصالات مع الملك بهدف فتح صفحة جديدة في منتصف الستينات قال: "اذا كان مولاي الملك يصر على ان يعود بن بركة غداً فإننا على استعداد لمعاودة النظر في الموضوع". لكن الملك الراحل أجابه: "ما دام المهدي لم يعد في الفترة التي حددتها له، فإن الامر لم يعد بالاهمية في الوقت الحاضر". واضاف الملك، كما يروي اليوسفي، "ان السياسة غالبا ما يجري تفسيرها بالعلامات"، فهل كانت العلامات تعني ان الرجل تخلف عن موعد العودة الى البلاد في الظرف المناسب، ام ان هناك من التقط الجملة ليضع حواجز امام طريق العودة، لكن ليس في صورة علامات المرور وانما في صورة علامات التوقف نهائياً عن السير كما في حال المهدي بن بركة الذي توقف قلبه عن النبض في فيلا بوتشيس في ضواحي باريس ليصبح قضية ألقت بظلالها على العلاقة المغربية - الفرنسية، وكذلك على الاوضاع الداخلية في البلاد فترة طويلة.
لكن الملك الحسن الثاني اختار تكريم استاذه في الرياضيات، وان لم تلتق إرادة الرجلين في حل المعادلة المغربية. ففي 1998 اختار الملك اطلاق اسم المهدي بن بركة على شارع بني يزناسن في الرباط، لكنه همس الى رئيس وزرائه: "سنواصل العمل من اجل كشف الحقيقة" في قضية بن بركة. والظاهر ان اختيار اليوسفي، رفيق المهدي في النضال والمنفى، كان موحياً. فقد شاءت الاقدار ألا يعود المهدي عام 1965 لتسلم منصب رئيس الوزراء، لكن رفيقه الذي عاد للمرة الثانية في صيف 1994 بعد صدور عفو شامل على معتقلين ومنفيين، كان في مقدمهم المعارض الفقيه محمد البصري، تسلم المنصب... ولكن بعدما تحول "الاتحاد الوطني للقوات الشعبية" الى "الاتحاد الاشتراكي" منذ انشقاق عام 1973 الذي أقر قطيعة مع "الخيار الثوري" الذي عرف به بن بركة، واندمج الحزب في خيار الحل الديموقراطي لاشكاليات البلاد. الا انه قبل اقرار القطيعة مع هذا التيار الذي تلقى ضربة قوية منذ غياب بن بركة حدثت تطورات سياسية عدة في البلاد التي كانت دخلت فترة استثناء وتعليق البرلمان عام 1965. واحتاج الامر الى حوالى خمس سنوات لاقرار دستور جديد وتنظيم انتخابات قاطعها الاستقلال والاتحاد الوطني للقوات الشعبية، واسفرت عن تشكيل برلمان لم يعمر غير بضعة اشهر، خصوصاً في ضوء تداعيات المحاولتين الانقلابيتين ضد الملك الحسن الثاني عامي 1971 و 1972 التي تورط فيهما عسكريون متنفذون كانوا اقرب الى محيط الملك، وبرزت الاسماء نفسها التي كانت تلقى معارضة قوية من المهدي بن بركة.
المحاولة الثانية: أوفقير
قبل ان يركب الملك الحسن الثاني الباخرة في اتجاه فرنسا عبر طنجة ثم مرسيليا صيف 1972 كان الجنرال محمد اوفقير في وداعه كالمعتاد. انحنى في انضباط وقبّل يده، لكن دمعة انهمرت على خده، وكانت تلك المرة الاولى التي يُرى فيه الجنرال باكياً.
وظهر بعد بضعة ايام، اثر تورطه في المحاولة الانقلابية الثانية يوم 16 اب اغسطس 1972، انه كان يبكي لأنه اعتقد بأن تلك آخر مرة يشاهد فيها الملك. الصدفة وحدها جعلت الملك المغربي يغادر فرنسا قبل الموعد المحدد بيوم واحد. كان لديه شعور غريب بأنه سيكون على موعد مع حدث مفاجئ. وحين غادر باريس أعرب لمرافقيه في الطائرة عن الرغبة في تغيير مسار الرحلة عبر التوقف في برشلونة حيث تناول طعام الغداء برفقة مسؤولين اسبان. لكنه طلب الى الجنرال محمد القباج، ربان الطائرة، ان يغير طريق العودة مرة اخرى، من خلال المكوث لفترة اطول في الاجواء الاسبانية. وكانت المفاجأة المأساة ان سرباً من طائرات "اف - 5" أحاط بالطائرة الملكية بمجرد دخولها الاجواء المغربية شمال البلاد. سأل الملك ماذا تريدون، وكان الرد ان السرب يرافق الطائرة لحمايتها، فطلب اليهم الملك العودة الى قواعدهم، لكنهم لم يفعلوا. كان عليهم ان يحددوا موقع طائرة "البوينغ 727" بدقة قبل البدء بمهاجمتها.
كانت اللحظة حرجة عندما بدأت الطائرات تطلق النار واستقرت رصاصة قريبا من انبوب الغاز. ذعر الجميع وشرعوا في قراءة الفاتحة، فيما كانت النيران تشب في احد المحركات. جالت بخاطر الحسن الثاني افكار عدة، أبرزها ان الجنرال اوفقير كان وزير الدفاع وانه الوحيد الذي يمكنه ان يصدر أمراً بإقلاع طائرات "اف - 5" من القاعدة العسكرية في القنيطرة على بعد حوالى 40 كلم شمال العاصمة الرباط. كان المشهد مؤثراً. وكان الاختيار بين الموت والموت هو وحده ما حدا بالجنرال القباج الى تشغيل محرك الطائرة الملتهب، طلب ذلك الى الملك فوافق بديهياً.
نزل الملك الحسن الثاني على أرض المطار ومشى لأول مرة على عجل. كان شعر رأسه يبدو كما لو ان رياحاً عبثت به. استعرض فرقة للحرس وقدم اليه الوزراء التحية. لم يكونوا يدركون ما جرى، لكن الملك سأل بحدة أين اوفقير؟ فقيل له انه كان حاضراً وغادر لتوه بعدما نودي عليه من برج المراقبة. أدرك الملك انه متورط، وانه ابلغ فشل محاولة اسقاط الطائرة فتوجه الى مقر وزارة الدفاع في الرباط. بعد لحظات عاودت طائرات "اف - 5" هجماتها. لكن الملك اختار ركوب سيارة من نوع "بيجو" يملكها موظف صغير في المطار. اخترق شوارع العاصمة من دون حراسة، في حين انزوى شقيق الملك الأمير الراحل عبدالله في بيت احد القرويين قريباً من غابة المعمورة.
وتحول ذلك البيت مع مرور الايام الى حي صغير آهل بالسكان، ثم الى مدينة نبتت فجأة بلا مقاييس عمرانية. الا ان الملك عاد الى تلك القرية بعد أكثر من عشرين عاماً، ليعلن من هناك بناء مدينة عصرية اسمها "سلا الجديدة" تطل على الضفة الشمالية لنهر ابي رقراق.
توجه الملك الى منتجع الصخيرات على بعد حوالى 15 كلم جنوب العاصمة، وأدى صلاة الشكر حمداً لله قبل ان تخبره والدته للا عبلة ان الجنرال اوفقير جاء يطلب مقابلته، وانه انصرف على عجل، فيما صدر بيان مقتضب عن وزارة القصور الملكية يعلن "انتحار" الجنرال.
المثير ان برج المراقبة في الرباط اتصل اكثر من مرة بقائد الطائرة محمد القباج لمعرفة توقيت الاقلاع والمجال الذي ستسلكه الطائرة. لكنه رفض تحديد التوقيت لأن الموضوع مرتبط بقرار الملك الذي كان أمر الطائرة بالتوقف في برشلونة، على رغم ان ذلك لم يكن مقرراً من قبل، واجتمع مع وزير الخارجية الإسباني لوبيز برافو الى مأدبة غداء تخللتها محادثات سياسية. وبطريقة لا شعورية سأل الملك القباج هل في وسعه ان يطير في اتجاه تطوان لدى دخول الاجواء المغربية بدل طنجة؟ كان لديه احساس بشيء ما. وحين كانت "البوينغ 727" تعبر الاجواء المغربية فاجأتها ست طائرات قاذفة من نوع "اف - 5" كانت اقلعت من القاعدة العسكرية في القنيطرة على بعد حوالى 40 كلم شمال الرباط.
فجر الرابع عشر من آب اغسطس 1972 اعلن رسمياً انتحار الجنرال اوفقير. ووصف وزير الداخلية المغربي السابق محمد بنهيمة الحادث بأن "انتحار خيانة". لكن اوفقير كان قبل ذلك اتصل بزوجته التي كانت تمضي عطلة في منتجع سياحي شمال البلاد وطمأنها: "كل شيء على احسن ما يرام". العقيد امقران الذي كان توجه الى جبل طارق طالبا اللجوء السياسي برفقة العقيد الميداوي، اعلن ان ما حدث في المغرب كان من تنظيم قائد عسكري رفيع المستوى يبدأ اسمه بحرف "او". وفهم انه اوفقير شخصياً. في حين ان بقية المتورطين، وفي مقدمهم العقيد كويرة، اعتقلوا في القاعدة العسكرية في القنيطرة وحوكموا وصدرت أحكام بالاعدام الذي نفذ فجر عيد الاضحى عام 1973. وكشفت وقائع المحاكمة التي جرت في تشرين الاول اكتوبر 1972 ان الجنرال اوفقير بدأ التخطيط لإطاحة الملك الحسن الثاني، بعد فشل المحاولة الانقلابية في الصخيرات في 1971. وكان لافتا في محاكمة القنيطرة ان المستشار السابق للملك احمد رضا غديرة دافع عن المتهم العقيد بوخالف. فقد كان وقتها محامياً، لكنه عاد الى الواجهة عام 1977 مستشاراً بارزاً للملك قبل ان يغيبه الموت خريف 1996.
الا ان تداعيات المحاكمة لم تخل من مآخذ عدة، أبرزها ان العسكريين الذين دينوا في المحاولة الانقلابية، سجنوا في معتقل تازمامارت الرهيب، على رغم انتهاء مدة العقوبة، مما رتب مضاعفات حولت الملف الى قضايا تتعلق باحترام حقوق الانسان، وإن كان الحسن الثاني الذي أكد مرة عدم علمه بظروف الاعتقال في تازمامارت، أوضح انه كان يحبذ فكرة عدم اقحام المتورطين في المحاولتين الانقلابيتين ضده مع المتهمين بجرائم الحق العام.
المحاولة الأولى: الصخيرات
كانت تلك بعض وقائع المحاولة الانقلابية الثانية، ذلك ان منتجع الصخيرات عرف في العاشر من تموز يوليو 1971 محاولة انقلابية اولى. كان كل شيء جاهزاً للاحتفال بعيد ميلاد الملك. كان المدعوون من وزراء وسفراء وشخصيات يتبادلون التحيات في يوم صيفي، تهب فيه نسائم البحر على منتجع اختاره الملك مقراً لإقامته، ولم يخطر في بال أحد ان جنوداً يركبون عربات مسلحة أمضوا ليلة كاملة في الطريق الى هناك، قادمين من المدرسة العسكرية في "هرمومو" شمال مدينة فاس التي اصبح اسمها "رباط الخير".
كانت تلك محاولة انقلاب تورط فيها عسكريون في مقدمهم الجنرال محمد المذبوح. لكن السرعة التي حوكم بها الجنرالات المتورطون، وتسلم الجنرال محمد اوفقير كل الصلاحيات العسكرية والمدنية لاخماد التمرد، طرحا تساؤلات. فهل خشي اوفقير ان تكشف التحقيقات تورطه المحتمل؟ وحين كان جنود يطلقون رصاص الاعدام على اولئك الجنرالات الذين صاح احدهم "عاش الملك" في ضواحي العاصمة الرباط قبل مركز تمارة على الساحل الاطلسي، كان فصل آخر من الغموض يلف تاريخ الصراع على السلطة في البلاد يطوى، وإن كان الحال في قضية المهدي بن بركة مغايراً.
الصراعات والاستقلال
ثمة صراعات كبيرة ستكون البلاد مسرحا لها بسبب الموقف من معاودة دمج جيش التحرير بالقوات المغربية، وكان لافتا ان الملك محمد الخامس حرص على ان يسلم افراد من زعامات جيش التحرير وقتذاك اسلحتهم الى رئيس اركان الجيش المغربي، الحسن الثاني ولي العهد وقتذاك. وتألفت يومها لجنة من زعماء الاحزاب السياسية لابرام وثيقة الاستقلال في حضور: المهدي بن بركة و ابو بكر القادري عن الاستقلال، والحاج احمد معنينو عن الشورى والاستقلال، والمكي الناصري عن الوحدة والاصلاح، ومحمد الخطيب عن الاصلاح الوطني. وكان الهدف من ذلك تأكيد ولاء الاحزاب السياسية للعرش، وتجاوز الخلافات التي كانت اعترت المشهد السياسي بين التيارات المتصارعة، خصوصاً ان محمد الخامس كان متمسكا باشراك الزعامات السياسية في مفاوضات "اكس ليبان" المغربية - الفرنسية حول الاستقلال. وقد قبل المهدي بن بركة ذلك، في حين ان الزعيم السياسي علال الفاسي الذي كان موجوداً وقتذاك في القاهرة رهن اذعان جيش التحرير لتعليق المعارك التي كانت اندلعت في مناطق عدة في البلاد، بسيطرة الحكومة على كل الاوضاع الامنية. لكنه رفض مساندة حكومة مبارك البكاري اول رئيس وزراء للبلاد، مما خلّف مضايقات تمثلت في مقتل سياسيين واعضاء في جيش التحرير وشخصيات مستقلة، كما في حالات العالم عبدالواحد العراقي والنقابي محمد البيرش، ورجل المقاومة عبدالرحمن المخنث، واول ربانة للطائرة الآنسة ثريا الشاوي، والقائد عباس المسعدي.
وأبرم رئيس الوزراء المغربي البكاي ونظيره الفرنسي كريتان بينو وثيقة في الكي دورسي تعترف ب "استقلال المغرب ووحدة اراضيه".
إلا ان ارتباط جيش التحرير المغربي بالتنسيق مع جبهة التحرير الجزائرية كان له تأثير في مسار العلاقات بين البلدين. ويروي السيد ندير ابوزار الذي كان يعرف باسمه الحركي "عبدالقادر" انه ورفاقه ساهموا في تدريب المقاتلين المغاربة والجزائريين على حرب العصابات ابان فترة الكفاح من اجل الاستقلال، وان مبادرة في هذا الاتجاه اقرت في القاهرة التي كانت تأوي بعض زعماء الحركات الوطنية في المنطقة، مما يحمل على الاعتقاد بأن المهدي بن بركة افاد من ذلك التنسيق واقام علاقات جيدة مع القيادتين في الجزائر ومصر على حد سواء، خصوصاً انه بعد استقلال المغرب والجزائر برز توجه قومي لدى الفاعليات السياسية في مواجهة تيار ليبرالي تبلور لاحقاً عبر تأسيس احزاب سياسية جديدة في البلاد كانت تقابل بانها من "صنع الادارة" وطبع الصراع فترات متلاحقة في تاريخ البلاد.
ويرى المحجوبي احرضان زعيم الحركة الوطنية الشعبية التي كانت تأسست عام 1957، ان صراعات داخل جيش التحرير كانت وراء اندلاع تمرد الريف وهجمات أخرى في مناطق عدة في البلاد. ويؤكد انه بعد عودة الملك محمد الخامس من المنفى في مدغشقر عام 1955 لم يعد هناك اي مبرر لاستمرار عمل جيش التحرير. مما يعني ان الصراع على القضية كان محور خلافات عميقة قادت الى تداعيات سلبية في السنوات الاولى للاستقلال في نطاق صراع محتدم على السلطة. وكان المحجوبي احرضان نفسه عين وزيراً للدفاع في حزيران يونيو 1965، واستمر في مزاولة مهماته الى عام 1967. وقد سئل مرة عن رأيه في بن بركة، فأجاب: "كان صريحاً وجريئاً". واضاف: "عندما كنت أصارحه هل تريد فرض نظام الحزب الوحيد بالقوة كان يجيب: الحزب الوحيد بكل الوسائل". وتابع احرضان "حين كنت اسرد له وقائع التجاوزات عمن قتل ومن خطف، كان يرد: "الثورة تأكل ابناءها".
غداً حلقة ثانية:
حرب الرمال


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.