سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
قصة تأييد بن بركة الجزائريين في "حرب الرمال" ...و"ترقية" ضابط الاستخبارات الصاكة الى "عميد". صوب أوفقير المسدس الى رأسه وقال للملك : ابتعد قليلاً لئلا يلوثك دمي ! الحلقة 2
} تُتابع "الحياة" نشر حلقات ملف "قضية بن بركة". وبعدما عالجت الحلقة الأولى، أمس، الاتصالات السرية التي كان القصر يُجريها بالمعارض الراحل في الستينات، تعرض حلقة اليوم ل "حرب الرمال" بين المغرب والجزائر في 1963 وهي الحرب التي ساند فيها بن بركة الجزائريين ضد نظام حكم الملك الراحل الحسن الثاني. كذلك تعرض للروايات التي تشير الى ان الجنرال الراحل محمد أوفقير كان يُعرقل الاتصالات التي تُجرى مع المعارضة، وانه كان يفكّر في إنقلاب عسكري يُسيطر فيه الجيش على مقاليد الأمور. يعود حادث اختفاء المعارض الراحل المهدي بن بركة الى منتصف الستينات، وهي فترة كان عرف المغرب خلالها قلاقل مدنية واعمال عنف في الدار البيضاء ومدن اخرى واتسم خلالها تدخل قوات الامن بقيادة وزير الداخلية وقتذاك محمد اوفقير بالعنف، مما حدا بالعاهل المغربي الحسن الثاني الى اعلان حال الطوارئ وتعليق البرلمان. بيد ان هذه التطورات لم تكن منفصلة عما قبلها من احداث طبعتها مواجهات بين الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي يعتبر المهدي بن بركة احد زعمائه البارزين، والقصر، بسبب اتهامات بالتآمر على النظام من جهة ومحاولات تصحيح الاوضاع السياسية والاقتصادية في البلاد من جهة ثانية، خصوصاً ان الاتحاد الوطني قاطع الاستفتاء على اول دستور عرفه المغرب بعد الاستقلال عام 1962، مما خلف توتراً في الاجواء أثر تأثيراً ملحوظاً في محور العلاقة الخاصة التي كانت تجمع بين الحسن الثاني واستاذه في الرياضيات المهدي بن بركة. وزاد في تعقيد الموقف ان البلاد عرفت احداثا سياسية وصفت وقتذاك بأنها "مؤامرات على النظام"، تورط فيها قياديون في الاتحاد بينهم بن بركة حكم عليهم بالاعدام. لكن الحكم لم ينفذ كما في حالات الفقيه محمد البصري والراحل عمر بن جلون الذي اغتيل عام 1974 على أيدي تيارات اسلامية متشددة. الا ان نقطة التباعد الرئيسية تكمن في الموقف الذي التزمه بن بركة حيال "حرب الرمال" التي اندلعت بين المغرب والجزائر في تشرين الاول اكتوبر 1963، ووصفها بن بركة في نداء وجهه من خارج المغرب بأنها "حرب تخدم مصالح الامبريالية ووقعت بتحريض منها". الا ان مراقبين لتطورات العلاقة بين المغرب والجزائر عزوا ذلك الى ان الجزائر كانت ملاذاً لمعارضي النظام المغربي يلجأون اليها. وكانت تمدهم بالسلاح والعتاد لشن هجمات على النظام كان آخرها هجمات على منطقة "مولاي بوعزة" شمال غربي البلاد عام 1973 والتي تورط فيها منتسبون الى الاتحاد دينوا وحكم عليهم بالإعدام ونفذ في بعضهم، وصدر عفو عن آخرين. وروى البشير بن احمد مدير مجلة "جون افريك" عن مستشار للحسن الثاني غيبه الموت انه أسرّ اليه بأن الحكم باعدام بن بركة صدر بسبب موقفه من "حرب الرمال"، وانه نفذ. لكنه لم يكشف ظروف صدور القرار وتنفيذه. في حين روى الحسن الثاني شخصياً انه سأل الجنرال اوفقير عن الضلوع في قضية خطف بن بركة، فنفى ذلك وقال انه "على استعداد للمثول امام القضاء الفرنسي في حال ظهور قرائن تدينه". لكن الملك استدرك الموقف بإبلاغه اوفقير عام 1972 بامكان اشراك قياديين في المعارضة وقتذاك في الحكومة، فرد الجنرال: "لماذا لم تخبرنا بذلك من قبل كي نحزم حقائبنا للرحيل عن البلاد؟". وخلص الملك الى انه في كل مرة كان ينوي الانفتاح على المعارضة كان اوفقير يردد بأن هناك مؤامرة تستهدف القصر. والرابط بين الوضعين في المغرب عامي 1965 و1972 ان الحسن الثاني أصدر عفواً شاملاً على معارضيه الذين دعاهم عام 1965 الى المشاركة في الحكومة. وقال امام قياديين بينهم عبدالرحمن اليوسفي: "كنت اود لو ان استاذي في العلوم الرياضية، والذي انا مدين له بنظامي السياسي والوطني، عاد ايضا الى المغرب، ولكني لم افهم لماذا لم يرد على اقتراحي، هل يخشى فخا؟". وتدارك اليوسفي الموقف قائلاً: "لا بد ان سفيرك يقصد الأمير مولاي علي إبن عم الملك ذكر لك ان المهدي بن بركة موافق على العودة الى الوطن، وانه بمجرد ان تسمح له ارتباطاته الدولية سيأتي للانضمام الينا". لكن حدث خطف بن بركة في 1965 اعاق خطوات الانفتاح السياسي. والحال انه بعد فتح باب المفاوضات مع المعارضة في ربيع العام 1972، جاءت المحاولة الانقلابية الثانية في اب اغسطس من العام نفسه لدى تعرض طائرة الملك لهجمات اثر دخولها الاجواء الدولية آتية من باريس عبر مدريد. وكان الجنرال اوفقير في مقدم المتورطين فيها. مما يرجح انه على علاقة بعرقلة الوفاق الضائع لسنوات طويلة بين القصر والمعارضة. ولكن هل كان في وسع اوفقير ان يتصرف وحده؟ وهل كان وضعه المميز في هرم مراكز النفوذ يتيح له ان يخطط وحيداً؟ وأي علاقة ساقت الى حدوث تنسيق محكم بين اجهزة استخبارات اخرى كانت تضع المهدي بن بركة في وضع الرجل المزعج الذي يتعين الخلاص منه؟ شارعان طويلان وما بينهما في الرباط يتقاطع شارعان طويلان من البداية انطلاقا من شمال غربي العاصمة، شارع الحسن الثاني الذي يبدأ من قنطرة وادي ابي رقراق الذي يصب في الساحل الاطلسي فاصلا بين الرباط وسلا. ومن الجهة الاخرى يحيط شارع آخر بخصر المدينة عبر مقر السفارة الاميركية ووزارة الخارجية في اتجاه الاحياء الراقية في السويسي حيث المواقع تعرف بالكيلومترات. لكن الرابط بين الشارعين في قضية المهدي تحديدا ان شارع الحسن الثاني كان يضم البيت القديم للمهدي قبالة مركز ثقافي فرنسي تحول الان محلاً تجارياً لبيع الاثاث. وفي نهايته تقريباً، في اتجاه الطريق المؤدي الى الدار البيضاء، كانت هناك فيلا شهيرة عرفت بأن الجنرال اوفقير كان يتردد عليها وكانت تؤوي الضابط الغالي الماحي المتورط في قضية بن بركة. في حين ان الشارع الآخر يقود عمودياً نحو جنوب شرقي العاصمة، حيث كان هناك معتقل سري اقيم في فترة سابقة يوم لم تكن المنطقة مأهولة بالسكان. وكما ان فيلا شارع الحسن الثاني شكلت علامة في قضية بن بركة، فان "دار المقري" في نهاية طريق السويسي تقريباً ارتبطت باعتقال معارضين للنظام. وقال عنها العميل السابق للاستخبارات المغربية احمد البخاري انها عرفت تذويب جثة بن بركة وجثث آخرين في حوض مملوء بحامض الاسيد. وما بين هذين الشارعين في منطقة لا تبعد كثيرا عن مرتفع حسان الذي عرف بصومعة حسان الشهيرة، بمحاذاة ضريح الملك محمد الخامس ونجله الملك الحسن الثاني، كان هناك مقر "الكاب 1" الذي اثير دوره من جديد على اثر افادات البخاري. المزارع والفنان استطيع ان اتذكر انه في مطلع 1972 وكنت اعمل وقتذاك في صحيفة "العلم" المغربية التي يصدرها حزب الاستقلال المعارض في تلك الفترة، قادتني الظروف الى التعرف الى الغالي الماحي صدفة في عشاء في مطعم "جور اي نوي". تقدم مني رجل قصير القامة كان يبدو عليه الكثير من الانشراح، وسألني هل ارغب في الدردشة حول مسرحية اقتبسها عن كاتب فرنسي. وقد كنت وقتذاك اشرف على الصفحة الفنية في "العلم" وبدا الامر للوهلة الاولى غريبا بعض الشيء، لكن فنانا مسرحياً قال لي ان الماحي صديق الفنانين، وسألته عن مهنته، فأجاب: "انا مزارع". وعجبت للربط بين شخص المزارع والفنان، فقال: "ما العيب في ذلك؟ الفن من الحياة والزراعة عنوانها". وقتها لم يكن اسم الغالي الماحي معروفا الا في نطاق اوساط محدودة، لكن صديقا له أخبرني لاحقاً انه الابن المدلل للجنرال اوفقير، وانه حرص شخصياً على زواجه. لكن اللقاء اليتيم لم يتكرر ابداً. وقد سمعت عام 1983 انه توفي اثر حادث سير، بعد بضعة اسابيع على غياب الجنرال احمد الدليمي. لكن الفيلا التي كان يقطنها عند مدخل الرباط ما زالت في مكانها وان كانت اشجار كثيفة غطت واجهتها الامامية التي يُقال انه كان مكتوباً عليها "من دخل دار ابي سفيان فهو آمن". ما بين الرباطوباريس... والصورة المفارقة في قضية بن بركة، ابن الرباط ونائبها في برلمان سابق عند بداية الاستقلال، ان شوارع المدينة تبدو محدودة بين المداخل والمخارج، حتى وان كانت توسعت كثيرا في السنوات الاخيرة. لكن شوارع باريس المتقاطعة هندسة وسياسة سيظل الغموض يلفها ازاء ما حدث بالضبط منذ 29 تشرين الاول 1965 تاريخ خطف المهدي بن بركة. والحال ان بعض العناوين التي يقال ان جثة المهدي دفنت فيها في الرباط تلتقي وحال العاصمة باريس التي تتردد في ضواحيها السيناريوهات نفسها. والظاهر ان ولع المهدي بن بركة بالطريق، كما في مشروع طريق الوحدة الذي ربط بين اجزاء في شمال المغرب وجنوبه في السنوات الاولى للاستقلال سيتعارض وطريق البحث عن الحقيقة في نهاية الرجل. لكن الفضول الصحافي وحده جعل مصورا يختار التقاط صورة موحية كانت تجمع في سيارة واحدة، الملك الحسن الثاني وهو يقود السيارة ضاحكا، كما في حال الانتشاء، والى جانبه الجنرال محمد اوفقير منصتا وكتوما، وفي المقعد الخلفي كان المهدي بن بركة بنظراته الثاقبة يواكب الحديث. وتحيلنا اللقطة على صورة اخرى معبرة ستغيب عن الارشيف المغربي، وهي تضم الحسن الثاني وكان وقتذاك وليا للعهد وبن بركة يرتديان سروالين قصيرين ويحملان فأسين في اشارة الى اعطاء الانطلاق لبناء طريق الوحدة شمال البلاد. وما علق من المشروع الذي بدا عام 1957 ان بعض المشاركين فيه اصبحوا مسؤولين رفيعي المستوى، وفي مقدمهم السيد عبدالواحد الراضي رئيس مجلس النواب الحالي، والدكتور محمد بنهيمة رئيس الوزراء ووزير الداخلية سابقاً، وجوحنا اوحنا النائب البرلماني السابق المتحدر من اصول يهودية، ومحمد كريم العمراني رئيس الوزراء السابق وآخرون. بيد ان طريق الوحدة هذه التي جمعت الحسن الثاني وبن بركة في ورشة واحدة، سرعان ما قادت نحو المفترق بسبب مواقف وتدعيات طاولت الاوضاع الداخلية في البلاد في فترة حرجة. "المغربة" والقلائل في الثالث من اذار مارس 1973 عيد الجلوس، وفيما كان الحسن الثاني يعلن خطة "المغربة" التي هدفت الى استعادة أراضي المعمرين الفرنسيين ومؤسساتهم وتوزيعها على شخصيات ومؤسسات مغربية، كانت مناطق عدة في البلاد تعرف احداثا خطرة، فقد انفجر بضع قنابل في وجدة على الحدود الشرقية مع الجزائر. وفي الدار البيضاء وضعت متفجرات قرب سيارة القنصل الاميركي، واخرى في المركز الثقافي الاميركي. وفي الرباط العاصمة اكتشفت قنبلة في مسرح محمد الخامس. لكن هذه الاحداث لم تسفر عن ضحايا بشرية. الا ان مواجهات بين القوات المساعدة ومعارضين للنظام جاؤوا من الجزائر في منطقة مولاي بوعزة في جبال الاطلس المتوسط كشفت خطة لاحداث قلاقل مدنية، تردد وقتذاك ان المعارض المغربي الفقيه البصري كان وراءها، لكنه نفى ذلك لاحقاً. كانت هذه الاحداث اول مناسبة برز فيها اسم ضابط الاستعلامات عبدالقادر الصاكة الذي ورد اسمه في افادات عميل الاستخبارات المغربي السابق احمد البوخاري. وطلب الحسن الثاني الى رئيس الاستخبارات المدنية حسين جميل ان يختار احد عناصره البارزين ويتوجه الى منطقة مولاي بوعزة. ونقل عن الصاكة انه كان يحمل رتبة ضابط وقتذاك. وان الملك سأل جميل: "هل هذا هو عميد الشرطة الذي سيساعدك في التحقيق؟" لكن الصاكة اجاب: "لم أصل بعد يا مولاي الى رتبة عميد، انني مجرد ضابط". فرد الملك تلقائياً: "انت عميد منذ الان". وتوجه الاثنان الى منطقة مولاي بوعزة لاخماد المواجهات. وفي الخامس والعشرين من حزيران يونيو 1973 جرت محاكمة متورطين في تلك الاحداث التي قادها عمر دهكون، العامل المهاجر الذي كان غادر المغرب بعد احداث القلاقل المدنية في الدار البيضاء 1965، اضافة الى آخرين صدرت احكام بإعدام بعضهم وسجن آخرين. بن بركة المنشق لكن وقائع الاحداث تعود الى سنوات خلت، عندما اختار الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي كان المعارض المهدي بن بركة احد زعمائه البارزين الى جانب الفقيه محمد البصري وعبدالله ابراهيم وعبدالرحيم بوعبيد وعبدالرحمن اليوسفي، ان يواجه نظام الحسن الثاني في بداية الستينات. وكان حزب الاستقلال خرج قويا من معركة الحركة الوطنية ضد الاستعمار الفرنسي، وكان يضم تيارات متباينة، مثل اي حركة تحرير. لكن بن بركة الذي كان سكرتيرا عاما للحزب الذي كان يقوده وقتذاك احمد بلافريج تورط نجله انيس لاحقاً في الانتساب الى تيار يساري الى جانب ابراهام السرفاتي المتحدر من اصول يهودية عام 1974 قاد حركة انشقاق داخل حزب الاستقلال عام 1959 اسفرت عن تأسيس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. وكانت تلك بداية تشرذم داخل الاحزاب المغربية الى حين تبلورت مبادرات جديدة من خلال تحالف الاستقلال والاتحاد الاشتراكي الذي كان انشق عن الاتحاد الوطني، قادت لاحقاً الى تولي عبدالرحمن اليوسفي رئاسة الوزراء عام 1998. لكن بن بركة غادر المغرب الى الجزائر وعواصم اوروبية اخرى عام 1960، اثر ما عرف وقتذاك بمؤامرة لاغتيال الحسن الثاني الذي كان وليا للعهد. ومن المفارقات ان الحادث جرى في وقت كان عبدالله ابراهيم رئيساً للوزراء. لكن خلافات ومواقف سياسية عدة دفعت الى حجز صحيفة "التحرير" التي كان يديرها اليوسفي ويرأس تحريرها الفقيه محمد البصري. دمج جيش التحرير بدأ المغرب في السنوات الاولى لاستقلاله تنفيذ خطة لدمج جيش التحرير الذي خاض معارك في الصحراء ومناطق اخرى ضد الاستعمار الفرنسي، بالقوات المغربية. وكان الامر يتعلق بأكثر من عشرة الاف مقاتل مزودين عتاداً حربياً. ولدى عودة الحسن الثاني، وكان وليا للعهد آنذاك، من القاهرة حيث شارك في احتفالات لمناسبة تأميم قناة السويس، أُشعر فوراً بأن والده الملك محمد الخامس يريد منه التوجه الى مدينة فاس برفقة وزير الداخلية يومها ادريس المحمدي الذي لعب دورا اساسيا في العملية. والارجح ان خلافات بين قياديين في جيش التحرير، وفي مقدمهم المهدي بن بركة، حالت دون ذلك الاندماج طبيعياً. وقد روى الملك الحسن الثاني في مذكراته ان شخصا اسمه حجاج اشتبه في انه اغتال احد القادة البارزين في جيش التحرير القائد عباس المسعدي، قبض عليه عندما كان يهم باطلاق الرصاص على الحسن الثاني، واعترف له شخصياً بأن بن بركة جنده لاغتياله. وقد صارح الملك المهدي بن بركة بالموضوع في وقت لاحق. وكانت تلك بداية القطيعة بين الرجلين، وقد تصاعدت حدتها بعد حادثين: الاول يتمثل في مؤامرة على النظام جرت عام 1963، والثاني التزام بن بركة موقفا مناصرا للجزائر في "حرب الرمال" بين البلدين في العام ذاته. في حي البيار في الجزائر العاصمة كان معارضون مغاربة يرصدون الموقف على جبهة القتال. كانوا ينظرون الى الحرب المغربية - الجزائرية بمثابة نقطة سوداء في العلاقات بين البلدين الجارين. وفيما كانوا ينتظرون الموقف الذي سيلتزمه بن بركة الموجود في الجزائر وقتذاك، سارع حميد برادة الذي كان غادر المغرب الى الجزائر أيضاً للمشاركة في تجمع خطابي قيل فيه كلام كثير ضد نظام الحسن الثاني، قال بن بركة ان دوافع امبريالية كانت وراء الحرب. واتهم النظام المغربي بالتورط فيها لاضعاف الثورة الجزائرية الخارجة من سنوات الجمر في مواجهة الاستعمار الفرنسي. وردد برادة بدوره اتهامات ادانة للاستعمار. وفي الطرف الاخر في المغرب كانت محكمة تبحث في تلك التصريحات، وتصدر احكاما بالاعدام على بن بركة وبرادة واخرين بتهمة الخيانة. والارجح، استناداً الى مناصرين للاتحاد الوطني للقوات الشعبية في تلك الفترة، ان موقف السلطات المغربية، لجهة اعتقال الاف المنتسبين الى الحزب بتهم التآمر على النظام ومحاولة قلبه، زادت في فجوة التباعد بين الطرفين، فقد كشف العقيد محمد المذبوح الذي تورط لاحقاً في المحاولة الانقلابية في الصخيرات في 1971 ان المعارض الفقيه محمد البصري طلب اليه خرائط للمعابر المؤدية الى القصر في الرباط، ولمكان اقامة الملك وغرفة نومه، مما أدى الى فتح تحقيقات في مؤامرة 1963 التي شهدت اعتقال أكثر من 6400 منتسب الى الحزب، في مقدمهم محمد البصري، ومومن الديوري، وعبدالرحمن اليوسفي، وعمر بن جلون وآخرين، قضت المحكمة على بعضهم بالإعدام، في حين حكمت على اليوسفي بعامين معلقة التنفيذ بتهمة عدم التبليغ عن وقائع المؤامرة، ودانت آخرين خارج البلاد باحكام بالاعدام كذلك. أصغر الشخصيات عندما وجهت قيادة حزب الاستقلال في كانون الثاني يناير 1944 النداء من اجل توقيع وثيقة المطالبة باستقلال المغرب كان المهدي بن بركة من أصغر الشخصيات التي وضعت بصماتها على الوثيقة التي شكلت بعد ذلك مرجعية في تاريخ الحركة الوطنية. وتلتها عام 1963 وثيقة اخرى تطالب بالديموقراطية. لكن بن بركة الذي عرفت عنه دينامية متميزة أقام علاقات مع حركة المقاومة أدت الى اعتقاله ونفيه الى منطقة جنوب الاطلس في آذار مارس 1951، واطلق سراحه عام 1954، وأصبح اول رئيس للمجلس الاستشاري المغربي الذي أحدثه محمد الخامس في السنوات الاولى لاستقلال البلاد. لكن بن بركة قاد في غضون ذلك اكبر انشقاق في صفوف حزب الاستقلال عام 1959، مما أدى الى تأسيس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي ضم قياديين سابقين في الاستقلال امثال عبدالله ابراهيم وعبدالرحيم بوعبيد والفقيه محمد البصري وعبدالرحمن اليوسفي والمحجوب بن الصديق. وقد وصفه الملك الحسن الثاني انه كان "يتحدث بنبرة تتقد حماسة، وانه كان يفيض ذكاء وكان ذا ثقافة واسعة وشخصية جذابة وطبع هائج". وأقر بأنه كان يؤخذ عليه استعجاله في الامور. في حين ان زعيم الاستقلال علال الفاسي الذي اكتوى بانشقاق 1959 كان يرى فيه شخصية وطنية فذة، على رغم تلك الخلافات، ونقل عنه الصحافي الاسباني اوتيليو غوديو الذي كان متخصصا في تاريخ حزبه انه قال وقتذاك ان شخصيات تمسك بزمام القيادة في الحكومة كانت مصدر اختفاء بن بركة. الجنرال "القاتل" وفي روايات غير متداولة ان الجنرال محمد اوفقير الذي كان يعارض انفتاح القصر على المعارضة، شهر مسدسه في اجتماع رسمي في مدينة فاس، وصوبه الى رأسه بهدف الانتحار، وقال للملك الحسن الثاني: "ابتعد قليلا كي لا يلوثك دمي". وكان سبب ذلك رفضه إشراك المعارضة في الحكومة، معللا ذلك بأنهم ضد النظام. لكن الرواية ذاتها تلتقي مع وقائع اجتماع نظمه في بيته في حي العكاري وسط الرباط ابان فترة الاستعمار تمت خلاله المصادقة على وثيقة الموت وتشكيل فرقة انتحارية في حال اقدام السلطات الاستعمارية على المساس بشخص الملك. ويقال ان الجنرال اوفقير الذي كان يعمل في الاقامة الفرنسية وقتذاك التزم إخبار المشاركين في الاجتماع بأي تطور في هذا النطاق. لكن الحادث يعود الى ما قبل استقلال البلاد، قبل ان يفترق كثيرون عند منعطف الطريق، وان كان محللون يرون ان هذه المعلومات الغرض منها تلميع صورة "الجنرال القاتل". لم تكن العلاقة بين اوفقير وبن بركة سليمة، لكنها كانت اشبه بصراع الاخوة الاعداء، ذلك ان مراجع واسعة الاطلاع اكدت لي ان بن بركة الذي كان موضع ثقة الملك محمد الخامس، هو نفسه الذي اقترح عليه ان يعينه في منصب مدير الامن. في حين ان تطورات الاحداث التي عرفتها البلاد، في سياق ما نقل عن رسالة نسبت الى الفقيه محمد البصري عن تورط قياديين في المعارضة في "مؤامرة اوفقير" تجعل من الصعب قبول الفكرة لو لم تكن هناك علاقات خاصة بين الطرفين. فقد كان قياديون في الاتحاد الوطني للقوات الشعبية يقولون ان جثة بن بركة ستظل حاجزا دون التفاهم مع النظام. ومن غير المستساغ هضم فكرة التعاون مع اوفقير المتورط في مقتل الزعيم التاريخي بن بركة. لكن المعارض البصري اوضح مرات عدة ان اوفقير كان مهتما بمطاردة بن بركة داخل المغرب وخارجه. وكتب في هذا السياق ان بن بركة تعرض لمحاولة خطف واغتيال في الجزائر، كان وراءها اوفقير الذي حاول أيضاً تصفية المعارض المغربي في حادث سير بين الرباطوالدار البيضاء منتصف تشرين الثاني نوفمبر 1962. وعزز الرواية تصريح صدر عن عميل سابق في الاستخبارات المغربية وقتذاك يفيد ان حادث السير كان وراءه الجنرال اوفقير. فقد كشف رشيد سكيرج ان رجال امن يقودهم المفتش السلاوي نظموا المحاولة. ووردت مكالمة هاتفية من احمد الدليمي من مراكش جاء فيها انه خاطب المفتش السلاوي قائلاً: "انك احمق جاهل، كان عليك ان تدوسه، كان يجب ان تقتله". ولكن لم يتم التأكد من صدقية الرواية، وإن كان الفقيه البصري الذي كان يرتبط بعلاقات متميزة مع بن بركة كشف ان اوفقير كان يخطط لتسلم الجيش مقاليد السلطة في منطقة المغرب العربي. وربط في ذلك بين تصفية بن بركة والمحاولتين الانقلابيتين اللتين قادهما اوفقير لاطاحة النظام عامي 1971 و1972. وافاد في هذا السياق ان الغموض ظل يلف وفاة وزير الداخلية الجزائري احمد المدغري الذي كان معروفاً بصداقة متينة مع اوفقير. في حين ان وزير الدفاع التونسي وقتذاك عبدالله فرحات رأس مؤتمرا للحزب الدستوري التونسي في ظروف يكتنفها الغموض، إذ أقصي من الحياة السياسية في ظرف وجيز وغيبه الموت بعد فترة قصيرة. وذهب الفقيه أبعد من ذلك حين كشف ان عميلا في الاستخبارات الفرنسية لم يكن يعرف هويته الحقيقية وقتذاك عرض عليه السكن في اقامة بباريس، وان الشخص الذي اقترح عليه ذلك لم يكن سوى العميل انطوان لوبيز الضالع في تدبير عملية خطف بن بركة. وربط ذلك بايحاءات من مسؤولين مغاربة اقترحوا عليه بعد اطلاق سراحه عام 1966 ان يغادر المغرب للاستراحة بعض الوقت في العاصمة الفرنسية. غداً الحلقة الثالثة: بن بركة والعودة من المنفى.