لا أظن أنني عرفت أستاذاً من أساتذتي أخلص في الالتزام بالجامعة والإيمان برسالتها وإعطائها الأولوية الكاملة بالقياس إلى أي عمل أو اهتمام مثل شوقي ضيف 1910-2005 الذي فارقنا في العاشر من هذا الشهر. ولذلك لم يتولَّ الكثير من المناصب العامة مثل أستاذه طه حسين، فلم يكن عميداً للكلية، ولا رئيس تحرير مجلة أو مجلات، ولا محرراً سياسياً، ولا مترجماً، ولا وزيراً أو سياسياً. ظل أستاذاً جامعياً، منحصراً في دوره الأكاديمي، فخوراً به ومقتصراً عليه. عزوفاً عن المعارك السياسية أو الصدامات الاجتماعية أو المناصب الثقافية التي تسرق الأستاذ من عمله الأكاديمي، وتعكِّر عليه تفرغه لتطوير أبحاثه والاستمرار فيها. ولذلك لم أر لشوقي ضيف نشاطاً يذكر - بعيداً من المجال الأكاديمي - في الجامعة أو خارجها، وظل حريصاً على محاضراته التي لم أشهده يهجرها، ولم أسمع أنه تغيَّب عنها قط، كما ظل مواصلاً أبحاثه في دأب صوفي ومثابرة لم تنقطع، فأنتج ما لم ينتجه غيره. ونظرة واحدة إلى قائمة مؤلفاته المطبوعة، وتحقيقاته، تجعل منه حالة فريدة في ضخامة الإنتاج الفكري واستمراره، أو عدم انقطاعه، سواء من الناحية الكمية أو الكيفية. ولو قسمنا عدد الكتب التي أصدرها على سنوات عمره المديد خمسة وتسعون عاماً لكانت المحصلة أكثر من كتاب على امتداد خمسين عاماً من النشاط الأكاديمي الخصب. والنتيجة هي أنه لا يمكن أي قارئ أن يمضي في معرفة الأدب العربي وتاريخه الممتد وبيئاته المتنوعة من دون أن يرجع إلى كتب شوقي ضيف، ويجد فيها من ثراء المعلومات وشمول المنظور ما لا يجده عند غيره. والأمر نفسه ينطبق على مجالات التراث البلاغي والنقدي، والتراث اللغوي والنحوي، والدراسات الإسلامية والحضارية، وهي المجالات التي تظل كتابات شوقي ضيف فيها أشبه بالمنارة التي يستهدي بها السائر في عتمات البحث العلمي، أو حتى الثقافي التي تسعى إلى استكشاف الآفاق المتعددة لأنشطتها وموروثاتها. ويوازي الإخلاص الأكاديمي والتفرغ له النظرة التاريخية التي ورثها شوقي ضيف عن أستاذه طه حسين، فلا شيء ينظر إليه أو يكتب عنه يبدو منعزلاً عن سياقه التاريخي وهو السياق الذي يقترن بقانون السببية الذي يجعل من كل ظاهرة نتيجة لغيرها السابق عليها، كما يجعل منها سبباً لغيرها اللاحق عليها في وحدة الأسباب والنتائج التي تتتابع تاريخياً بحسب منطق يبدو حتمياً في غير حالة. ويقترن مبدأ السببية بسياق أفقي كما يرتبط بسياق رأسي، فالسببية التاريخية لا تصل ظواهر الحاضر بالماضي وحده، وإنما تصل ظواهر الحاضر بعضها ببعض، فكل شيء يتأثر بما قبله وبما حوله من هذا المنظور. ولكنه التأثر الذي يقصر مدى الفاعلية في بعد واحد، في الماضي أو الحاضر، وإنما يفتحه على الزمانين، فكل لاحق يتأثر بالسابق، ويكون نتيجة له بالقدر الذي يغدو سبباً لما بعده. ولكن الناتج عن اللاحق سرعان ما يؤثر فيه، ويتيح لنا أن نراه في منظور مغاير لم يكن يلحظه القدماء أنفسهم، خصوصاً ونحن نرى الناتج اللاحق ضمن شبكة واسعة من الظواهر المتفاعلة. وفي الوقت نفسه، فإن علاقة التأثر والتأثير المتبادلة، بين ظواهر الحاضر المتزامنة أو المتعاصرة، تؤكد الحتمية التي ظلت مقترنة بالنظرة التاريخية. ولا تخلو هذه الحتمية من معنى التطور الذي تصعد به الظواهر - من منظور السببية - على درجات سلم صاعد عبر الزمن من التطور، ولذلك يكتسب اللاحق من السابق ما يمضي به في مدى الإضافة، الأمر الذي يتجلى من منظور القيمة المضمرة في مبدأ السببية الذي يجعل من كل لاحق أفضل من كل سابق بالإضافة إليه، والتطوير فيه، كما يفرض لدرجات السلم مدى لا صعود بعده، ولا وراءه سوى الهبوط على درجات السلم نفسه في الاتجاه النقيض، وهو الاتجاه الذي يظل واقعاً تحت تأثير مبدأ السببية الذي يقترن بالارتفاع في حالة، وبالانخفاض في حالة مقابلة. ولا ينفصل مبدأ السببية - من منظور المنهج التاريخي الذي التزم به شوقي ضيف - عن النظرة الموسوعية التي تمتد ببصرها إلى كل الظواهر والمجالات التي تشملها عملية تبادل التأثر والتأثير في شبكة واسعة باتساع التراث الثقافي نفسه. ولذلك يصعب تصنيف جهود شوقي ضيف في مجال واحد، هو مجال الشعر أو النثر أوالبلاغة أو النقد أو النحو أو اللغة أو التاريخ أو التراجم والسير أو التفسير القرآني أو دراسة الحضارة أو التحقيق، فشوقي ضيف اشتغل بهذه المجالات جميعاً، إيماناً منه بأن الظاهرة الأدبية تتأثر بغيرها من الظواهر وتؤثر فيها، والعكس صحيح بالقدر نفسه، وذلك بما يجعل الثقافة العربية في شمولها وتنوعها هي مدى الحركة الموسوعية التي تستعيد المعنى القديم للأدب، بوصفه الأخذ من كل شيء بطرف، وتضع كل الظواهر المدروسة في شبكة متجاوبة الحلقات تخضع لتأثيرات متعددة، اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية ودينية وفنية، الأمر الذي ينتفي معه مبدأ التخصص المعاصر، ويصبح الباحث في تاريخ الأدب باحثاً في تاريخ الثقافة أو الحضارة بكل فروعها أو تشعباتها أو مجالاتها المتباينة التي تفرض الحركة في كل اتجاه، والكتابة في كل مجال. وقد كان شوقي ضيف - في مدى هذه النظرة الموسوعية - تلميذاً لجيل الموسوعيين الكبار الذين تتلمذ عليهم في شكل مباشر أو غير مباشر، وذلك في سلسلة السببية التي تجمع حلقاتها بين أحمد ضيف، وطه حسين، ومحمد حسين هيكل، وأحمد أمين، وعباس محمود العقاد، وغيرهم. ولم يكن غريباً أن يتأثر شوقي ضيف بأمثال هؤلاء، وأن يقتدي بهم، وأن ينسج على منوالهم. ولولا ذلك لما فعل ما فعله العقاد، وطه حسين، وأحمد أمين، من كتابة سيرة ذاتية، تكشف عن العلل والأسباب التي أسهمت في تكوينه الوجداني واتجاهه الفكري ومنهجه الأدبي، وذلك على نحو يجعل من سيرته الذاتية"معي"بجزءيها موازية لما كتبه طه حسين عن أيامه وأحمد أمين عن حياته والعقاد عن"أنا"العقاد التي تتصدر كل ما حولها في تبادل الأسباب والنتائج. ومن يقرأ سيرة شوقي ضيف يلمح فيها الكيفية التي تتحول بها الذات إلى موضوع، وكيف ينظر الكاتب إلى حياته كما لو كان ينظر إليها في مرآة، كاشفاً عن أمرين: أولهما تتابع الأسباب التي تحولت إلى نتائج، تحولت - بدورها - إلى أسباب في سياق من تولد مبدأ السببية الذي نتج عنه شوقي ضيف الإنسان والدارس. وثانيهما تنوع المؤثرات التي قرنت النظرة التاريخية بالنظرة الموسوعية التي تعددت مجالاتها المنظورة وتنوع موضوعاتها الوصفية. ويمكن أن نضيف إلى هذين الأمرين نظرة عقلانية هادئة إلى الحياة والأحياء، نظرة تجعل شوقي ضيف - في سيرته الذاتية وكتاباته المتنوعة - أقرب إلى أحمد أمين منه إلى أستاذه طه حسين، فهو رجل التأمل الهادئ، أقرب إلى الإصلاح منه إلى الثورة، أميل إلى العزلة منه إلى اقتحام عوالم الآخرين، أحرص على المسالمة من التمرد المعلن. وقد كتب أحمد أمين - في سيرته الذاتية - مقارنة بالغة الدلالة بين شخصيته وشخصية صديقه اللدود ورفيق عمره المشاغب طه حسين، وهي مقارنة يمكن تطبيقها إلى درجة كبيرة - ومع بعض الاحتراس بالطبع - بين شوقي ضيف الهادئ الصبور الحالم وأستاذه العاصف الجامح القلق أبداً. ويبدو لي - من هذه الزاوية - أن تلامذة طه حسين المباشرين الذين درسوا عليه قد توزعوه في ما بينهم، فأخذ عنه شوقي ضيف حسه التاريخي دون عواصفه، وسهير القلماوي حسه الفني الجمالي من دون إسراف في التاريخانية، وعبدالعزيز الأهواني ميله إلى التفلسف، وعبدالحميد يونس اهتمامه بالطوابع الشعبية. ولا غرابة - والأمر كذلك - أن تبين كتابات شوقي ضيف عن إيمان صارم بقانون السببية الذي يقترن بحتمية عقلانية لا يفارقها، وأن تكشف هذه الكتابات عن عقل لا يعرف القلق المعرفي الحاد، ولا التوتر المنهجي الذي يدفع صاحبه إلى أن يضع كل شيء موضع المساءلة، فكل شيء - من منظور شوقي ضيف كشوقي ضيف نفسه - يتحرك في حال من التدرج الهادئ المحكوم بمنطق السببية الذي لا يعرف الانفلاتات المنهجية، ولا الانقطاعات المعرفية، ولا الثورات المعرفية التي حَدَّثنا عنها توماس كون فى كتابه الشهير"بنية الثورات العلمية". وأعترف أننا طلاب شوقي ضيف الذين خضعوا إلى مؤثرات الحداثة وما بعدها، ونقلتهم قراءاتهم باللغة الأجنبية أشواطاً مغايرة في مدى النظر المنهجي والتذوق الأدبي، كنا نضيق بالعقلانية المنطقية التي تحكم منهج أستاذنا الذي لم نفقد احترامنا له، وكنا نتمرد على الحتمية المقترنة بالتطورية في هذا المنهج، وكنا نبحث عند أقرانه، وعند تلامذته المغايرين عما يشبع نهمنا إلى التجدد، لكننا لم ننكر قط أننا كنا - ولا نزال - نجد عنده ما لا نجده عند غيره من شمول المنظور، وثراء المعلومات، وتنوع المشاهد والاهتمامات، والموسوعية التي لا نزال نفيد منها ونعتز بها، ونراها الأساس الأول في حركة المعرفة بالتراث الثقافى العربي ومجالاته المتعددة عبر تاريخه الطويل.