قبل فترة ليست بقريبة ظهرت في الأسواق الإسبانية رواية لإحدى مقدمات البرامج التلفزيونية المشهورات، تصدرت مباشرة قائمة الكتب الأكثر مبيعاً. لحسن الحظ أو لسوئه، لم تدم فرحة الدمية التلفزيونية، اذ انتبه ناقد أدبي إسباني معروف إلى الخديعة، ليشير إلى أن مقاطع طويلة من الرواية مسروقة حرفياً من كاتبة مكسيكية، معروفة، ومعدل أرقام بيع رواياتها معقول، مثلها مثل زملائها من الكتاب الجدييّن. وتضاعف حجم الفضيحة، عندما ظهرت"الدمية"نفسها باكية في التلفزيون، مدعية أنها ضحية"العبد الأسود"أو الزنجي لقب يطلقه الإسبان على الكتاب الذين يكتبون لغيرهم في مقابل مبلغ من المال، الذي على رغم تسلمه مبلغاً كبيراً منها، لم يؤدّ عمله بأمانة."العبد الأسود"هذا، هو صحافي مشهور، اكتشف بعدها، أنه صاحب خبرة في هذا المجال، وأن له باعاً طويلاً في الكتابة للمشهورين في مقابل مبلغ معقول من المال. وبدل أن يُقدم الجميع للمحكمة، أو بدل أن يُسرح المزوران من عملهما، حدث العكس، إذ ظلت الرواية تتصدر قائمة الكتب الأكثر مبيعاً زمناً أطول. ليس ذلك وحسب، إنما لحقتها الكتب"الملطوشة"الأخرى على القائمة! أما الرواية الأصلية المكسيكية، فلم يحدث كما كان متوقعاً، وهو أن تسجل على الأقل أرقاماً معقولة في المبيعات، أو أن تثير الفضول عند القراء، والأمر المنطقي بالطبع. كلا، ظلت الرواية حبيسة المخازن، ومن سوء حظ دار النشر المكسيكية، أنها سارعت وطبعت طبعات جديدة منها، وفي ظنها أن الناس ومن جراء الفضيحة سيسألون عن الرواية الأصلية! مفارقة تستحق الدراسة حقاً. وأعتقد أنه الكاتب الإسباني المشهور والكبير السن ناهز التسعين، فرانسيسكو آيالا، صرح بمرارة، وهو يعلق على القصة، قائلاً ما معناه، أن الكتّاب من جيله، ناضلوا على مدى عقود طويلة لتأسيس تقاليد للقراءة، وتثبيت احترام الكتابة، بعدما كانت الكتابة تعني بالنسبة الى الناس حرفة قليلة الشأن، ينظرون الى من يمارسها بعين الشك، وهو إنجاز هؤلاء الذين تعرضوا للتشنيع والسخرية، للسجن والمنفى والموت، أن يُنظر الى الكتابة اليوم بصفتها عملاً إبداعياً، ومهنة رفيعة، يمكن من يمارسها العيش من طريقها. وأنها لمفارقة بالفعل، أن يحلّ على هذه المهنة اليوم ناس طارئون، لا يعوزهم في الحقيقة شيء، يمارسون هذه المهنة عن بطر، وبذخ، وفي أغلب الأحوال يسيئون لها، إذ تتحول على أيديهم إلى سمسرة وتجارة مربحة، تقترب من الدعارة، وكأننا"نرجع إلى النقطة القديمة ذاتها التي تحتقر هذه المهنة"، وبهذا المغزى الذي يفعله هؤلاء، يصبح الناس على حق: هذه المهنة دنس لا غير. بالفعل، من يرَ اليوم، عدد المتطفلين على هذه المهنة، التي استهلكت أكباد الكثير من الكتاب المغمورين فرناندو بيسوا أو السياب أبسط مثالين، يلمس حجم البؤس الذي وصلنا إليه: أرستقراطيون قادمون من كل الجهات، رؤساء دول، وزراء، ضباط في الجيش، ممثلون سينمائيون، مقدمو برامج في التلفزيون، حراس مرمى ورياضيون، نساء - موديل وبغايا وبنات أثرياء..و..و..و. يزحفون الى عالم الأدب، يؤلفون الكتب في كل مكان، ويستغلون كل مناسبة. ويخطئ من يظن أن الزحف لم يصلنا. كل شيء يعدي! ومجرد جولة قصيرة في معارض الكتاب في العواصم العربية الكبيرة في السنوات الأخيرة تكفي لتأييد ما نذهب إليه. هناك يتجول باذخون وباذخات عرب مزهوين، ينقضون وبلا رحمة على عالم كانوا ينظرون إليه حتى وقت قريب بريبة وتقزز. وبدأنا نلتقي ببعض هؤلاء في المؤتمرات والمنتديات الأدبية، نراهم يجلسون في صالات فنادق الدرجة الأولى، يتحدثون عن ثرائهم، وثراء عوائلهم، وعن نياتهم بتأسيس شركات كبيرة للنشر، ستدفع بسخاء"صورتهم تتكرر هناك، يوزعون كتبهم بالمجان، وقد اتقنوا قوانين السوق العربية المخربة: كلما دفع المرء الكثير، حصل في المقابل على الثناء السريع، وانهالت عليه المقابلات والدعوات، خصوصاً إذا كان المرء هذا إمرأة بيضاء البشرة، بضة، مكتنزة اللحم، ومن الجائز جداً أن يكون الدفع بالعملة الصعبة! وهؤلاء الباذخون، مثلهم، مثل الأنظمة الديكتاتورية الراشية، يسيئون الى الأدب، ويقودونه إلى حتفه، من طريق الرشوة التي يقدمونها لأنصاف الصحافيين والنقاد، الباحثين عن اللقمة وسد رمق العيش، الذين يدورون في كل ملتقى ومهرجان بحثاً عن صيد صحافي. ولنتخيل حجم اللعاب الذي سيسيل من أفواه هؤلاء عندما يسمعون كتّاباً وكاتبات أنيقات"متغنجات"يتحدثن عن الثراء والشركات الكبيرة، والجوائز والمكافآت التي ستُمنح في القريب العاجل. هكذا تتحول معارض الكتاب والملتقيات الأدبية إلى ميدان للفهلوة، يبرز فيه من يدفع أكثر، ومن غير المهم، نوعية ما يكتب أو حجم قدراته الأدبية. الباذخون، هؤلاء يفعلون كل ما في وسعهم للسيطرة على السوق، ولكن ليس في المعنى الذي ذهب إليه مؤسس الرواية سيرفانتيس، عندما أراد أن يصل كتابه إلى مختلف الناس وبالمستوى نفسه: إلى الأحمق والذكي، الحزين والسعيد، المثقف والقارئ التقليدي، من طريق قدرته الإبداعية فقط، وبعيداً من قدرة الكاتب على فرض نفسه بفضل الحاكم أو بسبب نفوذ أصحاب السلطة كما كتب في مدخل روايته الخالدة:"دون كيخوته"، ليميز نفسه عن مؤلفي روايات الفروسية في زمانه، إنما بالمعنى الذي يريده هؤلاء الباذخون والباذخات، أرستقراطيو المشهد الأدبي الجديد، الذين من غير المهم ألا يكتبوا أكثر من كتاب واحد، لكن ذلك لا يمنعهم من التبختر بحرية الفاتحين، في كل الملتقيات الأدبية، يحوطهم سرب من الناعقين والمطبلين، والمتغزلين في حالة النساء، ولا ضير أن يعدونه ب"ن"بجوائز مقبلة، والجوائز كُثيرة! حتى دور النشر المعروفة تلك، والتي كانت تحترم اسمها حتى سنوات قريبة، ولا تنشر ما هو غثّ، تحولت دكاكاين و"سوبر ماركات"وبورديلات"أدبية"تسوّق البضاعة التي يدفع صاحبها أكثر. اليوم لا توافق بعض هذه الدور على دفع أقل من أربعة أو خمسة آلاف دولار لطبع كتاب، يحوي صفحات قليلة. أنها لمفارقة كبيرة تلك التي نعيشها اليوم. فإذا كانت سنوات الستينات والسبعينات، بل وإلى حد ما الثمانينات، هي"الأرستقراطية الأدبية"، فإن أواخر الثمانينات، بما حملته من خراب للأرستقراطية النوعية"الأدبية"التي كانت تدّعي الكتابة للنخبة، أو على الأقل تكتفي بفشلها باختراق السوق، وبزهدها"التجاري"الذي يعفيها من بيع الكتاب أو توزيعه باليد في صالات الانتظار وفي فنادق الدرجة الأولى، أنعشت عند المتطفلين الجدد على الأدب، روح السوق الهابّة بقوة، ولا يعرف أحد حتى الآن مساراتها النهائية. لكن أمراً واحداً ثابتاً، أن تلك الروح لا تسير بالاتجاه الذي ذهب إليه سيرفانتيس، وزملاؤه اللاحقون، لأنها ضمن الشروط الفالتة التي تتحرك بموجبها، مشوهة، منحرفة، تزحف منذ سنوات بوقاحة وصلافة. ومن لا يصدق، عليه فقط أن يقرأ ما يصرح به الباذخون هؤلاء في حواراتهم في الصفحات الثقافية وفي صفحات"الويب سايت"، التي لا تقول شيئاً، أو أن يتفحص قوائم دور النشر الأكثر شهرة، ليتأكد بنفسه من حجم ما يُنتج هناك من كتب و"قمامة"، تعيدنا إلى ما قبل سيرفانتيس، إلى عصر روايات الفروسية!