لما تقرر لنا ان نسكن بيروت - والقرار اساسه عناية من الله ان قادنا الى هذه المدينة - بدل نيجيريا او الخرطوم او ليبيا، تطلب الامر ان نبحث عن بيت نأوي اليه. أُرشدت الى ايليا بخغازي وهو سمسار رأس بيروت وما اليها. كان يمكن الحصول عليه في مقهى عند زاوية التقاء شارع جاندارك بشارع بلس حيث ازيلت هذه فيما بعد، وظهر محلها انكل سام. لقيته، عرضت عليه حاجتي، دلني على بضعة بيوت وأنا لا اعرف جغرافية بيروت السكنية. واستقر الرأي على بيت صغير من طابق واحد تحيط به حديقة، الامر الذي سرّت به زوجتي مرغريت. البيت كان على رأس تلة، يشرف على البحر. وأرضه اصبحت فيما بعد جزءاً من مبنى السفارة الاميركية الذي فجر فيما بعد. كان قريباً من الجامعة برمة وطلعة صغيرة. وأدخل رائد في مدرسة الآنسة قمر، وكان ثمة باص مدرسي ينقله مع بقية التلاميذ. نعمنا بالبيت خريفاً وشتاء. عملت مرغريت في الحديقة, وكان على مقربة منا مقهى اسمه مقهى عين المريسة. كنت اذهب مع رائد. هو يلعب ويسألني اسئلة عن المنطقة وكنت انا اشرب فنجان قهوة بخمسة قروش ومرات كنت ادخن نركيلة، مع ان الغليون كان الرفيق الاول. لما جاء الشتاء اخذنا نقضي اكثر الوقت في البيت. ومع مجيء الربيع اعاد صاحب المقهى فتحه. لكنه دهن الطاولات وأطلق على مقهاه مقهى باريس. وترتب على ذلك ان اصبح ثمن فنجان القهوة قرشاً! لكن المهم ان البعوض الذي جذبته الحديقة الصغيرة كان امراً صعباً بالنسبة الى رائد. لم يترك في جسمه بقعة لم يلسعها، وكان يتألم من ذلك. فاتفقنا على ان تذهب مرغريت ورائد الى حيث يقيم والداها وأخوها جوزيف الذي كان يعلم في مدرسة سوق الغرب. وكنت أنا اذهب للاهتمام بهم جميعاً من ظهر يوم الجمعة الى صباح يوم الاثنين. عين المريسة لم يكن فيها دكان واحد! كل ما نحتاجه يجب ان نبتاعه من شارع بلس او جاندارك. وحتى هذه المنطقة لم تكن تيسر لك كل ما تريد. وقد انتقلنا في السنة التالية 1950 الى بيت صغير حديث البناء، وظللنا فيه 23 سنة اذ قرر اصحابه هدمه وبناء وكالة كبيرة هناك. الخضار واللحمة وكل ما تحتاجه عادياً يمكن الحصول عليه من منطقة جاندارك وشارع الحمراء، الذي كان يزحف نحو الشهرة التي تبوأها فيما بعد. لكن اذا احتجت الى قطعة لحم للروستو كان يتوجب عليك ان تذهب الى اقرب ملحمة - عون في باب ادريس. اما الخضار البسيطة المألوفة فكنا نحصل عليها من بساتين كانت تقع على بعد نحو 30 متراً من شارع جاندارك الى الغرب. ولما استفسرت عن مكان أبتاع فيه حاجيات البيت ارشدت الى شارع ابو النصر، الذي مدخله في الجهة الغربية من المرحومة ساحة الشهداء، التي قتلتها الحرب الاهلية، كما قتلت الاوساط التجارية، الى ان وضع فيها الجمال والحياة المرحوم الشيخ رفيق الحريري. كنت تجد في شارع أبو النصر يجب ان يسمى سوق ابو النصر فعلاً كل ما تحتاجه للبيت - مكانس، كراسي صغيرة، انواع الحبوب المختلفة وحلاوة طحينية صنع غندور. كنا مرة، في تلك الايام الخوالي، نتحدث عن مناطق بيروت المختلفة، وكنا قد تعرفنا الى الكثير منها، فقلت انني وجدت في سوق ابو النصر كل حاجة للبيت من مصيدة للفئران حتى حلاوة غندور، فضحك المجتمعون لكن احدهم قال "طيب حلاوة غندور فهمنا، لكن شو خصك بمصيدة الفيران؟". وقد ضحك هنا وضحك الباقون اكثر من ذي قبل لجوابي. قلت "في السنة الاولى من سكنانا في بيروت اقمنا في عين المريسة. وقد اكتشفنا يوماً فئراناً في البيت، فابتعت المصيدة من سوق ابو النصر، وقضينا على الزائر الملعون". فالقضية، بالنسبة الي كانت، تجربة عملية. على كل لم تكن الحياة في عين المريسة مريحة لنا تماماً. ولما انتقلنا الى شارع جاندارك احسسنا اننا جئنا المنطقة المناسبة والايسر تعاملاً. كان ثمة ترتيب ان يتقدم احد طلاب الدراسات العليا في قسمي التاريخ واللغة العربية وآدابها، وكنا دوماً توأمين في علاقتنا اقامة وصداقة وعملاً. دعوت الجماعة - اساتذة الموضوعين، والطلاب. كان بيتنا على صغره يتسع لمثل هذه الامسية. لكن بعض الزملاء، الذين لم يحبوا ان يهبطوا من مساكنهم الجانداركية الى عين المريسة نصحوني بأنه "بلاش. أنت جديد. ومين عتبان عليك!". كان جوابي انني قمت بواجبي، وللمجموعة الحق في القبول او الاعتذار. بلغ الخبر الاستاذ انيس المقدسي وهو من هو في مجال العلم وحسن الرعاية. فقال: "نقولا دعانا، فيجب ان نذهب الى بيته ونعقد الجلسة عنده. والاعتذار بكونه حديث عهد اول سنة بالجامعة وانه لم يعد بيته لاستقبالنا امر لا اقبله. سأذهب انا وليأت معي من يشاء!". كانت لفتة كبيرة من رجل كريم النفس. وعقدت الجلسة عندنا. كان المتكلم يومها الشاعر وديع ديب الذي كان يحضر رسالة الماجستير في الأدب العربي الحديث. اذا لم تخني الذاكرة كان حديثه عن صلاح لبكي، وكان يومها واحداً من صناجات لبنان. ولما تعرف اليه فيما بعد، ذكرت له القصة على سبيل الحديث. قال: "ليتهم دعوني، كنت جئت لأسمع ما يقوله الناس عني وهم جماعة علم ومعرفة وموضع احترام". ولم نكد نستقر في شارع جاندارك حتى انضم الى اسرتنا باسم، فأصبحنا اربعة بعد ان كنا ثلاثة. ونعمنا بالحياة في بيروت. بيروت فتحت لي ذراعيها، فأنا اقول وأعيد القول بعد ان تعرفت الى لبنان تعرفاً خاصاً، اقول: "أنا مَدِين لهذا البلد! شكراً".