أذكر وأنا في الخامسة من عمري، وكنا نقطن في بيت نقولا الشاوي في حي القرَشي بالميدان التحتاني في دمشق انه كان يتردد بين سكان البناية اسم الدكتور ملحم وهو الطبيب الذي يعنى بالمرضى في الحي. رأيت الدكتور ملحم مرة أو أكثر في ما بعد لما استدعي لزيارة مرضى في البناية. كان رجلاً قصير القامة ممتلئ الجسم كثيراً، تعلو وجهه ابتسامة. لا أذكر أننا احتجناه، لكن أمي ذكرت مرة أنه هو الذي عالج أخي الطفل قسطنطين الذي قضى في طفولته. في يوم من الأيام تحدث سكان البناية أن الدكتور ملحم مات. هرعت الى أمي أسألها كيف يمكن لرجل يشفي المرضى أن يموت! كان جوابها كل الناس يموتون بعد عمر طويل. أذكر أن أمي، بسبب دورانها على المستشفيات العسكرية يوماً هي ويوماً أنا بحثا عن والدي الذي كان قد جُنّد أثناء الحرب العالمية الأولى ومرض وأدخل مستشفى مجهول الاسم والمكان. فبسبب هذا الدوران للتفتيش والفحص أصيبت أمي بالتيفوس. أذكر أن الجيران استدعوا رجلاً قالوا انه حكيم لفحصها. سنة 1916 بعد وفاة والدي في دمشق عدنا الى الوطن الأصلي للأسرة - الناصرة - وبين 1916 و1921 تنقلنا بين القاهرة وطولكرم وجنين، وأعرف أنني أصبت في جنين بالملاريا على أنني أذكر ان الشخصين اللذين عالجاني هما انطون دبانة ونسطاس، وكانا صيدليين في صيدلية الحكومة في جنين. كان علاج الملاريا يومها أما أبر في الإلية، وقد أخذت منها ما جعلني أرى صعوبة في الجلوس، أو مسحوق الكينا يلف بورق لف السيجارة ويوضع في الفم. وكانت غالباً ما تنفرط الورقة في الفم ويملأ مسحوق الكينا - الغاية في المرارة - الفم. أول طبيب فحصني فحصاً طبياً كان الدكتور يعقوب نزهة في 7 تموز يوليو 1921، لما نجحت في امتحان الدخول الى دار المعلمين إذ كان ثمة فحص طبي. اجتزت الامتحان بقول الطبيب - جيد جداً. في الفترة التي قضيتها في دار المعلمين 1921 - 1924 لم يفحصني طبيب قط. ولم أصب بدور من أدوار الملاريا. كنت أظن أنني شفيت منها. ولم أر طبيباً في السنة التي قضيتها في ترشيحا بقضاء عكا 1924 - 1925، ولا أصبت بالملاريا، حتى حسبت انني شفيت منها. لكن عاودتني أو لعلها اصابة جديدة؟ في عكا. هنا كان لا بد من أن أفحص طبياً مرة كل سنتين أنظمة الحكومة لموظفيها. كان أول طبيب فحصني د. داود بولس، وهو فضلاً عن كونه طبيباً معروفاً كان من وجهاء أسرته في كفريا سيف ومن ثم في المنطقة. كانت لا تزال الكينا - أما أبرة أو بلعاً - هي العلاج. وصف لي الأمرين. اختفت الملاريا. لكن في ربيع 1928 أصابتني نوبة قوية. استدعيت الدكتور فؤاد الياس طبيب خاص. لما فحصني أي لما سمع ما قلته له. قال أنا أشفيك من الملاريا من طريق أخذ جرعات من الكينا ملفوفة بورقة السيكارة. لكن سأعطيك كميات كبيرة لتكون قوية. لا تخف هذه لا تقتل لكنك ستسمع طيلة النهار أجراس جميع كنائس عكا كأنها تَرِنّ في رأسك. أعطاني ثلاث جرعات يومياً لمدة بضعة أيام لعلها كانت أسبوعاً أو قريباً من ذلك. أضنتني الجرعات. لكن شفيت بها نهائياً. ثم تولى ادارة المركز الصحي في عكا، بعد نقل د. داود بولس الى القدس، د. فريد حداد. هذا كانت علاقتي به علاقة صداقة إذ كنا شلة صغيرة نتزاور ونقضي معاً سويعات لطيفة" وكثيراً ما كان الحديث يدور حول كتاب كان أحدنا قد قرأه. لم يكن هذا أمراً محدداً، لكن المصادفة تقود اليه. في الفترة التي قضيتها في انكلترا بين 1935 و1939، والتي شملت زيارات طويلة لألمانيا وأخرى أقصر لفرنسا، لم أحتج الى طبيب، لكنني شعرت بألم شديد في ضرس ذهبت عندها الى طبيب أسنان. فحص السن وقال انه يحتاج الى خلع ويجب أن يتم هذا في المستشفى الخ. كانت أيام الامتحان النهائي للشهادة على الأبواب والشبابيك. طَنَّشتُ وصرفت النظر عن العلاج. وكانت النتيجة ان هذا السن بالذات خلع في القدس بعد نحو خمس سنوات. وألقاه طبيب الأسنان د. ابراهيم جورج في مكان المهملات، وأعطاني مرهماً. لا مستشفى ولا من يحزنون. عدت من لندن سنة 1939 وعملت الى سنة 1947 في الكلية العربية والكلية الرشيدية. في السنوات الأولى، الى سنة 1945، تعرضت للفحص الرسمي كموظف في حكومة فلسطين. ولم يزد الأمر عن ذلك. بعد أن تزوجت 1944 وولد رائد 1 أيار/ مايو 1946 أصبح من الضروري أن يكون ثمة طبيب يعنى بالعائلة. أطباء الحكومة كانوا يعنون بنا لكن الطفل لا يستطيع دوماً انتظار الدور. وهو الطفل الأول. لذلك سجلنا رائد عند طبيبين - الواحد كان يفحص قلما احتاج الى معالجة رائد في عيادته، لكنه لا يذهب الى البيوت، والثاني كان يلبي النداء. كانت زيارة هذا تكلف جنيهاً فلسطينياً أي انكليزياً. ومع اننا - كنا يمكن أن نزور الطبيب الرسمي عند الحاجة، وكان الطبيب المعني بالنساء الحاملات والقريبات من الوضع د. يوسف حجار من سوق الغرب، وهذا ظل هو المشرف على مرغريت. أما إذا احتجنا مراجعة طبيب ونحن لا نريد الانتظار كنا نذهب الى د. توفيق باز حداد من عبيه بلبنان وكانت عيادته في محلة باب العامود. قضيت سنتي 1947 - 1949 في لندن للعمل للدكتوراة. كانت مرغريت ورائد معي. واحتاج رائد الى معالجة سريعة في منتصف احدى الليالي. استدعت صاحبة المنزل الذي كنا نقطن عندها طبيبة أطفال الدكتورة كريستنس. جاءت فحصته وأعطتنا علاجاً له. وفي صباح اليوم الثاني جاءت لتتأكد من النتيجة. كانت مرغريت قد شكت في العلاج الذي وصفته ولم تصف ابراً كانت شائعة في ذلك الوقت. قالت الطبيبة نحن نؤمن بالعلاج المصنوع من النباتات فقط، لذلك لاحظت ان شنطتي فيها أنابيب هي التي أعطيتك منها واحداً لابنك. نحن جماعة من الأطباء هي "صديقة الإنسان المريض". واستطالت في الشرح بأن هذه الجمعية لها مراكز كثيرة في البلاد. ولها مستشفى. شفي رائد. وكان يجب أن يقضي أوقاته داخل المنزل لمدة طويلة. ولكن بعد أن شفي نهائياً وأصبح الطقس يسمح له بالخروج، دعتنا د. كريستنس لزيارة مركز الجمعية والمستشفى. كانت الزيارة نوعاً من التثقيف لنا. وقد أحسست أنا بألم في معدتي يختفي ويعود في أوقات معينة، أو بعد طعام من نوع خاص. كان يقيم في لندن د. مخائيل معلوف، وكانت تربطنا بابنه الدكتور خليل صداقة. الدكتور مخائيل لم يكن له عيادة. فهو هناك يقيم اقامة موقتة. زرته وتحدثنا حديثاً طويلاً يدور حول الألم ومتى يدهمني وكيف ينتهي أمره. لم يترك سؤالاً لم يسأله، وطلب مني أن أحدثه بالتفصيل. في نهاية حديث وفحص مبدئي بالأدوات التي يحملها الطبيب عادة، قال لي انني مصاب بالقرحة في المعدة، وقال لي - وما كانت أجملها نصيحة: لا علاج، لكن الوقاية في الطعام ومواعيده، ونوعه هي الأمور التي تمكنك من تحمل الألم. من المألوف ان ينتهي الأمر بجراحة. لكن قد تشفى إذا كانت الاصابة بسيطة. في 1947 - 1948 عَلّمت في جامعة كمبردج. كان قانون الطب المجاني لجميع المقيمين في البلاد قد أدخل" وعملاً بذلك سجلنا أسماءنا عند طبيب قريب منا في عيادته. واحتجناه لما أصيبت مرغريت بآلام في الظهر. وكان رائد قد احتاجه مرة أو مرتين أيضاً. كان د. سيل يزورنا في آخر دورته المسائية لأنه كان يحصل على فنجان شاي بالسكر. كانت بريطانيا لا تزال خاضعة للتقنين في المأكولات والملبوسات. لذلك لم يكن المرء يستطيع أن يبتاع ما يحتاج اليه من المواد الغذائية ولكن ما تسمح به الأنظمة. أحالنا د. سيل الى اختصاصيين في مستشفى الجامعة - ذهبت أنا الى اختصاصي بشؤون المعدة. كانت نصيحته طبق نصيحة د. مخائيل معلوف قبل ذلك في لندن. وعالج آخر مرغريت بتمارين كهربائية وما شابه ذلك. لكن الطبيب قال لها: "يا سيدتي. هذه المدينة درجة الرطوبة فيها عالية - وهذا لا يناسبك. فأنت يجب أن تعيشي في جو ناشف نسبياً ودافئ ان أمكن"، ولما أخبرته مرغريت أننا عائدون الى لبنان بعد وقت قصير. قال لها مجرد ان تصلي البحر المتوسط سيزول الألم. أحست مرغريت بالتحسن لما أخذنا الباخرة من مرسيليا الى بيروت. والى اللقاء مع أطباء آخرين.