بينما نكون متوجّهين كلّ صباح الى عملنا، حيث نختنق كسردين العلب في سياراتنا وسط الزحمة الخانقة، وبينما يقضي النمط السريع للحياة العصرية على كل رغباتنا الدفينة ويكون الخاسر الأكبر هو الحلم... هناك في البعيد رجل تجرأ أن يطلق العنان لنفسه... أراه الآن، وأنا في سيارتي الضيقة، يرتدي سروالاً قصيراً وقميصاً قطنيّة يسير حافياً بتمهّل يحسد عليه، يطعم سلاحفه العملاقة، يستنزف الوقت في الأحاديث ويضحك من الوقت. أراه الآن ينظر الى اللون الفيروزي للمحيط ويبتسم وفي تجاعيد وجهه قصّة طويلة عن التحدّي، انه الرجل الذي تحدّى نفسه وربح. هناك ينظر براندون غريمشو أو روبنسون كروزو الحديث الينا ويضحك في سرّه لدى رؤيتنا أشبه بشخصيات كرتونية يستنزفنا الوقت أو كبرنامج من برامج الواقع، يلعب كل منّا دوره باحتراف كبير. يعيش اليوم البريطاني براندون غريمشو في جزيرة"موايين"التابعة لأرخبيل سيشيل في المحيط الهندي، هذا الأرخبيل الذي يضم 114 جزيرة أخرى وتقع عاصمته فيكتوريا في جزيرة ماهي الرئيسة. مرّ على عيشه في هذه الجزيرة 40 سنة عندما أتى للمرة الاولى"في عطلة استجمام حيث سأله شخص إن كان مهتمّاً بشراء هذه الجزيرة الصغيرة التي يبلغ طولها 450 متراً وعرضها 250 متراً. بالطبع كان الرجل يمازحه وأراد لحيلته أن تتعزّز بدعوة الثنائي الذي يملك الجزيرة الى عشاء جمعه مع غريمشو. قبل منتصف الليل، قام المالكان اللذان لم يكن في نيتهما بيع الجزيرة، ببيعها لغريمشو. هنا كان المفصل بين غريمشو البريطاني وغريمشو"كروسو". قبل ذلك، كان غريمشو مثلنا جميعاً. رجل بربطة عنق مبرمجاً على ايقاع دوره. ولد في يوركشاير في تموز يوليو 1925وأصبح محرر التحقيقات لصحيفة"ايست افريكان ستاندرد"في نيروبي ونال حصته من الخدمة العسكرية في الجيش الملكي البريطاني. خلال الحرب العالمية الثانية، خدم في فلسطين ومصر لخمس سنوات. وعن هذه الحقبة، يقول:"أحببت العمل هناك حيث تعرّفت عن كثب على الشعوب العربية والحضارات القديمة". بعدها، أصبح غريمشو المستشار الاعلامي للرئيس التانزاني خوليوس نيريري إلى أن استقر به المطاف في جزر السيشيل. عندنما ابتاع غريمشو جزيرة"موايين"القريبة من جزيرة ماهي، كانت اشبه بأرض مقفرة. يقول:"بدأت العمل في التشجير وجلب السلاحف العملاقة ومد شبكات الريّ والكهرباء حتى أنني اليوم أملك جهازاً محمولا". وبالتعاون مع صديقه رينيه انطوان لافورتون، أصبحت هذه الجزيرة مقصداً سياحياً يستقطب الاوروبيين في شكل خاص. لكن غريمشو يبقى الرجل الوحيد على الجزيرة في نهاية الاسبوع، اذ يتركه رينيه ليذهب الى جزيرة ماهي القريبة حيث تعيش عائلته. مضى على عيش غريمشو أربعين سنة على هذه الجزيرة حيث قبر والده هنا أيضاً بالقرب من قبرين للقراصنة الذي كانوا يسيطرون على أرخبيل سيشيل قبل أن يصبح مستعمرة فرنسية ثم مستعمرة بريطانية ثم جمهورية سيشيل. في منزله المتواضع المزيّن بالتذكارات الصغيرة التي جلبها من البلدان التي زارها في حياته، كتب غريمشو:"ذرة التراب- قصة رجل واحد وجزيرة"متحدثاً عن تجربته الفريدة هذه. عائلة غريمشو تزوره في الصيف، أما هو فباقٍ هنا، حيث قبر صغير ينتظره بالقرب من قبر والده وقبري القراصنة. يقف غريمشو بين السيّاح الذين يزورون جزيرة"موايين"مع دليلهم السياحي، فيما كلبه الاشقر الذي اعياه العمر قابع بين الاشجار. ويقول:"صدق ذلك العرّاف الذي رأيته في مصر خلال خدمتي العسكرية، قال لي هذا ما سيحصل... إنه مكتوب. لم اصدّق ما قاله". ثم ابتسم متأملاً مغيب الشمس فيما الأفق الفيروزي ينشر صفاءه في قلبه.