ماذا لو اقترب صحافي من الجبل الممدد في ضريح في قلب بيروت؟ وماذا لو سأله عن أمنيته الأخيرة؟ الذين يعرفون الرجل يعرفون الجواب. بهدوء الواثق وبراءة الشهيد سيجيب رفيق الحريري:"أقبل اغتيالي شرط ان يمنع اللبنانيون اغتيال الوطن". ولعل هذا ما فعله اللبنانيون البارحة أو حاولوا ان يفعلوه. جاؤوا من المدن والقرى مثقلين بالأحزان ومشاعر الغضب. جاء المسنون ليطمئنوا الى مستقبل الأحفاد. وجاء الأحفاد ليطمئنوا الى المقبل من الأيام. وكأن مهمة الجبل الممدد ان يتجاوز جروحه والأوجاع ليوزع خبز الطمأنينة والثقة على من تلتهم افئدتهم مشاعر الخوف والقلق. لا يحتاج المشهد الى تفسير. الجبل الممدد في ضريحه لم يستقل ولم ينسحب. هذا رجل تجيء اليه الاختام ويلتجئ اليه الأحياء. ومن غابوا بالأمس يشاطرون من حضروا حلمهم بمنع اغتيال الوطن وان اختلفت الشعارات والهتافات. غداة اغتيال الحريري كتبنا وفي هذا المكان بالذات:"يخطئ القتلة ان ابتهجوا. ثمة قتلى لا يكفون عن مطاردة القتلة. يلاحقونهم بما تركوه لأوطانهم وبما توزع في نفوس محبيهم. ثمة نعوش تطوي مراحل وتطلق عواصف وتلغي قواميس. يخطئ القتلة ان تسرعوا في الابتهاج. فقد اختار الرجل قبره على ضفاف ساحة الشهداء. وليس من عادة الشهداء ان يخسروا". ولم نكن نبالغ في ما قلناه. فما رأيناه امس في ساحة الشهداء كان يطوي صفحة ويفتح اخرى. انها نهاية حقبة. لا يحتاج الذين تحلقوا أمس حول الضريح وقلب لبنان الى شهادات في الوطنية والعروبة. لا مبرر لاستحضار صور الماضي للنيل من الحاضر. ويصعب الاعتقاد ان هذا البحر من الناس تحركه ارادات السفارات أو السفراء أو المبعوثين. تدفق اللبنانيون مع اعلامهم لمنع جريمة اغتيال رفيق الحريري من التحول اغتيالاً للوطن. لا يحتاج المشهد الى تفسير. ثمة عاصفة هبت. يتعذر استدعاؤها الى التحقيق. يصعب اعتقالها. يستحيل تبديدها بحديث الفتنة والخراب. لا مجال لوقف العاصفة إلا باحترام الحقائق والوقائع واستخلاص العبر. لا بد من وقف السلوك المعيب الذي يراكم الغضب. لا يمكن التعامل مع رفيق الحريري وكأنه غاب بالسكتة القلبية أو سقط في حادث سير. لا يمكن اسكات دمه الصارخ الهادر بتظهير الخلاف على مسائل اخرى. صوت الحقيقة هادر ولا بد من سماعه. يستحيل تشكيل حكومة وحدة وطنية لا يمنحها الضريح ثقته. يستحيل لفلفة الجريمة بتوزيع جديد للحقائب. والمفتاح معروف: لجنة تحقيق دولية. وعلى الخائفين على السيادة من أعمال هذه اللجنة الالتفات الى الجروح العميقة في جسد الوطن وكرامته. ثمة رجال يحكمون الأوطان من قبورهم. قلة نادرة هؤلاء. رفيق الحريري في طليعتهم. لقد ارتكب هذا الرجل حيا خطيئة استعادة بيروت من أشداق الموت. لقد ارتكب شهيداً إثم ترميم الوحدة الوطنية. انه المرتكب الكبير الناصع البياض. لا مجال للتذاكي ولا مجال للارجاء. البارحة نام الرجل في غابة الاعلام. نام مطمئناً فيما القلق يلتهم القتلة. اطلق على المدينة ربيعاً مبكراً واستراح. ومن واجب الصحافي الزائر ان يسجل مشهداً غير مسبوق. ثمة ضريح نادى المواطنين وأعلن الوطن. أعلن وطناً يتسع للحالمين بالديموقراطية والحرية ويتسع ايضاً للمقاومين. ضريح يحلم بمصالحة المناطق والطوائف والاعلام في رحاب المستقبل. انها نهاية حقبة.