شكل الانسحاب الاسرائيلي من قطاع غزة آخر الصيف الماضي محطة تاريخية مهمة، ومفصلاً كان له ما قبله وسيكون له ما بعده في تاريخ الصراع العربي الفلسطيني - الاسرائيلي. لكن الفلسطينيين في قطاع غزة، الذين عاشوا حلماً جميلاً دام عامين، منذ اعلان رئيس الحكومة الاسرائيلية آرييل شارون خطته للانسحاب من القطاع وحتى تنفيذها، اعتقدوا ان نهاية كابوس الاحتلال الاسرائيلي للقطاع الذي دام 38 عاماً قد قارب على الانتهاء. واثبتت الوقائع والاحداث التي وقع بعضها قبل الانسحاب الذي أتمه الجيش الاسرائيلي فجر الاثنين الثاني عشر من ايلول سبتمبر الماضي، وبعده ان اخلاء القطاع من نحو ثمانية آلاف مستوطن وآلاف جنود الاحتلال وتدمير منازل نحو 21 مستوطنة لا يعني بحال من الأحوال انتهاء الاحتلال الاسرائيلي للقطاع. وكان اغلاق معبر رفح الحدودي، المنفذ الوحيد للفلسطينيين في القطاع على العالم، والمعابر الأخرى مع اسرائيل، اضافة الى موجات القصف التي تلت الانسحاب، دليلاً قوياً على ان اسرائيل لا تزال تحتل القطاع، وان مركزه القانوني لن يتغير وسيظل منطقة محتلة اسوة بالضفة الغربية والقدس ويسري عليه ما يسري عليهما من قوانين دولية. ومع ذلك، وضع الانسحاب حداً للكثير من معاناة الفلسطينيين في القطاع على رغم ان معاناة أخرى تواصلت فصولها على مدى الاشهر الاربعة التي تلت الانسحاب، ولا تزال. وكانت قوات الاحتلال تشدد الخناق شيئاً فشيئاً على الفلسطينيين في القطاع كلما اقترب موعد الانسحاب، الذي كان من المفترض ان يتم اواسط تموز يوليو الماضي، الا انه تم تأجيله الى اواسط آب اغسطس الماضي، عندما بدأت قوات الاحتلال باخلاء المستوطنين طوعاً في الخامس عشر من آب قبل 48 ساعة من بدء اخلائهم قسرياً في مشهد بدا مسرحياً متفقاً عليه بين الحكومة والمستوطنين اليهود. وشهد العام 2005 هدوءاً كبيراً قياساً باعوام الانتفاضة السابقة له، نظراً لاعلان الفلسطينيين التهدئة وعدم تنفيذ عمليات فدائية ضد اسرائيل حتى نهاية العام الجاري، في ما بات يعرف باسم"اتفاق القاهرة"الذي صدر في السابع عشر من آذار مارس الماضي في اختتام ثلاثة أيام من الحوارات بين الفصائل والسلطة الفلسطينية في العاصمة المصرية. وجاء اعلان القاهرة تتويجاً لحوارات مكثفة على مدى الأعوام الماضية، وبعد 40 يوماً تقريباً على"تفاهمات شرم الشيخ"بين الرئيس الفلسطيني محمود عباس وشارون، التي اعلن خلالها الطرفان وقف الاعمال العسكرية. والتزمت الفصائل الفلسطينية باتفاق التهدئة، وتم بسلام ومن دون أي معوقات تذكر تنفيذ خطة شارون للانسحاب التي اعلن للمرة الأولى عنها خلال مؤتمر امني عقد في مدينة"هرتسليا"شمال اسرائيل أواخر عام 2003. لكن شارون اعلن عن الخطة رسمياً في الاول من شباط فبراير 2004، واعداً بتنفيذها خلال عام ونصف، وهو ما تم فعلاً. وبالنسبة الى الفلسطينيين، سواء في السلطة او الفصائل او المواطنين، فان خطة الانسحاب هي خطة من جانب واحد، كما أعلن عنها واضعها شارون، ولم يتم التفاوض مع الفلسطينيين في شأنها، باستثناء التنسيق الأمني بين الجانبين في الأشهر الأخيرة التي سبقت تنفيذ الخطة. واذا كان نحو 25 في المئة من اراضي القطاع البالغة مساحته 360 كيلومتراً مربعا عادت للفلسطينيين، فان معظم هذه الاراضي لا يزال غير مستغل نظراً لوجود ركام منازل المستوطنين التي دمرتها قوات الاحتلال فيها حتى الآن، وهو ما يعكس عدم التزام اسرائيل بازالة الركام على رغم تعهدها بذلك. لكن الشيئين الأفضل اللذين حصل عليهما الفلسطينيون تلقائياً جراء هذا الانسحاب هو ازالة حاجزي المطاحن وابو هولي، الممر الوحيد بين جنوب القطاع وشماله، واعادة فتح معبر رفح الحدودي المنفذ الوحيد للفلسطينيين على العالم الخارجي. فالحاجزان شكلا على مدى اعوام الانتفاضة الخمسة كابوساً طالما قض مضاجع الفلسطينيين، وحرمهم من الوصول الى اعمالهم او منازلهم اياماً واسابيع، فضلا عن الاذلال والحط من كرامتهم من جانب جنود الاحتلال. اما معبر رفح، الذي اغلقته اسرائيل في السابع من ايلول الماضي، فلم تسمح اسرائيل باعادة فتحه الا في الخامس عشر من تشرين الثاني نوفمبر الماضي، بعد نحو 10 أيام على توقيع اتفاق فلسطيني - اسرائيلي رعته وزيرة الخارجية الاميركية كوندوليزا رايس، وبات يعرف ب"اتفاق رايس". وعلى رغم ان انسحاب اسرائيل وقواها الامنية والعسكرية من المعبر شكل بادرة أمل لآلاف الفلسطينيين الممنوعين من السفر بقرار اسرائيلي، فإن كثيرين منهم لن يتمكنوا من السفر عبره، كما حدث اخيراً مع ثلاثة على الأقل من القيادات العسكرية الفلسطينية، الذين لم تسمح لهم السلطة بالسفر عبر المعبر بعدما رفضت اسرائيل السماح لهم بذلك، وهدددت باعتقالهم من جانب المراقبين الأوروبيين الذين يفترض انهم يراقبون تنفيذ الاتفاق فقط وليس لهم دور أمني. وخلال الشهر الأول الذي تلا الانسحاب نام الفلسطينيون نوماً هادئاً هانئاً للمرة الأولى منذ 38 عاماً هي عمر الاحتلال، وتمكنوا من التنقل بطول القطاع وعرضه من دون أي حواجز اسرائيلية او معوقات او قصف او قتل او تهديد. لكن فرحة الفلسطينيين لم تدم طويلاً، اذ سرعان ما سارعت اسرائيل الى شن غارات جوية على القطاع، قبل ان تشرع في نصب منصات مدفعية في شماله وجنوبه. ومنذ الانسحاب من القطاع، شنت الطائرات الحربية الاسرائيلية الغارات الاعنف عليه منذ اندلاع الانتفاضة، وشاركت المدفعية في القصف، فضلاً عن استخدام اسلوب اختراق جدار الصوت من الطائرات النفاثة من طراز"اف 16"الاميركية الصنع التي ينتج عنها اصوات انفجارات هائلة تصم الآذان وتدب الرعب في قلوب الفلسطينيين وتحطم زجاج الابواب والنوافذ. ولم تشأ اسرائيل استخدام هذا الاسلوب في السابق نظراً لوجود المستوطنين في القطاع. ونجحت الوساطات والتدخلات المصرية والاميركية والاوروبية في مرتين سابقتين بوضع حد لعمليات القصف والمواجهات بين النشطاء الفلسطينيين وقوات الاحتلال. وكان جاء ذلك في أعقاب عمليتين فدائيتين في الخضيرة ونتانيا، وعمليات اطلاق الصواريخ على اهداف اسرائيلية خارج القطاع. لكن الموجة الثالثة من اعمال العنف والقصف واطلاق الصواريخ التي بدأت قبل نحو ثلاثة اسابيع، لا تزال مستمرة حتى الآن.