يُخيل إلينا كأنّ الأحداث التي شهدناها في غضون سنوات قليلة، من قرار أوروبا إنشاء اتحاد مالي واقتصادي وسقوط جدار برلين وإعادة توحيد المانيا وانهيار الاتحاد السوفياتي، ونجاح عمليّة"عاصفة الصحراء"، جرت في الأمس القريب. ففي فترة المعجزات تلك والتي حدثت بالكاد منذ عقد ونصف عقد من الزمن، كان قادة الغرب يتكلّمون على نظام عالميّ جديد يستند الى الحريّة واحترام حقوق الانسان وحكم القانون. أمّا بالنسبة الى الحلف الأطلسي، فكانت لحظة النصر وإثبات الذّات. وعلى رغم أنّ"نيل يونغ"قصد التهكّم والسخرية في كلماته إلا أنّها استولت على عقولنا فأخذنا نردّد معه:"إنّنا نهزّ العالم الحرّ". ولكن، فيما تعود مجريات العام 2005 إلى الذاكرة، نرى أنّ العالم الحرّ لم يعد"يهتزّ"بل هو منقسم على نفسه، غارق في الشكّ بهويّته ومحاط بالهزائم أكثر من المعجزات. ولعلّ بعضهم يعتقد بأنّ بذور الفوضى الحاليّة ظهرت في فترة النصر، فمع وجود الدبّ السوفياتي في سباته الشتويّ الدائم، لم يعد هناك وجود لعدوّ تتوحّد ضدّه أوروبا وأميركا، بل كان من الصعب تجنّب بروز أولويّات كتوحيد أوروبا وتجدّد الاقتصاد الأميركي، ساهمت في إحداث انقسام بين القوّتين. ويشير آخرون إلى الاختلاف الثقافي، محاولين إثبات أننا نتحدّر من كواكب مختلفة: فأوروبا الأنيقة والأنثويّة تشبه كوكب فينوس أمّا أميركا المفترسة والقويّة فتميل إلى كوكب"المريّخ". ولا يزال آخرون يلومون عوامل واقعيّة كالتعجرف الأميركي والغيرة الفرنسيّة وبحث بريطانيا المستمرّ عن دور مميّز. قد تساعد هذه العوامل في شرح بعض الانقسامات بين أوروبا وأميركا، ولكن ليست تلك الانقسامات الواسعة التي طغت أخيراً داخل كلّ منهما. فالدستور الأوروبي الذي كان من شأنه أن يسرّع اندماج القارة السياسي مُني بهزيمة تسبب فيها الناخبون الفرنسيّون والألمان أواخر أيار مايو وبداية حزيران يونيو الماضيين الأمر الذي ساهم في إظهار الهوّة القائمة بين قادة القارّة والشعب وإبراز مدى الخوف من العولمة وانعكاسه على مستوى المصانع والمزارع. في غضون ذلك، بدأ الشرخ في الولاياتالمتحدة حول المسائل الاجتماعيّة يشكّك أكثر بكفاية إدارة الرئيس جورج بوش. أمّا الحرب التي تكهن بعضهم بأنّها ستكون بمنتهى السهولة فهي تُفسح المجال أمام مقارنتها بحرب فيتنام إذ عرض الرئيس جورج دبليو بوش" خطّة النصر"التي تبدو حيلة علاقات عامة أكثر من كونها استراتيجيّة جديّة. ولعلّ في إمكان الولاياتالمتحدة وحلفائها أن يأملوا بأن تكون الهديّة الوحيدة التي سيجدونها تحت شجرة الميلاد هذا السنة حكومة عراقيّة منتخبة، قادرة على قيادة البلاد وتوحيدها بدل التعرّض لهزيمة أخرى على طريق النجاح. في كتاب"العالم الحرّ: أميركا وأوروبا ومستقبل الغرب المفاجئ"دار راندوم للنشر - 2004، يطرح"تيموثي غارتون آش"السؤال المناسب:"من يعني الغربيّون عندما يستخدمون الضمير"نحن"؟". بعبارة أخرى، هل هنالك اليوم قادة يستطيعون الكلام بصدق باسم الغرب بوصفه كينونة اجتماعيّة واحدة؟ يؤسفني القول انّ الجواب هو بالطبع لا. لربّما يمنح بعض الأوروبيّين نسبيّاً و50 في المئة من الأميركيين الثقة لبوش للتحدث باسمهم في مسائل القيم. وبالاضافة إلى رئيس الوزراء البريطاني توني بلير الذي يزداد الحصار حوله، ليس هناك قائد أوروبي معروف هو موضع إعجاب في الولاياتالمتحدة. حتّى الرئيس الفرنسي جاك شيراك الذي يعكس أحياناً رأي أوروبا، أثبت عدم قدرته على حصد دعم شعبه للدستور الأوروبي الذي استثمر فيه رصيده ومقامه. وليس رفض الدستور إشارة التحذير الوحيدة التي برزت أخيراً. إذ تدلّ استطلاعات الرأي في غرب أوروبا على تفاقم الاستياء من الظروف المحلية، حيث يسود عدم الاستقرار الاقتصادي والشعور بأنّ الحرب في العراق جعلت أوروبا غير آمنة. وفي كلّ مرّة تكتشف سجون أميركيّة سريّة أو تعذيب للسجناء العرب، تُضاف الى مهمات أوروبا الشاقة، صعوبة أكبر تتمثّل في كيفيّة اندماج العدد المتزايد من السكان المسلمين في المجتمع، ويبدو أنّ لا مصلحة لبعضهم في الانضمام إلى جماعة"نحن". وتُعتبر أحداث سجن"أبو غريب"ومعتقل"غوانتانامو"بمثابة هديّة للمتطرّفين الذين يزعمون أنّ الإسلام يتعرّض لهجوم غربي. أمّا قادة أوروبا البارزون والمسلمون المعتدلون فيصرّون على أنّ في بالامكان أن يكون المسلمون الصالحون أيضاً أوروبيّين صالحين في آن، وهذه حال الملايين منهم. ولكن، على المستوى الشعبي تبرز حركة مناهضة لهجرة المسلمين ويُروَّج اعتقاد خاطئ بأنّ ترشّح تركيا للانضمام الى الاتحاد الأوروبي ليس فرصة بل تهديد. ولا يتّسم دور الولاياتالمتحدة كمحامي دفاع عن عضويّة تركيا في الاتحاد بأهميّة كبيرة، فالرأي المؤيّد لأميركا تراجع عبر أوروبا، وازدادت الرغبة الأوروبيّة في الحصول على استقلاليّة أكبر. ولم تعد الولاياتالمتحدة تُعتبَر بالنسبة الى كثيرين من الأوروبيين أرضاً للفرص بل أصبح اسمها ملازماً للعنف في معظم الحالات. فهل يمكن استرداد حسّ الهدف المشترك الذي كان سائداً عبر الأطلسي عام 1990 بعد كلّ الأضرار التي حدثت؟ بكلّ تأكيد. وأستطيع أن أشهد بأنّ الحفاظ على قوّة العلاقة عبر الأطلسي وتوسيعها كانا محور السياسة الخارجيّة للولايات المتحدة خلال التسعينات. حتىّ عند نشوب الخلافات، حول البوسنة على سبيل المثال، كانت الولاياتالمتحدة تعمل من خلال منظمات حلف الأطلسي لحلّها. واتسمت تلك السياسة بوصمتها"الأميركيّة"المميّزة أكثر من أيّ وقت. وأبدت وزيرة الخارجيّة الأميركيّة كوندوليزا رايس أخيراً الرغبة في العودة إلى اتجاه شراكة التعاون، وكذلك أتى جواب وزراء الخارجيّة الاوروبيين مطابقاً في هذا السياق. غير أنّ نوع القيادة المطلوبة يذهب أبعد من بذل الجهود لپ"لعب دور المهذّبين"في الاجتماعات والتستّر على الخلافات، لأهداف تتعلّق بالرأي العام. فالمطلوب هو بعض التغيير الحقيقي في السياسة والموقف. في البداية، يجب أن تقرّ إدارة بوش بما هو واضح: تُعدّ فوائد أيّ عمل استخباراتي اكتسبتها من خلال موقفها الملتبس في السنوات الأربع الماضية في شأن التعذيب والمحاكم، ضئيلة مقارنة بخسارة أميركا الثوابت الأخلاقيّة. ففي مجال معاملة السجناء، على الولاياتالمتحدة أن تطبّق المعايير التي طالما طالبت الآخرين بها. كما على الإدارة أن تبدأ التصرّف بمسؤوليّة بدل اعتماد الفظاظة والتجاهل في ما يختصّ بمسائل التغيّرات المناخيّة والمحكمة الجنائيّة الدوليّة. أمّا الأوروبيون، فعليهم بذل مزيد من الجهد لمحاربة تشويه صورة أميركا، ليس من قبل المسلمين المتطرّفين فحسب بل أيضاً من أمثال الكاتب المسرحي هارولد بينتر الذي يتحدّث كتابه الجديد"نوبل"بلهجة حادة ضدّ الجرائم الأميركيّة"المنظّمة والمتواصلة والوحشيّة"، ويعكس نظرة رائجة بين المثقّفين، ينبغي عدم التهرّب من الإجابة عنها. وإذا كنّا جدّيين في مسألة الشراكة، على أوروبا أن تسلّم بالكلام والفعل بحصّتها في تحقيق نتيجة مرضية في العراق. صحيح أنّها حرب لم تبدأها أوروبا، ولكن في الماضي أيضاً لم تكن الولاياتالمتحدة من بدأ الحرب العالميّة الثانية، وهي وافقت على حصّتها من نتائج الحرب. ومن الضروري أن تعي أوروبا وأميركا معاً أنّ أحلام 15 سنة مضت تعرّضت للخيانة ليس من الإرهابيين فحسب بل كذلك من الحكومات التي تجاهلت مبادئ أسقطت جدار برلين وتنكّرت لها. وفيما يتحدّث بوش عن طريق الحريّة، تباطأ الزخم الديموقراطي في روسيا وأميركا اللاتينيّة ووسط آسيا ومعظم بلدان افريقيا. وما يحدث هو أنّ نظرة الصين للمكاسب الاقتصاديّة غير المترافقة مع المعايير الديموقراطيّة، تجذب التيّارات الجديدة. أمّا الأوروبيون الذين يصرّون على أنّهم"ليسوا أميركا"فعليهم تخطّي هذا الهاجس. في المقابل، على الأميركيين الذين يغضّون النظر عن أهميّة أوروبا كحليف أن يتنبّهوا إلى أنّ أميركا لا تملك سوى قلة من الأصدقاء الذين يمكنها الوثوق بهم. فالقادة الحقيقيّون لا يتّخذون الأصدقاء مصادفة بل يعرفون أنّ الأمر يتطلّب عملاً شاقاً للحفاظ على التحالف وحماية الوحدة لفترة طويلة. لكنّنا نملك أسساً راسخة يمكن بدء البناء عليها. بيد أنّ أوروبا الحديثة تقف في مواجهة ماضٍ كانت تندلع فيه الحروب بسبب رموز الهويّة الوطنيّة، حين كانت الحدود القوميّة مبنيّة بأسلاك شائكة وجدار، وكان الظلم التاريخي يغذّي باستمرار صراعات، وكان المواطنون يتعلّمون التركيز على نقاط اختلافهم مع جيرانهم وليس على النقاط المشتركة. وربّما فشل الدستور الأوروبي عام 2005 لكن هذا لا يعني ضياع الرؤية الأساسيّة التي تُظهر أوروبا موحّدة. أما أميركا، فهي مؤلّفة من شعب استمدّ إرثه من كل بلدان العالم لكنّه متمسّك بحبّ الحريّة واحترام القانون، ومطبوع بتاريخ طويل من العمل مع ديموقراطيّات أخرى لحلّ المشاكل الصعبة. ولعلّ سياسات الحكومة انحرفت بين وقت وآخر عن المبادئ لكنها تعتمد على الشعب عاجلاً أم آجلاً لإرجاعها إلى المسار الصحيح. فماذا علينا إذاً أن نفعل لإحياء روح العام 1990؟ علينا أن نتذكّر مَن نحن، لا أكثر ولا أقلّ. مادلين أولبرايت وزيرة الخارجيّة في عهد إدارة الرئيس بيل كلينتون. * خدمة "نيويورك تايمز" خاص بپ"الحياة".