يختلف الزعماء في أمور شتى، من بينها صوغ الخطب وطريقة إلقائها. الرئيس بوش الإبن، على سبيل المثال، تتكون خُطبُه من جمل قصيرة كتلك التي يستخدمها مخططو الكلمات المتقاطعة، جمل مبتورة، كل جملة منها مستقلة عن السابقة لها واللاحقة عليها. ويستخدم الرئيس الأميركي إيقاعاً متميزاً، إذ يتوقف عن النطق بعد كل جملتين أو ثلاث ليرسم على وجهه تعبيرات توحي برغبته في تلقي التصفيق. وإذا لم يصفق الحاضرون أطال التوقف حتى يأتيه التصفيق. يبدو لي أن هذه الرغبة ليست من جانبه فقط، ولكن أيضاً من جانب مستشاريه الذين يشيرون عليه بمرات التوقف. الرئيس بوش مثل غيره من الرؤساء يتلهف على استقبال مشاعر التأييد من الجمهور، سواء كان هذا الجمهور في قاعة صغيرة أو ساحة كبيرة. وتقول لنا الحملة الانتخابية الدائرة في الولاياتالمتحدة إن هذه الرغبة تتحول إلى ما هو أكثر من رغبة حين يصبح السعي إلى كسب الرضاء الهم الأكبر للرئيس الذي يقرر إعادة ترشيح نفسه. وتقول لنا الأيام الأخيرة، إن الرئيس الأميركي، أصبح في أمس الحاجة إلى تأييد أكبر أو إلى معارضة وانتقادات أقل، بعد أن تراكمت الكوارث في العراق أو بسببه، وانفض عنه كثيرون في الداخل والخارج. نعرف أن الرئيس بوش يكره النقد والمعارضة لأنه ينتمي إلى نوع من الناس يستخدم"الانشقاقية"كثيراً في خطبه، فالأمر عنده أبيض أو أسود، خير أو شر، والإنسان ملاك أو شيطان. الناس من هذا النوع يعتبرون أي نقد لهم ولسياساتهم وتصرفاتهم، وهم الطيبون الملائكة، لا يصدر إلا عن أشرار وشياطين، وإن كانت كاتبة أميركية عثرت على تعبير مناسب لهذه الانشقاقية في خطب الرئيس بوش. تقول إن الانشقاقية، علاج جيد ضد التشتت وعدم التركيز والخجل والتردد في مواجهة جمهور غفير أو في وجود أغراب. كانت تجربة الولاياتالمتحدة في هذه الأسابيع الأخيرة جديرة بالتأمل. إذ أنه حتى قبل انعقاد مجلس الأمن لاتخاذ قراره في شأن العراق كانت أميركا في حال انعزال رغم كل الدعاية عن تماسك الائتلاف العسكري الحاكم في العراق وعن التأييد للسياسة الأميركية من جانب دول أوروبية. وكان هم الولاياتالمتحدة وشغلها الشاغل الخروج من العزلة بأي شكل من الأشكال، فكثفت السعي لتضييق الفجوات التي تفصل بينها وبين حلفائها، ولو في الظاهر، أمام كاميرات التصوير والمراسلين المدعوين إلى مؤتمر قمة الثمانية. ولذلك ركزت الآلة الإعلامية على نقاط بعينها، أولها تفهم الحلفاء موقف الرئيس بوش من العراق، واستعدادهم المشاركة في مهمات متعددة فيه، والمساهمة في مشروع الشرق الأوسط الأوسع. وعندما انتهى الاجتماع وتسرب بشكل أو بآخر بعض ما تقرر التعتيم عليه، وما تقرر المبالغة فيه، تبين أن أكثر الحلفاء ما زالوا ممتنعين عن المشاركة بقوات عسكرية في العراق وأنهم أصروا على أن يرتبط تأييدهم لأميركا بشروط واضحة تؤكد كلها أن حرية أميركا في التصرف في العراق أو في غيره ليست مطلقة. ثم إنهم رفضوا مسايرة الولاياتالمتحدة في الأسلوب المتشدد الذي تعاملت به مع حكومات الشرق الأوسط. وسمعنا أن أكثر من حليف لأميركا أعلن صراحة في جلسات مغلقة أنه غير مستعد لدفع أنصبة في فاتورة الكراهية لأميركا المنتشرة والمتفاقمة في أقاليم متعددة. ولم يخف الأوروبيون رغبتهم في أن يصل إلى علم العالم بأسره، وبخاصة العرب والمسلمين، أن مساهمتهم في برنامج للإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي في الشرق الأوسط تعمل وفق توقيتات وبرامج خاصة تقررها أوروبا، وتنفذها بتدرج وبأقل دعاية ممكنة. ويقول الأوروبيون للمسؤولين في الشرق الأوسط إنهم غير معنيين بالحصول على نتائج حاسمة وسريعة تنعكس فوراً على خريطة الشرق الأوسط واستقرار الأنظمة الحاكمة. وبدت واضحة رغبة أوروبا في أن ينص بالتحديد في وثيقة"خطة مجموعة الثماني لدعم الإصلاح"على مشاريع الإصلاح التي تنفذها في دول الشرق الأوسط. فقد ورد في الوثيقة مثلاً أن فرنسا تقدم دعماً للانتخابات النيابية في اليمن، وترعى برنامجاً للإصلاح الإداري والقضائي في سورية، وتدعم تطوير حقوق المرأة في المغرب والجزائر والأردن وتونس والأراضي الفلسطينية ولبنان، وتمول في مصر مشروعاً أكاديمياً لتدريب الصحافيين. وأن إيطاليا تقدم مساعدة تقنية في عمليات انتخابية في أفغانستان واليمن. وأن المملكة المتحدة تنفذ مشروعاً في البحرين لتحسين قدرة البرلمان وإقامة برلمان للشباب، وتقوي قدرات المؤسسات الأردنية لمعالجة العنف العائلي والاعتداء الجنسي على الأطفال، وتدعم مع الإذاعة البريطانية برنامج تدريب إعلامي في سورية ولبنان ومصر والمغرب، وهكذا تفعل ألمانيا وكندا واليابان والاتحاد الأوروبي. عشرات من البرامج والمشاريع تنفذها الدول الأوروبية في الدول العربية وأفغانستان وردت بالتفصيل الممل في وثيقة لها ثلاثة أهداف، أولها دعم أوروبي لفكرة تغيير الشرق الأوسط، وثانيها فرض الرؤية الأوروبية للإصلاح في الشرق الأوسط إلى جانب الرؤية الأميركية، وثالثها الاعتراف للعرب والمسلمين بأنهم متعاونون في إجراء الإصلاح بدليل هذه المشاريع التي تنفذها الدول الأوروبية منذ وقت غير قصير. إلا أن نشر الانطباع بأن مؤتمر منتجع سي آيلاند بوثائقه نجح في كسر طوق العزلة الأميركية، وبأن الرئيس بوش استطاع استعادة ود الزعماء الأوروبيين وثقتهم، وأنه أطفأ بعضاً من نيران الغضب المشتعلة في كثير من العواصم العربية، كلها معاً، لم تقنع الكثيرين في أميركا وخارجها بأن الأزمة في العلاقات الأميركية - الأوروبية تنحسر. أساس المشكلة في هذه العلاقة أن أميركا تريد أن يعيش العالم حال حرب. وعلى الناحية الأخرى تريد أوروبا أن يعيش العالم حال سلام. هذا التناقض في أسس توجهات السياسات الخارجية الأوروبية والسياسة الخارجية الأميركية عكس نفسه بوضوح حين عمّد الرئيس بوش نفسه رئيساً لجمهورية في حال حرب. وحين لجأت الإدارة الأميركية إلى تشبيه الحرب الحالية ضد الإرهاب بالحرب العالمية الثانية ضد الديكتاتورية والشمولية. أرادت أن تقول للأوروبيين في نورماندي، أي على أرضهم، إن الولاياتالمتحدة تتحمل للمرة الثانية مسؤولية تحرير أوروبا. وأستطيع أن افهم أسباب رفض أوروبا هذا التوجه الأميركي. فإلى جانب أن فيه إهانة كبيرة لملايين الضحايا الذين سقطوا في أوروبا خلال حرب عالمية دفاعاً عن القارة ضد عدو واضح المعالم فائق التسلح والتعبئة، يرى الأوروبيون أن لا وجه شبه على الإطلاق بين حرب تدور في العالم وحرب تشن ضد العالم. لقد تسببت الرؤية الأميركية الجديدة للعالم، رؤية تحالف التطرف الديني واليمين الصهيوني، في أن انقسم معسكر الغرب معسكرين: معسكر غارق إلى أذنيه ومنغمس إلى حد غير مسبوق في التنعم بالسلام والهدوء ويحلم بعالم خال من الصراعات، ومعسكر غارق إلى أذنيه ومنغمس إلى أقصى حد في التخطيط لحروب استباقية وتنفيذها وفي بلورة صدامات حضارية وثقافية وإثارة صراعات في كل مكان وعلى كل أرض باسم الوقاية من أخطار محتملة على الأمن الأميركي. وبعد أيام سيجتمع الحلفاء، أهل المعسكرين، مرتين. سيجتمعون في دبلن، ثم في استطنبول. وستعرض عليهم الولاياتالمتحدة إعادة انتشار قوات الحلف الأطلسي، بسحبها من مواقع استقرت فيها عشرات السنين إلى مواقع ترى الولاياتالمتحدة وحدها أنها ضرورية لحماية الأمن الأميركي والأمن الأطلسي. وستطلب الولاياتالمتحدة من الدول التي لم تشارك بقوات عسكرية في العراق أن تلتزم تدريب القوات العراقية على أمل أن يكون هذا الالتزام مقدمة لاستدراج أعداد أكبر من العسكريين لحماية المدربين. الأمر الثالث، وأتصور أنه سيكون محل تفاوض كبير، عرض"تنفيذ"بعض العمليات العسكرية باسم الحلف في وسط آسيا بحجة مطاردة فلول الإرهاب الإسلامي، في وقت يدرك فيه المسؤولون الأوروبيون أن الهدف من دعوة الحلف للقيام بدور أكبر في آسيا، ربما كان إعادة رسم خريطة القوقاز ثم الانتقال إلى إثارة قضية التيبت سعياً وراء استكمال الحصار حول الاتحاد السوفياتي السابق ودولة الصين، أي استدراج أوروبا للانضمام إلى عالم الحرب والتخلي عن عالم السلام. وبنهاية هذا الأسبوع يكون قادة الغرب واليابان وروسيا قد اجتمعوا أربع مرات خلال ثلاثة أسابيع. اجتمعوا في نورماندي حيث أعلن الألمان وللمرة الأولى أن الحلفاء حرروهم هم أيضاً مثلما حرروا بقية أوروبا، بذلك تبرأت ألمانيا نهائياً من الذنب وعقدة الذنب. واجتمعوا في ولاية جورجيا، وهناك أكدت فرنسا وروسيا استمرار خلافهما مع الولاياتالمتحدة، وسيجتمعون في دبلن حيث ستحاول أميركا إقناع حلفائها الأوروبيين بضرورة التشدد مع العرب والمسلمين عن طريق فرض الرقابة المباشرة على تصرفاتهم وسلوكياتهم، وسيجتمعون في استطنبول، وهناك ستثير الولاياتالمتحدة قضية تمدد قبضة حلف الأطلسي نحو أراضٍ وقواعد جديدة خارج أوروبا. لن يتغير شيء جوهري في الشرق الأوسط أو في أوروبا وروسيا ما لم تتغير أشياء جوهرية في الولاياتالمتحدة. صعب أن تستمر واشنطن تنفخ في نفير الحرب وتنفق أكثر من 450 بليون دولار سنوياً على التسلح وتشجع شارون على الهدم والتدمير وتروج لخططه الكاذبة والشريرة في غزة ومصر والأردن وغيرها، وتسكت عن الحرب المتوحشة التي تشنها دوائر صهيونية وتنظيمات متطرفة ضد العرب والمسلمين في كل دول المهجر، صعب أن يحدث كل هذا ثم تطلب تبني رؤيتها أو الوثوق بها. * كاتب مصري.