"الفن التشكيلي في السودان" هو الكتاب الجديد الذي اصدرته "المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم" في مقرها تونس مضيفة به كتاباً آخر الى السلسة التي اصدرتها للتعريف بالفنون التشكيلية في الوطن العربي، والتي تناولت حتى الآن الفنون في العراق ولبنان ومصر وفلسطين وسورية وقطر، واليمن وتونس. يكشف هذا الكتاب الذي وضعه الباحث راشد دياب عن تاريخ يكاد يكون مجهولاً بالنسبة الى غالبية المثقفين العرب خارج السودان. فهذه "القارة الثقافية" التي عرفت من خلال عدد محدود من رموزها في الادب والفن يكاد يكون، الجانب الاكبر منها، مجهولاً لدى الكثيرين. ويأتي هذا الكتاب ليكون "رائداً" في موضوعه، معرفاً، وللمرة الأولى، على نحو شامل بالفن التشكيلي في السودان - وهو فن عرف بخصوصياته الموضوعية والجمالية... يقدم هذا الكتاب عرضاً تاريخياً ونقدياً شاملاً لهذه الحركة في ما لها من خصائص فنية ومرتكزات فكرية، وما اتخذت من اساليب في الرؤية والتعبير، جاعلاً منه، بالنسبة الى معظم القراء، كتاب كشف واكتشاف. فهو يكشف عن تنوع ثري لحركة اتخذت من الاتجاهات، الفنية والفكرية، ما حققت به وجودها: حركة تشكيلية ذات خصوصية في الفكر المحرك لهذا الفن، وفي الرؤى الفنية لفنانيها، كما في ما اعتمدت من اساليب التعبير. ومن خلال هذا نكتشف، ما لهذه الحركة من تجليات جعلت للفن التشكيلي في هذا البلد الذي يراه الكثيرون منا بعيداً! موقعه على خريطة الابداع العربي - وهو موقع اجترحه بتفرد هو تفرد الخصوصية الفنية لفنانيه الذين نجد، من خلال ما يقدمه هذا الكتاب، ان لكل منهم اسلوبه - الاسلوب الذي جمع عند أكثر من فنان بين مصدرين من مصادر التكوين الفني، رؤية واسلوباً. فمن جانب، هناك التكوين الثقافي التراثي، بما انبثق منه من رؤى شكلت "الخصوصيات المحلية" محورها الاساس، كما كانت مصدر التنوع فيها. ومن جانب آخر هناك الثقافة الفنية المعاصرة في ما انبثق منها من مدارس واتجاهات فنية جعلت فناني هذا البلد يمتلكون حضورهم الفني. اذ حرص بعض الفنانين على "توطين" الاتجاهات الحديثة في الفن وپ"تبيئتها" لتستأثر بالخصائص الانسانية والثقافية والحضارية لهذا البلد. وهو ما يدعوه المؤلف "مخزوناً تراثياً". اما ابرز الاتجاهات التي تميز بها هذا الفن فهو الاتجاه الحروفي. ينبّه المؤلف إلى خصوصية الفنان السوداني في التعامل تشكيلياً مع الحرف العربي، الذي يعود تاريخياً الى منتصف الاربعينات من القرن الماضي، مرتبطاً "بواقع تطور الثقافة العربية والاسلامية وتمازجها مع الارث الافريقي والايقاع الافريقي"، مستلهماً "البعد الصوفي" في هذا التوظيف الفني... وهو البعد الذي وجد فيه الفنان التشكيلي السوداني مصدراً ثراً "من مصادر الالهام الفنية والقيم والصور التشكيلية، الى جانب التدفق الروحي". وقد وجد ان للحرف، من الناحية الوظيفية، بعداً روحياً حقيقياً، إضافة الى الابعاد النفسية المتعلقة "بالخوف الروحي والخلوص الوجداني لدى مستعمليه". ووظف الفنان السوداني هذا العنصر التشكيلي توظيفات متباينة شكلاً، واتجاهات، واساليب تعبير، متأثراً في هذا ببعض المدارس والاتجاهات الفنية والحديثة، كالتكعيبية مثلاً كما عند الفنان ابراهيم الصلحي، او التوجه به توجهاً تجريدياً كما عند الفنان محمد احمد شبرين... ويكاد هذا الاتجاه الحروفي يشكل عنصر التواصل الاكبر، والاهم والاعمق، بين الفنانين الجدد وتلك الاسماء الكبيرة التي كانت لها الريادة في التجديد والتأصيل لهذا الاتجاه في الفن، بما اضفوا عليه من عناصر تشكيلية جديدة، اذ تلقت الاجيال الجديدة من الفنانين عن اسلافهم الرواد قولهم بأنه "ليس للابداع الانساني في مجال الفن حقائق قطعية، بل هي اتحافات ظرفية ومكانية ناتجة عن علم أو فن متجدد، متسلسلاً يتلو بعضه بعضاً" - كما يؤكد الفنان محمد شبرين. ولعل استلهام صور الحياة الشعبية هو المصدر الآخر الذي استمدّ منه هذا الفن عناصر خصوصيته ولا اقول: محليته، فقد ارتفع الفنان السوداني بهذه "الشعبية" الى مستوى من الابداع الفني ارتقى بها، موضوعاً، الى مستوى الفنون الانسانية الممتدة برؤيتها في آفاق غير محدودة، في الوقت الذي هي متجذرة في أرض واقعها. وقد كان درس الأصالة من اهم الدروس التي تلقاها فنان هذا البلد ليطرحها على الاجيال المتعاقبة، محدداً من خلالها ما يراه من طريق حقيقية للابداع - الاصالة التي، بحسب مفهوم الفنان ابراهيم الصالحي، "لا تعني خلق شيء من لا شيء... بل تعني... اضافة الجديد، مظهراً وجوهراً، الى ما سبق، وهو ما لن يتأتى للفرد المبدع الا من خلال تفهم تام ودقيق للذات - الأنا في محيطها الحضاري". ليس الكتاب فقط دراسة تاريخية لنشوء هذا الفن وتطوره في هذا البلد، ولا هو تعيين نقدي لاتجاهاته، فحسب... وانما هو، فضلاً عن هذا وذاك، "موسوعة تاريخية" لفن هذه "القارة" التي لا تزال مجهولة نسبياً من المثقفين العرب... موسوعة تجمع، وعلى أسس نقدية موضوعية، بين "اصول" هذا الفن والاتجاهات الجديدة التي يعتمدها في ما يتخذ من اساليب التعبير، والتعريف بأبرز الفنانين الذين يمثلون "واقع الحركة" ? وقد توفر على دراسة اعمال اربعة وستين فناناً.