يبدو من استقراء تطور الحوارات الدائرة اليوم في الأوساط السياسية والثقافية أن هناك لغطا كبيرا حول مبدأ الفيديرالية بين أنصاره ورافضيه، واللافت هو حضور غالبية تقف موقفا محايدا لعدم وضوح الصورة،پما يستدعي بداية التعريف بالفيديرالية، كمقدمة لا غنى عنها لبناء قناعات ذاتية حول مدى صلاحية إقامة نظام فيديرالي في العراق. يمكن في عبارة بسيطة تكثيف مفهوم الفيديرالية بأنها اتفاق سياسي ودستوري بين مجموعة أقاليم ودويلات على الاتحاد في دولة واحدة والتوافق على أهمية حكومة مركزية لها سلطات وصلاحيات لا تنازعها فيها الأطراف ولا تتجاوزها. أو بمعنى آخر هي تطلع جماعات متمايزة بخصوصياتها نحو تشكيل تجمع سياسي واحد يوفق بين الرؤى والاتجاهات المتباينة، انطلاقا من الشعور المشترك بالحاجة إلى الوحدة، ويتفق أغلب الباحثين على أن النظام الفيديرالي بصيغته القانونية، هو مفهوم حديث ومعاصر، ومن أبرز نماذجه الولايات الأميركية. أطروحة الفيديرالية في العراق حديثة العهد، تنامى حضورها شيئاً فشيئاً، في فترة التسعينات من القرن الماضي، بعد تحرير الكويت من غزوة صدام حسين وتحرر منطقة الشمال ذات الغالبية الكردية من قبضة السلطة المركزية في بغداد بدعم من قوات التحالف الدولية، فاتخذ أول برلمان كردستاني قرارا بتبني النظام الفيديرالي للعراق على أساس التمايز القومي، ثم أدرجت عبارة في مشروع الدستور تقول :"إن نظام الحكم في العراق فيديرالي, ديمقراطي, تعددّي, ويجري تقاسم السلطات فيه بالاشتراك بين الحكومة المركزية وحكومة إقليم كردستان والمحافظات والبلديات", وذلك قبل أن يبادر بعض القوى الشيعية الى طرح فيديرالية من نوع آخر، على أساس مذهبي، داعية لإقامة كيان للجنوب ضمن إطار الدولة العراقية تنضوي فيه المحافظات الجنوبية الثلاث: البصرة والعمارة والناصرية. وإذا كانت موجبات الحماسة الى نموذج دولة فيديرالية في عموم العراق تعود لسبب رئيس هو الخوف من ماض مركزي ديكتاتوري وبحثاً عن صورة آمنة لعلاقة المركز بالأطراف لا يمكن التعدي عليها في المستقبل، ما يعني إن الفيديرالية إنما طرحت اليوم بصورة هي أقرب إلى رد الفعل الحاد على واقع من الظلم والاضطهاد المركزي منها إلى البحث المعقول والمشروع عن صلاحيات مجزية للأقاليم في ظل دولة موحدة، وتالياً ما يقويها كمبدأ أن لا تأتي استجابة لردود أفعال أو رغبات ذاتية بل لحاجة موضوعية تستصرخ هذا النموذج في العلاقات بين التكوينات الاجتماعية، خصوصاً مع زوال الخطر السابق، خطر طغيان صدام حسين ونظامه الشمولي وانفتاح المجتمع العراقي على صيرورة من التطور الديمقراطي جسدتها العديد من نقاط مشروع الدستور التي تحمي حقوق المواطنين في إطار العراق الموحد وتضمن حظوظاً متساوية لهم، من دون النظر الى القومية أو الدين أو المذهب. ثمة فيديرالية وفيديرالية، والمقصود هنا التفريق بين نوعين من الفيديرالية، تلك التي يطالب بها الأكراد على أساس تميزهم القومي، وأخرى ينادى بها بعض الشيعة على أساس خصوصية انتمائهم الطائفي والمذهبي، وإذا كان للأساس القومي أسبابه وحيثياته المشجعة فان الدافع المذهبي لا يزال عاجزاً عن الإقناع. المسافة ليست بسيطة بين التكوين القومي والتكوين الطائفي، وتمايز عناصر الوحدة القومية عن تلك المذهبية متوفّر بوضوح في اللغة والمصالح والتاريخ المشترك، وقوة الرغبة في الانتماء، وهي عوامل إن لم تبلغ من التطوّر حدّ الانصهار والنضج لكنها عند الأكراد تعكس حماسة للتبلور السياسي الخاص وإرادة فاعلة في تحويل العناصر المكونة لهذه الخصوصية إلى واقع يعكس الرغبة في تحقيق الأماني القومية، فيما يخلو التجمع المذهبي من هذه العناصر ويعتمد على جامع واحد هو الهوية الدينية وغالباً ما تكون مرتهنة لاجتهادات متباينة، ما قد ينعكس سلباً على مسار بناء الديمقراطية وأفق تطورها. فإذا كانت الفيديرالية على أساس قومي، تضفي على المسار الديمقراطي مزيداً من النضج والتكامل، فان الدعوة لفيديرالية على أساس مذهبي هي على النقيض عامل إغلاق ومحاولة تمييز غير صحي تفضي الى ارباكات كثيرة في عملية البناء الديمقراطي ومفهوم المواطنة. بمعنى آخر إذا كان تشجيع الانتماء الديني أو الطائفي أو القبلي كي يغدو مؤسسات سياسية يقوّض وحدة المجتمع في إطار الدولة الوطنية، فان الاعتراف بالحضور القومي سياسياً واحترام حقوقه يؤكد هذه الوحدة ويغنيها، ما يعطي الحق للأكراد أن يتحرّوا ويبحثوا عن صورة للعلاقة مع المركز تضمن لهم خصوصية لحمتهم بعد حملات إبادة بشعة وحملات تعريب لإلغاء الهوية الكردية، زادت من إصرار هذا الشعب وتمسكه بحقوقه ووحدته القومية. صحيح أن العراق بكافة قومياته وطوائفه عانى من القمع الدموي الصدامي، لكن الفارق أن غالبية العراقيين تنتهي معاناتها مع قيام نظام ديمقراطي، بينما شرط انتهاء معاناة الأكراد بالإضافة لذلك هو إنشاء حكمهم الذاتي ضمن العراق الموحد، خصوصاً أنهم عاشوا في بقعة جغرافية مستقرة هي جزء مما يرونه كردستان التاريخية، فيما الحضور المذهبي الشيعي يوجد بأكثريته في مناطق الجنوب ومتداخل بقوة في بغداد وفي غيرها من مناطق ما يسمى المثلث السني، مثلما أن الطوائف الأخرى تنتشر وتمتد في مناطق الجنوب ذاتها. ثم أن القضية الشيعية في العراق لم تطرح كقضية نضالية خاصة خارج سياق انتزاع الحقوق الديمقراطية والمساواة، كما كان الحال تاريخياً مع القضية الكردية، وربما قدمت ثورة إيران منذ عقدين من الزمن هذه الأفكار الجديدة، ناهيكم عن أن الشيعة ليسوا كتلة واحدة في تطلعهم نحو الفيديرالية بينما الأكراد يجمعهم قاسم مشترك قديم وراسخ، ثم لا يخفى على أحد أن من بين شيعة العراق استمدت القوى العلمانية والديمقراطية أهم أسباب قوتها. إن تأسيس عراق فيديرالي هو انتصار لدستور يشكل نقلة مهمة في صياغة علاقات صحية بين التكوينات المختلفة للشعب، على قاعدة احترام عميق لخصوصية الشعب الكردي وحقوقه القومية، أما الذين يرفضون الفيديرالية ويبررون ذلك بأنها مقدمة لتقسيم العراق فلا تزال تأسرهم الرؤية الشوفينية القديمة وأولوية تقويم الأمور والأشياء والناس من منظارهم القومي ليس إلا. من المفارقات المثيرة للجدل، ان القومية العربية عجزت بعد تحررها من المستعمر عن التعامل في شكل صحيح مع الأقليات، أو ربما لم تسع أو لم تبذل جهداً في هذا الاتجاه، وسلكت الطريق ذاتها التي سلكتها الدول الاستعمارية، طريق الوصاية والتسلط والاضطهاد, عندما لم تتوان على امتداد عقود، من ممارسة أنواع شتى من القمع والقهر والإذلال للأقليات القومية غير العربية. وفي المقابل ثمة اندفاعات عند بعض القوى الكردية تثير الريبة والشك حول صدقية مطلبهم للفدرالية، يجب التنبه لها والمسارعة لتجاوزها لقطع الطريق على المشككين بالنيات الكردية والتي تبدو لهم وكأنها خطوة مدروسة نحو الانفصال... أولاً، قراءة المبدأ الفيديرالي ضمن شرطه الملموس من دون حشد الأمثلة والمقارنات عن نماذج من الفدرالية يفترض تطبيقها في العراق لا تمت للواقع الراهن وخصوصيته التاريخية بصلة، فمثلاً ماذا يعني الاندفاع الى حد منازعة المركز صلاحياته والإصرار على أن يتمتع رئيس الإقليم الكردي بحق تمثيل إقليمه في الخارج، أو حين يرفض تعريف وجه العراق من خلال التعريف بقوميته الأكبر، وكأن ثمة حالا من ضيق صدر بالعروبة وبمشروعية الانتماء اليها. ثانياً، ما يزيد من المشهد تعقيدا هو المطالبة الكردية بأراضٍ يجد الآخرون إنها أوسع من حدود الإقليم الكردي، متسائلين لماذا يتمسك الأكراد بكركوك الغنية بالنفط إذا لم يكن غرضهم جعل الفيديرالية أساسا لدولة قومية كردية مستقلة، رغم وجود اتفاق على أن يكون النفط وتوزيع الثروات من نصيب الحكومة المركزية وليس من نصيب الأقاليم. إن إعلان المنطقة الكردية في أربيل والسليمانية ودهوك ذات الأغلبية الكردية إقليميا كردستانياً في الاتحاد العراقي، واحترام حقوق الناطقين بالسريانية فيها، يخلق تطمينات كبيرة وضرورية عند الشركاء الآخرين، خصوصاً أنها المنطقة التي شهدت تطورا خاصاً ونعمت بالحرية دون باقي المناطق، والأهم أن هذه الخطوة تظهر عمق الخيار الديمقراطي وتدشن رؤية صحية للفيديرالية لا بد أن تغدو أشبه بنموذج لقياس مستقبل العلاقات بين العرب والقوميات الأخرى التي تشاركها العيش على هذه الأرض منذ آلاف السنين. وأن تكون الفيديرالية صالحة على أساس التمايز القومي، كنظام حكم سياسي يوحد العرب والأكراد في العراق ويؤلف بين مكونات المجتمع، فأي أفق يمكن أن يطمئن أصحاب التمايز الطائفي والمذهبي رداً على دعوتهم للفيديرالية؟ ربما مزيداً من اللامركزية لجهة منح هذه الكتل الطائفية هامشاً صريحاً لممارسة حقوقها من حيث البيئة، وطبيعة المكان، ونوع الدين، وتباين العادات والتقاليد. وهنا يرى المجتهدون بالنسبة للشيعة أن إعطاء صلاحيات إدارية متميزة للمناطق التي يشكلون فيها الأكثرية تحقق هذا الغرض وتساهم أيضاً في إحياء دورهم في إدارة شؤونهم والمشاركة في صنع القرار. فنقل بعض السلطات إلىالأطراف، ووضع كثير من المسؤوليات على عاتق المحافظين والمجالس المنتخبة محلياً يوفر احترام هذه الخصوصية وهو أيضاً تطبيق عملي للإدارة الشعبية المباشرة. لكن مع تفتح دور المناطق لا بد أن يبرز النظام المركزي كدعامة أساسية للنهوض الاقتصادي والاجتماعي ضمن إطار خطط متكاملة تضمن تطوراً تنموياً متوازناً، فالمركز هو الأقدر على التعرف على الاحتياجات الحقيقية لعموم العراق ولكل محافظة على حدة وتالياً على تنسيق التعاون بين مختلف المحافظات وإقليم كردستان، بما يعزز مختلف الجهود ويوجهها نحو إشباع رغبات المواطنين واحتياجاتهم. إن النجاح في ضمان وحدة العراق كوطن لجميع أبنائه, هو ان يقتنع جميع العراقيين أولاً ومن خلال التجربة الملموسة وليس الوعود المعسولة بأنهم شعب واحد متعدد الأعراق والأديان والثقافات، قناعة لا يمكن أن تنهض إلا نقداً ورفضاً للماضي الحافل بالمآسي وبالحروب وبكل أنواع الظلم والاضطهاد. وتالياً من إعادة نظر شاملة بأفكارنا القديمة, وبشعاراتنا, وبمفاهيمنا عن المسألة القومية, إعادة نظر ينبغي ان تأخذ في الاعتبار ان وحدة الوطن وحل المسالة القومية, لا يمكنهما ان يتحققا وفق صيغة إنسانية عادلة إلا على قاعدة الديموقراطية وحقوق الانسان, والاعتراف المبدئي والعملي بالتعدد والتنوع في القوميات والثقافات, واحترام طموحاتها. كاتب سوري.