كشفت اطاحة نظام الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين ثغرات واختلالات عميقة ومدمرة في البنية القانونية والدستورية للدولة العراقية القديمة، ان صح التعبير. فهذه الثغرات التي ازدادت اتساعاً مع الزمن اوجدت مصدراً رئيسياً لانطلاق قوة ايديولوجية طائفية وقومية سوداء في عروق الدولة العراقية دفعت بها الى مهاو دموية ومظلمة من الديكتاتورية والاستبداد والحروب. صحيح ان الاكراد والشيعة كانوا في مقدم ضحايا هذا الفوران الاسود، لكن الخسارة البشرية والاقتصادية والسياسية شملت الجميع. وكان التخلف الاقتصادي في ظل واردات نفطية هائلة، وتفكك العلاقات الاجتماعية في ظل تاريخ غني بأواصر التآلف والتقارب، وتراجع الثقافة في عراق كان مهداً للثقافات والحضارات القديمة، عينات من تلك الخسارة الجمعية. في اشارات عاجلة الى بعض تلك الثغرات، يصح الحديث عن الخطأ القاتل الذي ارتكبه البريطانيون في بدايات تأسيس الدولة العراقية بإعطائهم الشرعية لحكم الطائفة الواحدة في العراق. صحيح ان الشيعة والاكراد تحملوا جزءاً من مسؤولية ذلك الخطأ عن طريق تجنبهم المشاركة في صياغة القانون الاساسي العراقي في تلك الفترة، لكن الاكيد ان الجزء الاكبر من تلك المسؤولية يقع على عاتق بريطانيا التي تعاملت بقسوة كبيرة مع الشيعة والاكراد وقفزت على مطالبهم السياسية وشطبت مشاركتهم في اقامة الدولة العراقية. في مراحل لاحقة، تحدثت بريطانيا عن حقوق ثقافية ولغوية للأقليات في العراق: الأكراد والمسيحيين والتركمان واليهود. لكن الأرجح أن ذلك الحديث كانت له علاقة بتهدئة الخواطر. إذ بعد إكثار الحديث عن الحقوق اللغوية، عادت بريطانيا وأخطأت حينما لم تدرج تلك الحقوق بشكل صريح في نصوص القانون الأساسي ومن ثم في الدستور العراقي. هذه الثغرات مهدت الارضية امام الشرائح العسكرية التي تولت قيادة الدولة العراقية منذ اول تأسيسها، لطغيان العقلية العسكرية على السلطة وتغييب الديموقراطية وابعاد التكوينات العراقية عن المشاركة في الحكم. وكان طبيعياً والحال على هذه الشاكلة، ان يعكس الوضع العراقي المختل توتراً داخلياً واقليمياً حاداً، سرعان ما استثمره حكام العراق في اتجاه المضي في تجييش الدولة وتحويلها الى ساحة مفتوحة على كل انواع الصراعات، الدموية منها والسياسية. وفي محصلة طبيعية لهذه الثغرات انتجت الدولة العراقية على مرّ العقود الثمانية الماضية اكثر من صدام حسين واحد. هذا على رغم ان الاخير فاق الآخرين في دمويته وجنونه الديكتاتوري. الآن، وفيما بغداد منهمكة، بحكامها الاميركيين واحزابها ومنظماتها الوطنية، في نقاش ساخن حول اعادة تعمير العراق: سياسياً كدولة وقوانين ودستور، واقتصادياً من ناحية البنى التحتية والنسيج الاجتماعي، يصح طرح تساؤل اساسي مفاده: كيف يمكن بناء عراق مستقر وديموقراطي جديد يختلف في اساسياته وتفاصيله وتكوينه وثقافته عن العراق القديم الذي انتهى مع انتهاء آخر اباطرته الديكتاتوريين: صدام حسين التكريتي؟ رغبة الاكراد هي الفيصل يجمع الاكراد بمختلف اتجاهاتهم وتياراتهم السياسية في العراق على ضرورة ان يضمن لهم العراق الجديد الحق في فيديرالية سياسية متكاملة في اطار دولة عراقية موحدة. ويصرون على ان هذا الحق يجب ان يأتي وفق ما يريدونه لا وفق ما تريده الدولة المركزية واحزابها وتجمعاتها السياسية والثقافية. ولتوضيح اصرارهم هذا، يشيرون الى أنهم وافقوا في مطلع السبعينات من القرن الماضي، في اطار اتفاقية 11 آذار مارس، على الملامح العامة لتصور قدمته الحكومة العراقية للحكم الذاتي. وعلى رغم انهم لم يجدوا في بعض بنود الاتفاقية وضوحاً كافياً كالبند الذي أرجىء بموجبه البت في الهوية الكردية لمدينة كركوك، الا انهم اعتبروا الاتفاقية في شكل عام انتصاراً لحركتهم السياسية. لكن بعد مضي اقل من سنة، اتضح ان الغموض الذي شاب بعض بنود الاتفاقية، وموافقتهم على مراعاة رغبات حكومية مركزية في صياغة تفاصيل الحكم الذاتي، اديا في نهاية المطاف الى تمريغ الاتفاقية في وحول الدم والخراب اصابت العراقيين كما اصابت الاكراد. اما الآن فإن الطرف الكردي يرى ان الاوضاع تغيرت على الصعد كافة: الكردية والعراقية والاقليمية والدولية. فالاكراد يطالبون بحق فيديرالية تمتعوا بأكثر منه طوال الاعوام الاثني عشر الماضية. والعراق الذي استمد جزءاً من قوته في رفض الحقوق الكردية من المنطلقات التي قام عليها في اعقاب الحرب العالمية الاولى، اصبح على مفترق اساسي جديد: السابق بعد انهيار الحكم العثماني، والجديد بعد انهيار الحكم الصدامي. كذلك الحال مع الدول الاقليمية التي كانت تستشيط غضباً في الماضي من أي حق كردي ولو بسيط في العراق، اصبحت الآن في ظل التحولات الديموقراطية الجارية في العالم اكثر استعداداً لقبول الحقوق الكردية في العراق. اما دولياً فإن القطبية الثنائية انتهت وحلت محلها القطبية الاحادية الاميركية التي اصبح جنودها يقضون وقتهم، باعتبارهم حلفاء، في ربوع صلاح الدين وضفاف بحيرة دوكان، فخورين بكونهم جاؤوا الى العراق لنشر الديموقراطية والتعددية واحترام اراء الاخرين ورغباتهم. لهذا كله، لم يعد في المجال متسع للقفز على رغبة الاكراد في نوع الفيديرالية التي يريدونها، خصوصاً انهم يريدونها لتعزيز وحدة العراق. اما اصرارهم على فيديرالية سياسية متماسكة فلا ينبع سوى من رغبتهم العميقة بامتلاك شخصيتهم السياسية التي افتقدوها طوال الحقب الماضية. ثم، ان الفيديرالية التي يطالبون بها ليست شعاراً حزبياً ضيقاً. ولا تعبيراً فجاً عن رغبات قسم منهم. بل هي مطلب شرعي وقانوني صدر في عام 1994 باجماع الاصوات عن برلمان كردي منتخب. كذلك ليس الهدف منها تقديم نموذج قومي للاكراد في بقية اجزاء كردستان، انما الهدف هو حل احدى اكثر المشكلات العراقية تعقيداً، واعطاء المبرر لشعب محارب للتخلي عن سلاحه والركون الى الهدوء والعمل السياسي، وبالتالي منع امتداد مشكلته الى بقية الدول المجاورة. بهذا المعنى، لن تحقق الفيديرالية في حال اقرارها تحقيقاً لمطلب قومي كردي بقدر توفيرها ضماناً قوياً لديمومة الديموقراطية في العراق وتطورها وازدهارها. كذلك توفيرها شرطاً اساسياً لتعميق حال الأمن والهدوء والاستقرار في الفضاء الاقليمي المحيط بالعراق. ثم ان المشكلة التي يمكن للمراقب ان يتلمسها بوضوح في اوساط التجمعات السياسية العراقية انها، أي القسم الاكبر من هذه الاوساط يؤيد مبدأ الفيديرالية الكردية، لكن معظمها ييش حال من التشوش في تفسيرها. فمنهم من يرى ان الفيديرالية هي توزيع اداري غير سياسي. ومنهم من يعتقد ان الاسلام يقدم نموذجاً متكاملاً للفيديرالية في اطار مبدأ الولايات الاسلامي. هذا بينما يفسر الآخرون مبدأ الفيديرالية على انه لا يعني سوى تخفيف مركزة الدولة وسيطرتها على المناطق والمحافظات. هذا فيما يعتقد الاكراد ان هذا تفسير مبسط للغاية ولا يمكن ان يحل قضية قومية عميقة الجذور كالقضية الكردية، متمسكين بالرأي القائل ان التعبير الأصح للفيديرالية هو ما يقدمه المواطنون المعنيون بالتمتع بالحق الفيديرالي. الفيديرالية والدستور يشكل الدستور المقبل الاطار القانوني للدولة العراقية. والاكيد ان الاميركيين يعرفون ان العراق الديموقراطي الجديد الذي يتحدثون عنه لن يقوم على اساس ادخال تعديلات طفيفة على البناء القديم. انما يتطلب الأمر اقامة عراق جديد في دستوره واطاره القانوني أولاً. والدليل على معرفة الاميركيين بأهمية موضوع الدستور هو تركيزهم على ضرورة انشاء مجلس لصياغة الدستور من متخصصين قانونيين عراقيين. استطراداً، لا يمكن لعراق دستوري ان يقوم من دون نصوص تشدد على تخفيف قبضة الدولة على رقاب المجتمع ونشاطاته، وتأكيد تحويل الاقتصاد العراقي الى اقتصاد حر مفتوح الاسواق، وإقرار مبدأ التداولية السلمية للسلطة عن طريق انتخابات ديموقراطية حرة، واطلاق العمل السياسي والثقافي والاعلامي والتعليمي الحر، اضافة الى تحريم اللجوء الى العنف وتحديد دور الجيش بالدفاع في وجه الأخطار الخارجية، وابعاده عن السياسة. لكن الاهم من ذلك كله، هو التأكيد في نصوص الدستور الجديد وبعبارات واضحة غير قابلة للتأويلات والتفسيرات، على حقوق التكوينات العراقية المختلفة: الأكراد، الشيعة، التركمان والمسيحيين في التمتع بالحقوق السياسية والثقافية والمذهبية التي يرغبون فيها في اطار وحدة الدولة العراقية. وفي هذا الاطار، لا بد من الاشارة الصريحة الى حق الاكراد في اقامة حكم فيديرالي في اطار العراق يوفر لهم استقلالاً ذاتياً نابعاً من ارادتهم في التنمية الثقافية والسياسية والاقتصادية على ان تظل فيديراليتهم مرتبطة بالمركز في الشؤون الخارجية والمالية والدفاعية. كذلك لا بد من تأكيد حقهم في المشاركة الكاملة غير المنقوصة في شؤون الحكم في المركز بحسب نسبتهم السكانية، اضافة الى حقهم في التمتع بنسبة توازي نسبتهم السكانية من عائدات العراق النفطية. وقد لا يتطلب الأمر هنا، تكرار القول ان تجاهل حقوق التكوينات القومية والدينية والمذهبية في القانون الأساسي العراقي القديم كان السبب الرئيسي في كل ما أحاق بالعراق من تفكك وهشاشة وصراعات وكوارث. وبغية قطع الطريق على أي مشكلات مستقبلية لا بد من الاشارة في الدستور الى الحدود الجغرافية لأراضي كردستان العراق وبضمنها المناطق والمدن التي تعرضت الى سياسات التطهير العرقي في عهد صدام حسين، مع التأكيد على الهوية التاريخية الكردية لهذه المناطق التي تضم في بعض رقعها، مثل كركوك وخانقين، تنوعاً سكانياً أكراد، عرب، تركمان ومسيحيون ما يفرض شكلاً من أشكال المشاركة الادارية الجماعية في تسيير شؤونها. والواقع ان الاميركيين يلحون على انهم سيبقون خارج اطار صياغة الدستور بغية إشعار العراقيين بأنهم لا ينوون التدخل في تفاصيل الصورة التي يريدها العراقيون لبلدهم. ورغم ان هذا الالحاح في حد ذاته، اشارة مشجعة الى نوايا اميركية غير خبيثة، الا ان الضرورة تظل قائمة لوجودهم في المجلس الدستوري المرتقب ولو في شكل مختصين قانونيين، اذ يمكن لهم ان يساعدوا في قطع الطريق على بروز العوائق خلال المناقشات. هذا على رغم ان المختصين القانونيين العراقيين اكدوا خلال السنوات الماضية امتلاكهم لرؤية عملية وواقعية واضحة لمبدأ الفيديرالية وضرورة ادراجها في الدستور المقبل. لهذا كله، يصح القول ان بناء العراق الجديد يتطلب تغييراً جذرياً في بنيانه الدستوري، وان بنياناً كهذا قد لا يكتمل من دون الاقرار بالفيديرالية الكردية وآفاقها السياسية وضرورة اقامتها وفق رغبات الاكراد انفسهم في الدستور. وهذا في حال تحققه سيوطّد وحدة العراق وديموقراطيته ويبرهن على صلاحية نموذجه الديموقراطي للتطبيق في شرق أوسط مستقبلي. * كاتب كردي عراقي مستقل.