في بداية"البيت الكبير"رواية شريف مجدلاني، الصادرة حديثاً عن منشورات سوي باريس في 317 صفحة، ثمة صورة ما لبثت تتكرر، تخبرنا كثافتها التعبيرية عن علاقة البلد بذاكرته وبفعل البوح والنسيان: إنها صورة أبي الكاتب وهو يخلط بين الحين والآخر بين يديه ورق اللعب لما يطرح عليه ابنه من أسئلة عن تاريخ العائلة، عن هذا الشخص أو ذاك، أو لما يطلب منه الإدلاء بتفاصيل في شأن حدث أو واقعة عرفها أو عاشها آل نصار. نقرأ في حركة ضرب الورق وخلطه التردد والحيرة والحيطة من البوح والكشف عن تاريخ عائلة عرفت المجد قبل أن تتهاوى سمعتها. وليس التردد والحيطة من البوح وقفاً على هذه الرواية ، بل نعثر على الموقف نفسه في روايات أخرى، آخرها"بدايات"لأمين معلوف، أو رواية"الأخوان"للروائي ميلتون حاطوم الذي يكتب بالبرتغالية. يكاد هذا الموقف يكون"أنموذجاً"باراديغم يدمغ بميسمه أكثر من عمل روائي. تبدأ الرواية إذاً بهذه الصورة الأخاذة لرجل يخلط الورق، يحاول بل يتظاهر بمحاولة استحضار الماضي عندما يلح عليه ابنه في الإجابة على أسئلته. والد الكاتب هو الابن الأصغر لواكيم نصار، رب الأسرة الذي صنع بنخوته وإرادته مجد آل نصار قبل أن يخبو هذا المجد، بسبب الحرب الكونية الأولى وبسبب الحسد أو الضغينة التي دبرها أحد أفراد العائلة. تبدأ قصة آل نصار بمغادرة غير طوعية، لواكيم نصار بلدة مرصد إلى عين شير. سبب هذه المغادرة التي أخذت شكل نفي، جرى في شأنها حديث متضارب هو أقرب إلى الإشاعة منه إلى الحقيقة: قيل انه نفي بسب شجار سلت على إثره الخناجر والبنادق، قيل بسبب امرأة، كما قيل الشيء الكثير، لكن لا أحد وبخاصة والد الكاتب، برر في شكل مقنع الرحيل المفاجئ لواكيم برفقة أخيه من مرصد إلى عين شير. يقيم الأخوان في ضيافة طانيوس راشد أحد أصدقاء والدهما. وبما أن بعض المغامرات تصنع مجد أصحابها، فهو بدل أن يغرس أشجار التوت، فاكهة المنطقة، يجوب الأراضي على صهوة جواده إلى أن يعثر على ما كانت تسمى أراضي مشاع، أي لا يملكها أحد بما أنها ملك للجميع. لكن هذه الأراضي غير صالحة، لا للزراعة ولا للغرس. يقلب واكيم الأرض، يوضب مساحاتها ، ينقبها من الحجارة والطحالب، وبدل أشجار التوت، يغرس أشجار الليمون. هنا نشطت أيضاً الحكايات: من أين عثر واكيم على أشجار الليمون، وما الذي حدا به إلى سكب الماء في أرض جافة ويابسة؟ ثمة من قائل انه جلب الأشجار من صيدا. ولكن عندما اختار واكيم نصار مساحة 600 دونم وغرس فيها أشجار الليمون، أورقت أزهاراً وآتت غلتها بعد أشهر من العناية. وفي أحد الأيام، حط البدو رحالهم بالقرب من الضيعة، ليطلقوا العنان للماعز والأطفال يطوفون في الحقول، ينهلون من البئر، ثم"يخيمون"فيها في ما بعد. لم تنفع محاولات واكيم إثناء البدو عن تصرفاتهم، الأمر الذي دفع به إلى تجنيد بعض أفراد عائلته ومعارفه لطرد البدو بحد البندقية. على إثر هذه الحملة التأديبية استرجع واكيم وسع مساحة كيلومترات هيبته ولم يجرؤ يوماً أحد على التحرش به أو منازلته. وسط حقول الليمون، يبني واكيم نصار بيتا سميپ"البيت الكبير". هنا تتدخل شخصية أخرى يتقاطع مصيرها مع مصير عين شير، ألا وهي شخصية الفرنسي إميل كوريال الذي وفد إلى لبنان مقتفياً آثار إرنست رينان. بنى كوريال بدوره في المنطقة بيتا، بل قصراً. لكنه بدل شجر التوت والليمون، غرس فيه شجر الأوكاليبتوس. ولما أنهى بناء القصر أقام مأدبة عشاء دعا اليه أعيان المنطقة. تبادل الحضور التحية بنظمهم قصائد زجلية، ولما جاء دور كوريال، قرأ قصيدة كانت سبباً في وقفة جماعية ومغادرة الحاضرين، باستثناء واكيم. ولما استفسر كوريال عن السبب، قال له هذا الأخير إن المترجم بدل كلمة"شهوة"، استعمل لفظة"نهم"، وفهم منها الحاضرون أن ضيفهم وصفهم بجياع أتوا فقط للأكل، فيما كان قصده غير ذلك. وحتى اندلاع الحرب الكونية الأولى ظل التجار المسلمون يشترون غلة حقول واكيم نصار. ما أنهى واكيم نصار بناء البيت حتى أمطره الأقارب بعروض الزواج إلى أن قرر خطف هيلين كالاس من والدها، على رغم رفض هذا الأخير. وبعد الزواج ، أقسم واكيم أن ينثر ذريته في أرجاء المعمورة. وهكذا انتشر في عين شير أبناؤه وبناته الثمانية. لكن البلدة لم تكن في منأى عن الأحداث التراجيدية التي عاشها لبنان والمنطقة. فعندما قصفت البواخر الإيطالية بيروت، دب الخوف في نفوس السكان وبدأت عملية النزوح في اتجاه الريف. وعموضاً عن صد الهاربين والمنبوذين، وفر واكيم نصار لهم المأوى، وكان قصده إحراز شعبية والحصول على مشروعية أو صدقية تفيده عندما يترشح الى المجلس. كان يرى في الفارين قاعدة انتخابية كفيلة برفعه الى كرسي المجلس. وجبل لبنان الذي كان يحظى باستقلالية يتحول إذا إلى ملجأ للفارين من الخدمة العسكرية ومن الحرب. آوى واكيم نصار الكثير منهم إلى أن حاكت له السلطات العثمانية مقلباً اعتقلته فيه، ثم نفي على إثره عام 1916 إلى بلاد الأناضول، وتحديداً إلى ديار بكر. بيد أن سبب اعتقال أو نفي واكيم نصار وعائلته، باستثناء البنات، مرده صداقاته الفرنسية. ولمدة سنتين تعيش العائلة في المنفى وفي ظروف قاسية. وعندما هُزمت القوات التركية ودحرت الإمبراطورية العثمانية، عادت العائلة إلى عين شير. حاول واكيم نصار إحياء الروح في الضيعة التي فقدت هيبتها. لكن عودته مكنته من معاينة ولادة الانتداب الفرنسي، هو الذي كان ينظر إلى فرنسا بعين العاشق. أربع سنوات بعد وفاة واكيم نصار، يرث أبناؤه ما كان يسمى الزعامة. لكن هذه الزعامة، التي تلقاها إلياس الابن الأكبر، انتكصت في رمزيتها، لأن لا أحد يمكنه تعويض واكيم، نصار. وبسبب غياب الأب، انفرطت السلطة إلى حد ما وبدأ فريد نصار، أحد أبناء واكيم في ارتكاب حماقات صبيانية، فيما شرع جبران نصار، ابن أخي واكيم نصار في حبك الدسائس لعائلة واكيم التي انتظر دائماً فرصة الانتقام منها. عثر جبران نصار إذاً على المقلب الذي مكنه من إفلاس عائلة عمه كانت بين والد جبران وواكيم نصار عداوات دفينة: حياكة مصيدة لفريد نصار الذي كانت نقطة ضعفه هي تقديسه لهندامه، بصرفه مبالغ خيالية لا يملكها على البدلات وربطات العنق والأحذية، من دون الحديث عن الهدايا لعاشقاته الكثيرات اللواتي كان يتباهى برفقتهن في حفلات باذخة. كان فريد يتسوق، لكن جبران كان هو الدائن الذي يجمع الفواتير ويحتفظ بها. في أحد الصباحات، تقدم جبران من هيلين كالاس والدة فريد ليطلب منها تسديد المبالغ، وإلا أدخل فريد السجن، فما كان على هيلين سوى أن تملّك جبران نصف مساحة أشجار الزيتون. وهكذا بدأ العد العكسي لهجرة الأبناء وشتاتهم في أكثر من مكان: رحل إلياس إلى مانشستر في أميركا، فيما رحل المتبقون إلى الأسكندرية وبقي والد الكاتب وحده، في رفقة نساء الضيعة، حارساً لمجد وهمي. في"البيت الكبير"لمسة جلية لوليام فولكنر. نتعرف الى حكايات أشخاص صكوا بمنجزاتهم بياض التاريخ، يلعبون دور الركيزة في الصرح العائلي، وعندما يسقطون يتهاوى من حولهم بنيان كل من يحيط بهم."البيت الكبير"ترميم لذاكرة بهتت صورها. ومثل أركيولوغ، نقب شريف مجدلاني، قلّب، رتّب، أرشف قبل أن يبدأ في عملية ترميم ذاكرة متشظية، شُرخت بعض حلقاتها، يدمغها بوح حثيث أقرب إلى الصمت. وبفرنسية سلسة لا تكلف فيها كتب شريف مجدلاني احدى أجمل الحلقات عن لبنان العميق، لبنان نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وكان هذا البلد في أوج إرهاصات نشأته الحديثة، وتطوره وتحوله.