الذهب يتجه نحو أفضل أسبوع في عام مع تصاعد الصراع الروسي الأوكراني    المنتخب السعودي من دون لاعبو الهلال في بطولة الكونكاكاف    "الجمارك" في منفذ الحديثة تحبط 5 محاولات لتهريب أكثر من 313 ألف حبة "كبتاجون    خطيب المسجد الحرام: ما نجده في وسائل التواصل الاجتماعي مِمَّا يُفسد العلاقات ويقطع حِبَال الوُدِّ    استنهاض العزم والايجابية    الملافظ سعد والسعادة كرم    المصارعة والسياسة: من الحلبة إلى المنابر    فرصة لهطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    "فيصل الخيرية" تدعم الوعي المالي للأطفال    الرياض تختتم ورشتي عمل الترجمة الأدبية    لبنان يغرق في «الحفرة».. والدمار بمليارات الدولارات    حلف الأطلسي: الصاروخ الروسي الجديد لن يغيّر مسار الحرب في أوكرانيا    رواء الجصاني يلتقط سيرة عراقيين من ذاكرة «براغ»    «آثارنا حضارة تدلّ علينا»    «قبضة» الخليج إلى النهائي الآسيوي ل«اليد»    «السقوط المفاجئ»    أرصدة مشبوهة !    التدمير الممنهج مازال مستمراً.. وصدور مذكرتي توقيف بحق نتنياهو وغالانت    أشهرالأشقاء في عام المستديرة    د. عبدالله الشهري: رسالة الأندية لا يجب اختزالها في الرياضة فقط واستضافة المونديال خير دليل    إجراءات الحدود توتر عمل «شينغن» التنقل الحر    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    المخرجة هند الفهاد: رائدة سعودية في عالم السينما    إطلالة على الزمن القديم    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    مشاعل السعيدان سيدة أعمال تسعى إلى الطموح والتحول الرقمي في القطاع العقاري    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    البيع على الخارطة.. بين فرص الاستثمار وضمانات الحماية    لتكن لدينا وزارة للكفاءة الحكومية    المياه الوطنية: واحة بريدة صاحبة أول بصمة مائية في العالم    أخضرنا ضلّ الطريق    أشبال أخضر اليد يواجهون تونس في "عربية اليد"    5 مواجهات في دوري ممتاز الطائرة    فعل لا رد فعل    ترمب المنتصر الكبير    صرخة طفلة    «إِلْهِي الكلب بعظمة»!    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    المؤتمر للتوائم الملتصقة    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    الأمن العام يشارك ضمن معرض وزارة الداخلية احتفاءً باليوم العالمي للطفل    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    مدير عام فرع وزارة الصحة بجازان يستقبل مدير مستشفى القوات المسلحة بالمنطقة    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    «المرور»: الجوال يتصدّر مسببات الحوادث بالمدينة    استضافة 25 معتمراً ماليزياً في المدينة.. وصول الدفعة الأولى من ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة    «المسيار» والوجبات السريعة    وزير العدل يبحث مع رئيس" مؤتمر لاهاي" تعزيز التعاون    أفراح آل الطلاقي وآل بخيت    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كتاب جديد بالفرنسية لالكسندر نجار يعيد اكتشاف "العبقري اللبناني". اسطورة جبران بين علاقته الغامضة بالمصور داي وحبه المضطرب لماري هاسكل
نشر في الحياة يوم 12 - 10 - 2002

هل بقي أمر في حياة جبران لم يكتب عنه، بعد أكثر من سبعين عاماً على رحيله؟ هل بقيت زاوية في سيرة هذا الأديب العالمي لم يُلق عليها ضوء، بعدما تخطّت الكتب التي تناولت شخصيته وأدبه المئة؟ كتاب جديد بالفرنسية يعيد قراءة ظاهرة جبران مكتشفاً أسطورة هذا الكاتب والرسام بعين أخرى.
لا تزال الأسرار تكتنف حياة جبران وسيرته وأدبه جاعلة منه لغزاً أو أحجية. وكلما صدر كتاب عنه يجد القارئ نفسه أمام قضيّة تسمّى جبران أو أمام "حالة" تسمى جبران أيضاً وليس فقط إزاء كاتب فريد أو أدب يشبه صاحبه تمام الشبه في عدم خضوعه للتصنيف "النوعي" أو "المدرسي" في معناهما النقدي الصرف.
مقولة "جبران - اللغز" يستهلّ بها الروائي الكسندر نجار كتابه الجديد بالفرنسية "خليل جبران" * ويختتمه بالمقولة الأخرى "جبران - الحالة" ساعياً الى القول ان جبران هو أكثر من كاتب وشاعر ورسّام مذ أحاط نفسه بهالة ملتبسة، دينية وصوفية ورؤيوية ومنذ أن أحاطه الآخرون - قراء ونقاداً - بهالة أخرى من الدهشة والانبهار. قارئ جبران يشعر دوماً أنّه لا يقرأ كاتباً عادياً، مع غض النظر عن قيمة هذا الأدب. فسحر جبران يكاد يطغى على قارئه للوهلة الأولى ويظل يرافق هذا القارئ حتى بعد انتهائه من مهمته بل حتى وان لم ينسجم القارئ مع ما قرأ أو تحفّظ عليه.
لعل أهمّ ما يتميّز به كتاب الكسندر نجار، علاوة على كشفه بضعة أمور غير مطروحة سابقاً مثلما يُفترض، أو عطفاً على اعادة اكتشافه بعض القضايا الشائكة، جعله سيرة جبران وأدبه وفنه أقرب الى المادة الروائية التي يمعن في سردها انطلاقاً من لعبة التقطيع والتوازي والقصّ الكرونولوجي أو التأريخيّ. لكنّه لم يغفل لحظة مهمة التحليل وفق ما يقتضي السرد: أدبياً ونفسياً وفلسفياً واجتماعياً وسياسياً. سعى نجار الى كتابة نصّ يتقاطع فيه السرد والتأريخ والتحليل بغية الإحاطة الشاملة بعالم يظلّ عصياً على الاحاطة الشاملة. وهكذا، يشعر القارئ ان الكاتب يترك له الكثير من المفاتيح التي تمكّنه من سبر المزيد من الأسرار، مثلما يترك له الكثير من الأسئلة التي تحضّه على البحث عن أجوبة لها. وبدا واضحاً أن نجّار لم يدع مرجعاً أو وثيقة أو كتاباً عن جبران إلا راجعه عبر عين الموثق والباحث والروائي الفضوليّ. وهذا أيضاً، ما يشعر به القارئ الذي يواجه سيلاً من الوقائع والأخبار والقضايا المستقاة من هنا وهناك، والمدعمة غالباً بالشواهد والتواريخ. لكن الطابع السرديّ للكتاب جعله في منأى عن الجفاف وعن الوقوع في التكرار والأطناب. فالكاتب يعتمد أبسط الأساليب وأجملها في الكتابة السيرية ليخفي الجهد الكبير الذي بذله في التقميش والتجميع والتحليل والربط. ولعلّ هذا الأسلوب أمكنه من ان يبقي الأسئلة مفتوحة، مقترحاً ما يشبه الأجوبة المثيرة وغير المفروضة: هل كانت علاقة جبران بالمصوّر داي علاقة شاذة؟ هل كان عاجزاً عن مضاجعة ماري هاسكل؟ هل كان ماسونياً؟ هل كان رسّاماً كبيراً؟ هل...؟
صحيح ان الكسندر نجار يتوجه الى قارئ فرنسي أو فرنكوفوني، وصحيح انه أخذ في الحسبان أنّ التوجه الى هذا القارئ الغريب الذي لم يقرأ من أدب جبران سوى "النبي" يتطلب منه سوق بعض الشروح والتفسيرات، لكنّ القارئ العربي الملمّ بجبران شخصية وأدباً، يشعر انه يكتشف جبران في صورة أخرى. هل هي اللغة الفرنسية تختلق ما يشبه المسافة بين القارئ وجبران أم أنّها اللعبة الروائية التي جعلت سيرة هذا الكاتب أقرب الى الرواية المتفجرة مأسوياً؟
يكشف نجار قضية مصادرة أملاك العائلة في بشرّي قانونياً في العام 1891 تبعاً للضرائب المتراكمة، وقد قبض حينذاك على والد جبران وسجن وحرمت العائلة من المنزل والممتلكات، مما اضطر الأم والأبناء الأربعة الى الهجرة الى بوسطن في العام 1895. ويركّز كذلك على الرسائل المكتشفة بين جبران وهيلانة غسطين وبعضها كان مجهولاً وغير منشور، وأهمية هذه الرسائل أنها تلقي ضوءاً على أحوال جبران في سنواته الأخيرة. إلا أنّ أهمّ ما يكتشفه الكسندر نجار هو المعرض الفني والفوتوغرافي الذي أقامه قبل عام 2001 متحف فان غوغ في امستردام للمصوّر فرد هولند داي وهو كان أول من اكتشف جبران ورعاه وأمدّه بالعون والمال. وخطورة هذا المعرض تكمن في ترسيخه التهمة "المثلية" التي رافقت داي في بوسطن وخارجها. فالصور واللوحات التي عرضت في متحف فان غوغ تدلّ أولاً على تأثر جبران بهذا المصوّر والفنان ثمّ على عالمه الذكوري إذ صوّر الكثير من الفتيان والشبان عراة موظفاً عريهم جمالياً وفنياً. وقد حمل كتاب المعرض ثلاثة صور لجبران ولكن باللباس الشرقي وسواه. أما القضيّة الأخرى التي حاول نجار ان يستنفدها فهي العلاقة الغامضة التي قامت بين جبران وماري هاسكل. وان لم يحسمها نجار تماماً فهو حاول أن يضفي عليها طابع النقصان تبعاً لهروب جبران أو لابتعاده جنسياً من السيدة التي حضنته ورعته وأنفقت عليه.
لقاءان تاريخيان
تاريخان إذاً، مهمّان بل مصيريان في حياة جبران: 9 كانون الأول ديسمبر 1896 و10 أيار مايو 1904. التاريخ الأول هو لقاء جبران مع المصوّر هولند داي والثاني لقاؤه مع ماري هاسكل. واللقاءان هذان، لو لم يحصلا لما كان جبران ما كان عليه ولما أصبح ربما ما أصبح من ثمّ. انهما لقاءان قدريّان ولو نجم عنهما بعض الألم والريبة والاحباط والاضطراب...
كان جبران في الثالثة عشرة من عمره عندما التقى المصوّر والرسام الأميركي فرد هولند داي في محترفه بوسطن. كان داي في الثانية والثلاثين وقد بدأ حينذاك يحتل موقعاً لافتاً في الوسط الفني والثقافي في بوسطن وسواها. صوره الفوتوغرافية ولوحاته تتدرّج بين الرمزية والصوفية. لكنّه - كما قيل علناً - كان شاذاً، بل ذائع الصيت في شذوذه، يملك داراً للنشر ويهتم بالجسد الذكريّ علانية على طريقة الاغريق. ولم يكن يتوانى عن التعرّف الى الفتيات والشبان الذين كانوا "يعرضون" أجسادهم له وهي الأجساد التي ملأت صوره ولوحاته. حينذاك كان داي يبحث عن جسد ذكوري شرقي ووجد ضالته في هذا الفتى اللبناني، الجميل الوجه وذي الشعر الأسود الطويل والنظرة المتأملة والمزاج القاتم، كما يعبّر الكسندر نجار. وافق جبران على أن يعرض نفسه ولكن لم ترد أي صورة عارية له في معارض داي بل كان دوماً باللباس الشرقي وسواه، علماً ان حريقاً هبّ في محترف داي التهم مئات الصور و"النيغاتيفات" في العام 1904، ومن ضمن المحروقات لوحات لجبران أودعها المحترف. راح داي يُلبس جبران أزياء مختلفة: عربية ومشرقية وهندية ويصوّره كثيراً مركزاً على ما يمكن تسميته بالناحية الأنثوية في وجهه، وهذا ما تبوح به الصور. ولم يتخلّ المصوّر الأميركي عن جبران كعادته مع الفتيان الذين يصوّرهم. بل أصبح بمثابة الأب الروحي والفني له، رعاه وحماه وكان يساعده مادياً ويشتري له الملابس ويصحبه الى المآدب والسهرات وحتى الى بيته النائي على شاطئ البحر. ولم يكن على جبران الفتى إلا أن يتأثر بهذا "الأب" المنقذ وكان يتأمل صوره ولوحاته. ولفتته بعض التفاصيل لدى داي: "كرة الكريستال" التي صوّرها داي خلف ماترلينك ستنتقل الى الكثير من لوحات جبران فهي ذات دلالة رمزية، جسد أورفيوس عازفاً على القيثارة الذي رسمه وصوّره داي سيرد أيضاً في بعض لوحات جبران... وتأثر جبران كذلك بتقنية داي في تصوير "البورتريه" ورسمه، وتعلّم منه كيف يتحرّر من أي قيد، وكيف يبحث عن الجمال في العري الذكوري، وكيف يعود الى الميثولوجيا يستقي منها الموضوعات والأشكال، وكيف يبني جسوراً بين الثقافات الانسانية، وكيف يبحث عن الروحانية ويجسدها في فنه - كان يقول داي: "اللامحدود هو الطريق نحو اللانهائي". ويجب عدم اغفال أنّ داي هو الذي جعل جبران يقرأ وليم بليك ويتملّى رسومه مثلما جعله يكتشف أدب كاربنتر وويتمان وكيتس وأمرسون وسويدنبرن وسواهم. وكانت فرحة جبران الكبيرة هي في تعرّفه الى عالم بليك الذي سيكون له عليه أثر كبير ولافت جداً. فقد فتن الفتى المراهق بعالم بليك الأسطوري والصوفي والباطني، وأعجب بالمصادر التي يحفل بها عالمه، وبمواقفه ورؤاه وأفكاره. فالشاعر والفنان بليك طالما سعى الى جعل النظرة الانسانية الخالدة تطل على العالم الداخلي. طبعاً لم يستطع جبران المراهق استيعاب بليك كاملاً - وهو ربما لم يستطع لاحقاً، إذ ان بليك أشبه بالأوقيانوس الذي لا يحصر - لكنّه طُبع به وتمثل مبادئه: نقد المجتمع والسلطة، التخييل، وحدة الكائن، قدرة المسيح المتمرّد... ومثلما عرّفه على الأدباء والرسامين ومنهم موريس ماترلينك الذي فاز بجائزة نوبل عام 1911، فتح داي أبواب الفن أمام جبران. وفي معرض داي شباط - فبراير 1898 تعرّف جبران على جوزفين بيبادي - احدى نساء حياته - وقالت له: "أراك في كلّ مكان" وقصدها أنّ صور جبران التي التقطها داي تملأ المعرض، اضافة الى عشر لوحات من رسم جبران رافقت الصور. حينذاك أصبح جبران في الخامسة عشرة من عمره. إلا ان العلاقة بين داي وجبران أغاظت أهله، خصوصاً أنّ داي لم يكن يخفي مثليته التي كانت مادّة للتباهي في الوسط الثقافي. وراحت تطرح الأسئلة: لماذا تعلق المصور بهذا الفتى؟ لماذا يصرّ على تصويره؟ لماذا يرافقه في الحفلات والسهرات؟ هذه الأسئلة التي طرحها الكثيرون أيضاً كانت تزيد من غموض هذه العلاقة والتباسها. إلا أنّ الأمور ساءت في نظر العائلة وربما في نظر داي عندما أغرم جبران بامرأة ثلاثينية هي زوجة أحد التجار. ولم يكن من حلّ سوى بإرسال جبران الى لبنان انهاء للعلاقتين: بالمرأة المتزوجة وداي. وان كانت عودة جبران الى لبنان معروفة في تفاصيلها فأن ما يلتبس فيها هو تدبر أمر سفر جبران وقسطه المدرسيّ في احدى أغلى المدارس في بيروت الحكمة، اضافة الى مصروفه الشخصيّ، وكان والده في أشدّ أحواله بؤساً وفقراً. مثل هذه الأمور تعيد الى الذاكرة الدور الذي لعبه داي مادياً في حياة جبران، وقد يكون هو الذي أمدّه بالمال خلال السنوات الأربع التي قضاها في لبنان وفيها كما هو شائع، أحبّ حلا الضاهر وسلطانة ثابت وانتهى الحبّان مأسوياً. فالأولى رفض أهلها الاقطاعيون أن تحب هذا الغريب والثانية توفيت تاركة لجبران بعض أشيائها الصغيرة.
اللافت جداً، وهذا ما قيل سابقاً ويقال دوماً، ان جبرن الحريص على الاحتفاظ بالرسائل التي ترده وبالقصاصات الصغيرة والأشياء النافلة المتعلقة به، لم يحتفظ بأي رسالة من الرسائل التي يفترض أن داي أرسلها اليه من بوسطن خلال السنوات الأربع التي قضاها في بيروت، فيما هو احتفظ برسائل داي الأخرى. هل أراد جبران أن يتلف تلك الرسائل المفترضة والحافلة ربما بالعواطف لئلا يُفتضح سرّ تلك العلاقة؟
المستغرب أيضاً هو أن يرسل جبران رسالة الى والده من بيروت يقول فيها انه سيقوم بجولة على سورية وفلسطين ومصر في رفقة عائلة أميركية، وكان داي في الفترة نفسها يقوم بجولة على بعض البلدان الشرقية. وقد أرسل جبران لاحقاً رسالة الى مي زيادة يخبرها فيها عن الأهرام وأبي الهول وعن الرمل الذي افترشه هناك.
ستظلّ العلاقة التي جمعت بين جبران وداي غامضة، شديدة الغموض، ولن يتمكّن النقد من ايضاح طبيعتها وفضح حقيقتها مهما غاص في التحليل والمقارنة. انها تشبه في وجه من وجوهها علاقة جبران الغامضة أيضاً بماري هاسكل كما لو أنها جزء من حياتها العاطفية المضطربة والحافلة بالمغامرات الحقيقية حيناً والوهمية حيناً.
ماري هاسكل: الحب الناقص
أما التاريخ القدري الثاني فهو 10 أيار 1904. انه تاريخ لقاء ماري هاسكل بجبران في معرضه الذي ساهم في اقامته فرد هولند داي في "هاركورت ستوديو". منذ تلك اللحظة ستصبح ماري هاسكل "ملاكه الحارس" وحبّه المضطرب والقلق وشغفه الحائر. بعد ذلك اللقاء راحت ماري هاسكل تكتشف جبران وتحبّه وتعجب به وبشخصه وروحه ونزعاته المختلفة. وحضوره أضاف الى حياتها المضطربة أصلاً اضطراباً آخر. فهي كانت ذات نزعة سحاقية وكانت لها علاقة غامضة بامرأة تدعى شارلوت تيللر. وعندما عرض جبران الزواج منها تفاجأت وانتفضت جاعلة من السنوات العشر التي تكبره بها ذريعة لرفض الفكرة. لكنها كثيراً ما حلمت بجبران وكثيراً ما شعرت برغبة حارقة إزاءه. وكان جبران يرفض مضاجعتها لئلا يفقد المثال الذي يحبّه فيها. ولعله مثال أمه الذي كان يبحث عنه في كلّ امرأة، وكلّما وجده امتنع عن تدميره جنسياً. كانت ماري هاسكل، كما يرى الكسندر نجار، ممزّقة بين نزعة "الليبيدو" غير المشبعة والمحرّمات التي يصعب عليها أن تتخطاها كونها ابنة عائلة محافظة، بين انجذابها السري الى النساء ورغبتها في الرجال. ولعل علاقتها غير السويّة بجبران فضحت ربما عقدته الأوديبية. فعندما قررت أن تختلي به وتضاجعه رفض جبران مكتفياً بالملامسات الخفيفة والقبلات. وقد تكون علاقة جبران بالنسوة الكثيرات اللواتي أحبهن أو عرفهن غامضة أيضاً، وربما أشد غموضاً. ترى ألم يقل لجوزفين بيبادي: "أحببتك كما لم أحبّ من قبل ولكنني أخافك"؟ ألم يجد في مي زيادة المرأة الأنسب له نظراً الى بعدها والى كونه لم يرها مرّة في حياته فيما راسلها سنوات يجمعهما الحبّ الروحي؟ هكذا أيضاً كانت علاقته غامضة بشارلوت تيللر نفسها التي كانت تضاجع ماري هاسكل كذلك علاقته بالفرنسية ميشلين التي حملت مرة وأجهضت تبعاً لسوء الحمل ولم يعرف ان كانت حملت من جبران أو سواه، مع أنّ جبران اضطرب للخبر. نسوة كثيرات شغلن حياته حباً أفلاطونياً أو جنساً وشبقاً! لا أحد يمكنه أن يجزم: جرترود باري، ماري قهوجي، ماري الخوري وهيلانة غسطين التي راسلها جبران وظلّت مراسلتهما مجهولة الى ان كشفت أخيراً وكان نجار من أوائل الذين اعتمدوها. غير ان ماري هاسكل لم تستطع أن تنسى جبران ولا هو أن ينساها حتى بعدما أصبحت سنواته الأخيرة وقفاً على أخته ماريانا بعد الوفاة المأسوية لأفراد العائلة وعلى بربارة يونغ الصحافية التي أصبحت سكرتيرته الخاصة ورفيقة نهاره وليله. وكانت هي تطبع كتبه الأخيرة التي كان يمليها عليها. وعندما اكتشفت، بعد وفاة جبران 10 نيسان/ مارس 1931 مراسلته مع ماري هاسكل حاولت ان تحرقها، لكنّ ماري انقذتها في اللحظة الأخيرة. أما فضل ماري هاسكل على جبران فلا يحد. كانت هي قلبه وحلمه ولو لم يقترب منها جنسياً. وكان هو يصرّ على أن تقرأ هي مخطوطاته الانكليزية وتعمل فيها قلمها بحرية تامّة. ولم تكن تتوانى هي، اعجاباً بجبران، عن مديح لغته الانكليزية قائلة: "لقد خلق الانكليزية". أما هو فكان يقول انه لم يكن ليكتب الانكليزية لولا ماري هاسكل، فهو ظل يفكّر بالعربية طوال حياته كما يعبّر. ماري هاسكل هي التي أرسلته الى باريس على نفقتها وهي التي مهّدت له سبل النجاح رساماً وكاتباً وكانت مبهورة به وبأسراره الشخصية وهو كان ربّما المثال الذي طالما بحثت عنه في صراعها النفسي الشديد.
لم يدع الكسندر نجار قضية أو موضوعاً أو زاوية تفوته في حياة جبران وأدبه وفنّه ومعظمها تتضمنه سيرته الرائجة والمعروفة. لكنّ فرادة كتاب الكسندر نجّار من جمعه بين السرد والتأريخ والتوثيق والتحليل الأدبي والفلسفي والنفسي. وقد يكون كتابه مختصراً مفيداً جداً للوثائق والأبحاث والكتب المتعلّقة بجبران شخصاً وأدباً وفنّاً. ولعلّ مراجعه ومصادره الكثيرة تدل حقاً على شمولية مقاربته لهذا الأديب الذي تخطّى الأدب والفن ليصبح ظاهرة بل "حالة" كما يعبّر نجار، ولكن من غير ان يسقط عنه "السرّ" الذي اكتنفه وأضحى به سرّ الأسرار الأدبية والفنية والروحية.
* Khalil Gibran, edit.
pygMalion, Paris, 2000


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.