لا يبتعد الروائي اللبناني الفرانكفوني شريف مجدلاني عن روايتيه السابقتين في روايته الأخيرة التي صدرت حديثاً لدى دار Seuil الباريسية بعنوان «سنوات مجدنا القصيرة». فعلى رغم اختياره لها إطاراً تاريخياً جديداً وشخصياتٍ جديدة، يتملّكنا الشعور مراراً داخلها بأننا نقرأ القصة ذاتها، مع اختلافاتٍ طفيفة أُدخلت عليها، أو أننا نتقدّم على أرضيةٍ مألوفة. ويعود ذلك حتماً إلى ثوابتٍ، أو بالأحرى الى محرّكات سردية، حاضرة في روايات مجدلاني الثلاث. ولكن قبل التوقف عندها، لا بد أولاً من كلمةٍ سريعة حول مضمون روايته الأخيرة التي تدور أحداثها في لبنان خلال السنوات العشر التي سبقت اندلاع الحرب الأهلية عام 1975 ويلعب دور البطل والراوي فيها شاب بيروتي مغامر يدعى غالب قصّاب يسعى على طول الرواية إلى أخذ ثأره من القدر واسترجاع ثروة عائلته واعتبارها. وفي الأصل، غالب هو من عائلة بيروتية متواضعة، لكن والده حليم قصّاب تمكّن بعد الحرب العالمية الأولى من جمع ثروةٍ في تجارة البِذار وأشجار الفاكهة، ومن شراء أراضٍ في منطقة عين شير حيث شيّد منزلاً عائلياً كبيراً ومصنع نسيج، قبل أن يُقتل في ظروفٍ غامضة عام 1948 ويتبيّن لزوجته وأولادها أنه لم يترك لهم سوى ذكرى أمجاده. ولمساعدة والدته في إعانة العائلة، يُضطرّ غالب إلى التخلّي عن أمنيته في دخول الجامعة وإلى العمل في متجر أقمشة لأحد معارف العائلة في سوق أياس (بيروت) حيث كان يمضي وقته في قراءة الكتب والعمل على مشروع كتابٍ حول مغامرين، أمثال فاسكو دو بالبوا وأمين باشا وصموئيل أياد، أسّسوا ممالك مجيدة و «عاكسوا قوانين التاريخ أو فرضوا عليه تاريخهم الخاص». وفي متجر الأقمشة هذا سيعرف غالب مغامراته العاطفية الأولى ويتدرّب على فن الغواية قبل أن يتعرّف إلى الشابة ماتيلد صبّاغ التي تنتمي إلى عائلة كبيرة فقدت مع الزمن ثروتها، فيتحابان في شكلٍ عذري ويتعاشران إلى أن تخبره ماتيلد بأنها على وشك الزواج من رجلٍ آخر غني وقادر على فكّ رهونات أملاك عائلتها، فيتلقى غالب صدمةً تخلّف مرارةً كبيرة فيه وتجعله يثور على وضعه البائس وينطلق في سلسلة مغامرات غايتها الثراء واسترجاع كرامته. وفي هذا السياق، يعمل سكرتيراً خاصاً لرجل الأعمال والشاعر إدوار بورجي ويجهد في بيع مخزونٍ كامل من ماكينات خياطة ربحه في لعبة الشطرنج وينشط في مخطّط البولوني ريفوسكي لمساعدة أمير «شط العجوز» على استرجاع إمارته، وفي مشاريع مشبوهة كثيرة من هذا النوع، محاولاً في موازاة ذلك نسيان ماتيلد في أحضان غيرها من النساء. لكن يجب انتظار لقائه بمكسيم إلياس في مكتب بورجي وقيامه بمهمة لا تصدَّق لحساب هذا الأخير كي تبتسم الحياة له وينال مبتغاه. وتقضي المهمة بالسفر إلى حلب (سورية) لتفكيك ماكينات مصنع الياس للنسيج بعدما تم تأميمه، وتحميلها وشحنها إلى لبنان؛ مهمةٌ شبه مستحيلة ينجح في تأديتها فيرث كل هذه الماكينات على أثر وفاة صاحبها المفاجئ، قبل أن يُضطرّ إلى تكرار هذه المهمة في بيروت في ظروفٍ أصعب عشية الحرب الأهلية... وكما في روايتَيه السابقتين «قصة المنزل الكبير» (2005) و«خان القوافل» (2007)، يتوقف مجدلاني في عملية سرده لهذه الرواية عند تفاصيل ومواضيع جانبية كثيرة لا مجال هنا للخوض فيها، لكنها تشكّل أحد مصادر غناها. فعلى خلفية قصة غالب قصّاب الرئيسة، يُسقط الروائي لنا ببراعة مناخ بيروت قبل اندلاع الحرب بجانبها الكوزموبوليتي الفريد وحركة أسواقها الشهيرة وهندسة بعض عماراتها وذهنية أبنائها وأمجاد أو مصائب بعض عائلاتها القديمة، من دون أن ينسى قبضايات بيروت واللاجئين الفلسطينيين الذين ستستقبلهم هذه المدينة بالآلاف منذ عام 1948. لكن كثافة حبكة مجدلاني السردية ليست القاسم المشترك الوحيد لرواياته الثلاث. ففي جميعها، استعان بلغةٍ أنيقة ورشيقة تخدم على أفضل وجهٍ ميوله السردية. وفي كل رواية، ثمّة شخصيةٌ رئيسة مغامِرة ومستعدة لكل المجازفات والتحدّيات من أجل تحقيق طموحها، كما ثمّة مهمة شبه جنونية ونموذجية تعمد هذه الشخصية إلى تأديتها، كتفكيك وكيم نصّار المنزل الكبير الذي بناه وإعادة تشييده بزاوية مختلفة، في الرواية الأولى، وتحميل سيمون أياد قصراً عربياً على ظهر الجمال، بعد تفكيكه، ثم تنقّله به في صحارى سورية والسعودية قبل التوجّه إلى لبنان، في الرواية الثانية، وتفكيك غالب مصنع النسيج مرّتين وتنقّله به بين سورية ولبنان، في الرواية الأخيرة. وحين نعلم أن وكيم نصّار هو في الواقع جدّ مجدلاني من أبيه، وأن سيمون أياد هو جدّه من أمه، نتساءل مَن يقف خلف شخصية غالب قصّاب المثيرة، خصوصاً أن الروايات الثلاث تظهر على شكل ثلاثية متماسكة في مصادر وحيها وإطارها الجغرافي والعائلي ومواضيعها، وأن شخصياتها الرئيسة، أو على الأقل أسطورتها، تتنقّل من رواية إلى أخرى. يبقى البُعد الإنساني الذي يوحّد بدوره روايات مجدلاني ويمنحها قيمةً إضافية، ونستشفّه في روايته الأخيرة في سلوك والد غالب الذي فتح عيون أولاده باكراً على بؤس الآخرين وحضّهم على فعل الخير، وفي سلوك والدته النبيل والكريم تجاه عمّال وعاملات محترفها، وفي سلوك غالب أخيراً الذي ما أن لاقى صعوبات في بيع ماكينات الخياطة التي ربحها حتى عمد إلى توزيعها مجاناً على الفقراء.