كشفت الصور المحزنة والمؤلمة التي شاهدها العالم على شاشات التلفزة لآثار إعصار"كاترينا"وضحاياه عن حقائق مرعبة، اذ من يرى الصور لا يكاد يصدق انها في الولاياتالمتحدة، بل يحسبها صوراً لإحدى المآسي الإفريقية العديدة، ذلك ان معظم الضحايا كانوا من السود الأميركيين الذين لم تسعفهم احوالهم المادية البائسة في الخروج من المدن المتضررة قبل وقوع الكارثة. ولا شك في ان حجم الكارثة التي خلفها الإعصار المدمر الذي ضرب خصوصاً ولاية لويزيانا ستكون له تبعات وتداعيات سياسية على الإدارة الأميركية الحالية وعلى الرئيس جورج بوش تحديداً. فالأزمة في بدايتها، ويحتمل ان تتطور لاحقاً حين تنكشف الكثير من الأمور، خصوصاً تلك المتعلقة بالتمييز العنصري وأزمة الطاقة والتلوث والأزمة الصحية والخسائر البشرية والمادية التي تكبدتها المنطقة المنكوبة. لكن المؤكد ان اعصار"كاترينا"فجّر فضيحة قومية وعنصرية، وأحدثت ذهولاً دولياً بسبب عجز سلطات اكبر قوة في عالم اليوم عن ادارة جهود الإنقاذ والإغاثة على رغم مرور ايام عدة على الإعصار الذي تجاوز عدد ضحاياه العشرة آلاف قتيل في لويزيانا وحدها طبقاً لتقديرات حاكمة الولاية. ومع اتساع حجم الكارثة استنفر الكثير من دول العالم للمساعدة والإغاثة، واضطرت الإدارة الأميركية الى سحب الكثير من الطيارين والجنود من افغانستانوالعراق للإغاثة وإحلال النظام في المناطق المنكوبة. وكشفت صحيفة"نيويورك تايمز"ان ثلث وحدات الحرس الوطني في لويزيانا ونسبة اكثر من الحرس الوطني في الميسيسيبي موجودة في العراق، أي على بعد سبعة آلاف كيلومتر من الكارثة الإنسانية التي خلفها الإعصار، في حين ان الدور الرئيس لهؤلاء يكمن في الالتزام بالعمل في حالات الطوارئ في ولايتيهم. كما اضطرت الإدارة الأميركية الى سحب 30 مليون برميل من مخزونات نفط الطوارئ لمواجهة الأزمة، وأعلنت وكالة الطاقة الدولية قيام اعضائها الپ26 بعمل جماعي، يتمثل في استخدام 60 مليون برميل نفط على مدى شهر لمواجهة تداعيات الإعصار الذي كشف ضعف الولاياتالمتحدة في مواجهة اكبر كارثة طبيعية تتعرض لها. وتعاني مدينة نيو أورليانز وضعاً مأسوياً، زاد من تفاقمه تحالف الإعصار مع نيران الحراق والنهب، اذ هزتها انفجارات غامضة واندلعت حرائق في عدد من المصانع، خصوصاً بعض مصانع المواد الكيماوية، اضافة الى تدني جهود الإغاثة، وسعي السلطات لوضع حد للفوضى وعمليات السلب والنهب، وسيطرة عصابات من اللصوص والمجرمين على احياء كاملة فيها، وعجز الحرس الوطني عن الدخول الى تلك الأحياء، الأمر الذي يكشف عن خلل اخلاقي كبير تعانيه بعض قطاعات الشعب الأميركي. ويمكن القول ان ما اصاب لويزيانا يفوق الوصف، ويمكن توقع حصوله في دول فقيرة وضعيفة، لا حول لها ولا قوة، اما ان تحصل الكارثة في بلد كالولاياتالمتحدة فهو امر جلل، ذلك ان الإدارة الحاكمة في هذا البلد متغطرسة، ولا تتكلم إلا لغة القوة، ولا ترى في العالم غير صورتها، ولا تكف عن التحدث عن تفوقها وقوتها، وهي تتوعد الكثير من حكومات العالم وشعوبه، وتوزع النصائح والخطط على الجميع، ويدعي رئيسها بأنه كلف تكليفاً إلهياً، وأنه صاحب"رسالة إنسانية"، ويريد تصدير نموذجه الى دول"الشرق الأوسط الكبير"، كي تتخلص من كل المشكلات التي تثقل كاهل شعوبها. الإدارة الأميركية التي تحكم البيت الأبيض تتحمل قسطاً مهماً من المسؤولية المباشرة عن الآثار المدمرة لهذا الإعصار، نظراً لتباطؤها في التعامل معه، ولسياساتها التي تتصور ان الأخطار المحدقة بالولاياتالمتحدة تأتي دوماً من خارجها. وأصرت هذه الإدارة على رفض التوقيع على معاهدة"كيوتو"للاحتباس الحراري، على رغم معرفتها بأن هذه الظاهرة ادت الى ارتفاع درجات الحرارة في المحيطات، الأمر الذي يتولد عنه بحسب الخبراء والمختصين تشكيل الأعاصير والكوارث الطبيعية، والتي تضرب بين الحين والآخر سواحل الولاياتالمتحدة وسواها. لقد ساد نمط من التفكير السياسي في الإدارة الأميركية الحالية، القادمة من اوساط اليمين المحافظ، يحيل الى مدرسة التشدد، ايام صراع النفوذ والمصالح اثناء الحرب الباردة وانقسام العالم الى نظام الثنائية القطبية، وهي مسكونة على الدوام بهاجس العدو الخارجي. وأماط هذا الإعصار اللثام عن حجم اهمالها وتقصيرها الداخلي. فمئات البلايين التي اهدرت في العراق كان يمكنها اصلاح السدود وتشييد الموانع حول المدينة المنكوبة، والحرس الوطني كان يمكن له ان يسيطر على الوضع الأمني في الولايات المتضررة لولا الإنهاك والتبعثر الناتج من احتلال العراق. لذلك من المتوقع ان يعصف اعصار"كاترينا"بالحياة السياسية الأميركية، وان تنتقل آثاره من الأرض الى الاجتماع وإلى السياسة الداخلية التي اعتمدتها الإدارة الأميركية، فالحديث يتجدد اليوم حول التفرقة والتمييز العنصري بين السكان البيض والفئات الملونة التي تشكل الغالبية العظمى من سكان نيو اورليانز. والمعلوم ان المدينة المنكوبة بناها الإسبان بعيد وصولهم الى"الارض الجديدة"، ثم استولى عليها الفرنسيون، وباعها نابليون بونابرت مع ثلاث ولايات اخرى، نظراً الى حاجته الى اموال في ذلك الوقت لتمويل حروبه الأوروبية، لكن مع نشوء الولاياتالمتحدة صارت نيو اورليانز ملاذاً للأقليات الهاربة من القتل والقمع والتصفية، اذ لجأ إليها السود هرباً من اضطهاد البيض في الشمال، كما لجا إليها الفقراء والباحثون عن عمل من سكان اميركا الوسطى والجنوبية، وباتت المدينة مجمعاً ضخماً لأصحاب البشرة الملونة. ويعزو الكثير من المهتمين بالشأن الأميركي الإهمال والتمييز اللذين لحقا بالمدينة الى طبيعة تركيبتها السكانية، حتى ان الكثير من الإدارات الأميركية التي تعاقبت على البيت الأبيض اعتبرت المدينة خارج حساباتها، وخارج القانون والموازنات الفيديرالية. وبقيت المدينة فقيرة، يمتص خيراتها اصحاب البلايين وتتقاذفها فرق العصابات والمافيا والمجرمون، لكن سكانها حاولوا البحث عن مخرج سلمي من حالها المزرية فلجأوا الى الفن والموسيقى، وعملوا على تحويلها مدينة للمهرجانات الموسيقية والفنية، غير ان هذا الأمر لم ينقذها من الفقر والحاجة، فبقيت تحتضن ألوفاً مؤلفة من العاطلين من العمل ومتعاطي المخدرات والمشردين. اليوم، وبعد ان اصابها غضب اعصار"كاترينا"، فأن الأمر كشف ما هو مستور ومعيب، اذ تبين ان اكثر من ثلثي سكانها الذين لا يتجاوز عددهم المليون ونصف مليون من الفقراء، وأن هؤلاء الضحايا فتحوا ثقباً آخر في جدران القلعة الأميركية الحصينة، وأظهروا عجزها وتقصيرها الداخلي."إنه عار وطني"بحسب وصف تيري ايبرت، المسؤول عن عمليات الطوارئ في نيو اورليانز. كاتب سوري.