تعودت الجماهير العربية، بل الأنظمة أيضاً، أن تصب جام غضبها - خصوصاً فى سنوات الانحسار القومي - على جامعة الدول العربية مع تحميلها أخطاء العالم العربي وخطايا سياساته الإقليمية، وآن الأوان لكي ننظر بعين الإنصاف لتلك المؤسسة القومية الكبرى، ذلك أن الجامعة العربية هي محصلة لسياسات معينة ومواقف مختلفة ولكنها ليست السبب فيها أو العامل المؤدي إليها، وحدث تحول في الآونة الأخيرة يجعلنا نقول بكل ثقة إن مصداقية الجامعة ارتفعت وأن قدراً كبيراً من الانتقادات الموجهة إليها لم يعد له محل، إذ أن زيارة الأمين العام عمرو موسى للعراق والأداء المتوازن أثناء الزيارة وفي التحضير لها يجعلنا نقول إن صورة الجامعة تبدلت ولم يعد من العدل أن نتهمها بالتقاعس أو الجمود، فلقد نقلت زيارة الأمين العام جوهر التسوية الخاصة بالمسألة العراقية من الساحة الدولية إلى الساحة الإقليمية كما طرحت بوضوح أهمية البعد العربي للعراق ومستقبله فضلاً عن الإطار الموضوعي الذي أحاط به الأمين العام زيارته وتعامله مع كل ألوان الطيف السياسي العراقي من السيد علي السيستاني والسيد الحكيم إلى الرئيس طالباني والزعيم بارزاني مروراً بكل رموز السنة العرب في العراق، وتحمل هذه الزيارة في نظرنا دلالات جديدة نتعرض لها في الملاحظات الآتية: - أولاً: كان العراق - وربما لا يزال - على شفا حفرة من الانهيار القومي وتمزق الهوية وربما احتمالات تفكيك الدولة وتكريس روح الانقسام فيها نتيجة سنوات طويلة من المعاناة الإنسانية والحروب المتصلة والمواجهات المتعاقبة وأدى ذلك إلى جرأة بعض القوى في محاولاتها المساس بعروبة العراق ووحدته في ظل عنف دموي غير مسبوق في تاريخ المنطقة كلها. - ثانياً: كان لدور الجامعة العربية قبل زيارة الأمين العام أثر ملموس فى اتجاه التسوية السلمية لذلك الصراع الدامي فلقد أسهمت الجامعة في إثراء الحوار حول الدستور العراقي الجديد بل ونجحت في إعطاء إشارة حول هوية العراق على نحو يؤكد عروبته رغم أن تلك الإشارة لا ترقى إلى مستوى الطموحات العربية ولكنها تبقى في النهاية تجسيداً لشخصية العراق باعتباره أحد الدول التي تأسست بها جامعة الدول العربية، وهذه الإشارة في حد ذاتها لا تتعارض مع القوميات الأخرى بل على العكس تعد ضماناً لها ولا تتنافس معها ولا تصطدم بها. - ثالثاً: نجحت مهمة الأمين العام في التخفيف من أزمة الثقة التى كانت تسيطر على الروح العراقية تجاه الأشقاء العرب كما أن زيارته لكل القيادات العراقية بل والقاءه كلمة أمام البرلمان الكردي كانت بمثابة رسالة ودية للوفاق والتعايش بين القوميتين العربية والكردية، كما كانت دعوته إلى المصالحة بمثابة صيحة عربية يمكن أن يلتف حولها الجميع. - رابعاً: إن تحرك الجامعة العربية أصبح مؤشراً أمام الولاياتالمتحدة والغرب عموماً يؤكد أن العرب لا يقفون مكتوفي الأيدي وأنهم لا يفرطون فى العراق ذلك البلد العربي الكبير بتاريخه وإمكاناته كما أن اقتحام الجامعة العربية لساحة الصراع فى العراق هيأ الأذهان لإمكانية المصالحة العراقية وإيقاف العنف الذى تجاوز كل الحدود. - خامساً: أثبتت جهود الجامعة العربية قبل زيارة الأمين العام وأثناءها وبعدها أن التعددية العرقية ليست نقيض العروبة وأن التعايش بين القوميات أمر لا يستعصي على وحدة العراق وتماسكه الوطني في ظل ظروف دولية وإقليمية توحي كلها بغياب العمل العربي المشترك واختفاء الجهود الرامية إلى الانتقال بالمنطقة من وضع متدهور إلى وضع أفضل تخرج فيه من دائرة العنف ودوامة الصراعات القومية والدينية والمذهبية. - سادساً: إن دور الجامعة العربية في العراق يفتح باباً للحوار الإقليمي يتجاوز الحدود القومية ليصل إلى شركاء الجغرافيا في إيران وربما تركيا أيضاً ذلك أنها تلعب دوراً لا تبدو سيطرتها عليه كاملة بحكم الانقسام القومي في العراق، إنه دور يذكرنا بجهود مماثلة للجامعة فى المسألة السودانية وإن لم يكتب لتلك الجهود النجاح المطلوب. - سابعاً: إن الخطوة التي اتخذتها الجامعة تجاه المسألة العراقية تمثل اقتراباً مباشراً من مسألة أمن الخليج وتجعل للجامعة وضعاً متميزاً أمام دول كادت علاقتها بتلك المؤسسة القومية أن تتحول إلى ضوء شاحب بعدما تمكن مجلس التعاون الخليجي من أن يخلق إطاراً إقليمياً يقلل من فاعلية الدور القومي للجامعة في منطقة الخليج. - ثامناً: نحن نظن أن تنشيط دور الجامعة في القضية العراقية أمر من شأنه أن يفتح باباً للأمل أمام القوى والفصائل العراقية المتناحرة، وكان ملفتاً للنظر أن أعمال العنف الضخمة توقفت أو انخفضت نسبياً فى الأيام التي تواجد فيها الأمين العام على الأرض العراقية رغم أن بعثة الجامعة التي سبقته تعرضت لهجوم كاد يودي بحياة بعض أعضاء وفدها ولا شك أن إصرار الأمين العام على تحقيق الزيارة في تلك الظروف هو أمر يحسب له بكل المقاييس. - تاسعاً: إن الجسور التي أقامتها الجامعة العربية مع الشيعة العرب والسنة الأكراد هي خطوة ناجحة على الطريق الصحيح لأن انقطاع حبال الاتصال مع القوى الفاعلة في أي أزمة هو خطأ سياسي كبير لذلك فإن الجامعة العربية قامت بعملية اختراق مطلوبة رغم كل المحاذير والمعوقات. عاشراً: يجب أن أعترف هنا أن مهمة الجامعة وزيارة أمينها العام لم تنجح بالكامل فهناك على الجانب العراقي تراجعات من بعض القوى وشكوك من قوى أخرى وتحفظات من قوى ثالثة ولا نستطيع أن نتصور أن حل المعضلة العراقية يمكن أن يتحقق خلال أسابيع أو حتى شهور، فالجروح غائرة والظروف متقلبة والصراعات لا تتوقف. ... هذه عجالة ضمناها ملاحظاتنا على الأداء القومي للجامعة العربية فى ظل أمينها العام السيد"عمرو موسى"والنشاط المتصاعد لجهاز أمانتها فى الشهور الأخيرة، وهو أمر يوحي بالثقة ويدعو إلى الارتياح ويكسب الجامعة مصداقية تحتاجها فضلاً عن تأثيره المباشر على الشعب العراقي الذي يشعر أنه يبدو معزولاً عن أمته العربية وأن احتمالات تقسيمه واردة في ظل النغمة المتصاعدة من بعض القوى الشريكة في العملية السياسية العراقية، ولا شك أن دور الجامعة العربية في العراق يمثل نقلة نوعية بالنسبة لها فلم تعد مجرد جهاز يتلقى الأخبار ثم يصدر البيانات التي تدين وتشجب ولكن أصبحت أداة قومية فعالة في إطار متوازن ومع قبول عام بين شعوب المنطقة ومجتمعاتها العربية، وأحسب أن الوظيفة الحقيقية للجامعة العربية إنما تتمثل في مثل هذه المبادرات التي تعتبر ذات طابع إيجابي يختلف عن معظم ردود الفعل السلبية التي عرفها العرب من مؤسساتهم الرسمية على امتداد العقود الأخيرة، ولعلي أتقدم هنا بالطرح التالى الذي يقوم على أفكار ثلاث: الأولى: إنني ممن يظنون أن إسرائيل هي المخطط الرئيس للسياسات الأميركية فى المنطقة بما في ذلك التحريض على غزو العراق منذ البداية واختلاق قصة أسلحة الدمار الشامل لذلك يكون من الطبيعي أن تتحمل جامعة الدول العربية مسئولية أساسية في التعامل مع المسألة العراقية باعتبارها أمراً قومياً لا يقل في خطورته عن القضية الفلسطينية ذاتها. الثانية: إن المخاوف الكردية من عروبة العراق تصبح شيئاً لا معنى له في ظل انفتاح الجامعة على تلك القومية الشقيقة واضعين في الاعتبار التراث الإنساني المشترك بين العرب والأكراد عبر مراحل التاريخ المختلفة حتى أن القائد الأعظم في تاريخ العرب هو كردي الأصل وأعني به"الناصر صلاح الدين"محرر القدس من يد الصليبيين. الثالثة: إن جهود الجامعة العربية تأتي في وقت تردد فيه الحديث عن احتمالات عقد قمة عربية طارئة وهي فكرة ماتت في مهدها وأصبحنا في انتظار عقد القمة السنوية العادية كما حددها التعديل الذي جرى على ميثاق الجامعة عام 2000 . ... خلاصة ما نريد أن نذهب إليه هو أن نؤكد ترحيبنا بمبادرة الأمين العام للجامعة العربية ونعتبرها تحولاً في السياق التقليدي لدور الجامعة، كذلك فإننا نعترف بأن رصيد الجامعة في حل المشكلات يبدو محدوداً للغاية من هنا فإن اتجاهها لتسوية المسألة العراقية ووضع حد للتداخلات والتحرشات التى أساءت إلى الجامعة وهي رمز لكل العرب، لذلك فإننا نخاطب العقل العربي فى صحوته التى بدأت تنعكس آثارها على خطوات الإصلاح السياسي وتحقيق الأهداف المرتبطة بالأمن القومي والمصلحة العليا للوطن وهو ما سعت زيارة الأمين العام لتأكيده والدفاع عنه، وأخيراً فإنني أقول إن الجهود التي بذلتها جامعة الدول العربية ستسهم في تحسين صورة الجامعة وتضاف إلى إيجابياتها العديدة التي ارتبطت بها عبر السنين كما أنها ستكون شاهداً على عروبة العراق وتأكيداً لها ودفاعاً عنها وحفاظاً عليها. كاتب مصري.