قُطعت حركة السير في شوارع مدينة قابس الجنوبية التونسية أثناء زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي سيلفان شالوم مع والدته للبيت الذي وُلد فيه. وذكر مراسلون اسرائيليون رافقوا الوزير أن قوات الأمن أخلت الشوارع المحيطة بالبيت، فيما أظهر تحقيق بثته قناة"الحرة"أن بعض السكان كانوا يتظاهرون في ناحية أخرى من المدينة ضد الزيارة. لم تكن المعارضة القوية التي لاقتها الزيارة لمناسبة رئاسة شالوم الوفد الإسرائيلي إلى المرحلة الثانية من القمة العالمية لمجتمع المعلومات التي استضافتها تونس منتصف الشهر الماضي ظاهرة، اذ ان كل زيارات المسؤولين الاسرائيليين للبلدان المغاربية، منذ زيارة شيمون بيريز العلنية الأولى للمغرب عام 1985 إلى زيارة شالوم لتونس، اتسمت بصدامات وإضرابات واحتجاجات لم تقتصر على النخب وإنما شملت النقابات العمالية والحركات الطلابية. كان لافتا أن شالوم ركز اللقاءات التي عقدها مع نظرائه العرب على هامش الإجتماعات السنوية الأخيرة للجمعية العامة للأمم المتحدة على وزراء خارجية تونس والمغرب وموريتانيا، وهو كرر الدعوة علنا للعواصم المغاربية لتطوير العلاقات مع الدولة العبرية، ما أوحى بأن الإسرائيليين يعتقدون بأن التطبيع مع البلدان المغاربية ثمرة أينعت بعد أربعة عقود من العمل السري والعلني وحان قطافها. وكان شالوم أعلن في تشرين الأول أكتوبر أنه سيزور المغرب قريبا ورجح مراقبون أن ينتقل من تونس إلى الرباط الشهر الماضي لكنه لم يفعل. مع ذلك تؤكد معلومات متقاطعة أن مسار التطبيع يتقدم على أكثر من واجهة. فعلى رغم التجميد الرسمي للمكتبين التمثيليين المغربي والتونسي في اسرائيل اثر القمة العربية في القاهرة عام 2000، واغلاق المكتبين الإسرائيليين في كل من الرباطوتونس، تكثفت العلاقات التجارية والسياحية والثقافية والأمنية المغاربية - الإسرائيلية في شكل غير مسبوق في السنوات الأخيرة، حتى أن مصدراً رفض الكشف عن هويته اعتبر أن العلاقات لا ينقصها سوى رفع العلم فوق المكاتب التمثيلية التي عادت لتعمل بوتيرة أعلى مما كانت عليه في العقد الماضي، أسوة بنشاط السفارة الإسرائيلية في موريتانيا. فمع تونس تكثفت المبادلات التجارية وتطور تبادل الزيارات بين رجال الأعمال وتوسع التعاون الأمني، وبخاصة لتبادل الخبرات في مجال مكافحة الإرهاب. غير أن مقياس توسع العلاقات التونسية - الإسرائيلية هو من دون شك طقس"الزيارة"السنوية لكنيس"الغريبة"في جزيرة جربة الذي يعتبر أقدم معلم يهودي خارج فلسطين. وتستمر طقوس"الزيارة"التي تتم في"الحارة الكبيرة"يومين تقام خلالهما شعائر دينية وولائم وحفلات ويحضرها عادة رجال دين ونواب وسياسيون ووفود إعلامية إسرائيلية وترعاها وزارة السياحة التونسية. وعبر مسؤولون إسرائيليون كُثر عن رغبة حكومتهمفي معاودة تنشيط العلاقات السياسية مع تونس، ولعب"اللوبي"التونسي القوي في وزارة الخارجية الإسرائيلية دورا بارزا في تسريع خطى التطبيع، وفي مقدمه شالوم والسفير الإسرائيلي في باريس نسيم زفيلي الذي زار تونس أواخر التسعينات عندما كان أمينا عاما لحزب العمل، والسفير الإسرائيلي الحالي في القاهرة شالوم كوهين المولود في مدينة نابل والذي عمل رئيسا للمكتب الإسرائيلي في تونس منذ فتحه إلى إقفاله الموقت. ويمكن القول إن الخشية من رد فعل الرأي العام الذي يعارض بشدة أي تطبيع مع اسرائيل يشكل أهم عقبة أمام تطوير علاقات كاملة على الطريقة الموريتانية، خصوصا منذ أن وجدت تونس نفسها في خط المواجهة بعد انتقال مقرات القيادة الفلسطينية إليها اعتبارا من سنة 1982، ولم يتوان الإسرائيليون عن شن غارة على تلك المقرات في ضاحية حمام الشط مطلع تشرين الأول أكتوبر 1985 أسفرت عن استشهاد عشرات التونسيينوالفلسطينيين. وعندما وجهت الحكومة التونسية دعوة رسمية لشارون لحضور افتتاح قمة المعلومات أثارت الخطوة ردود فعل قوية في أوساط مختلفة وبخاصة النقابات العمالية والمحامين وأحزاب المعارضة. والأرجح أن واشنطن نصحت شارون بعدم تلبية الدعوة مخافة أن تؤدي الى تسميم الوضع الداخلي. كذلك تلعب الطائفة اليهودية في تونس وفي مقدمها رئيسها رجل الأعمال روجي بيسموث الذي عُين أخيرا عضوا في مجلس المستشارين دورا مهما في دفع مسار التطبيع واستئناف التبادل الديبلوماسي، لكن لوحظ أن شالوم أعلن أن التونسيين اعتذروا عن عدم معاودة العلاقات الديبلوماسية في الأمد المنظور بسبب المعارضة الشديدة التي تلقاها خطوات التطبيع لدى الرأي العام. البداية من المغرب أما المغرب الذي أقام علاقات تعاون وثيقة مع الدولة العبرية مثل التونسيين منذ مطلع الستينات، فكرس التطبيع الديبلوماسي اثر توقيع اتفاقات أوسلو. إذ وقع وزيرا الخارجية عام 1994 على اتفاق لإقامة علاقات ديبلوماسية وافتتاح مكتبين تمثيليين في الرباط وتل أبيب. وفتح الإتفاق الطريق للقاءات علنية ودورية بين المسؤولين وإقامة تبادل سياحي وتجاري ما انفك يتكثف في السنوات الأخيرة. إلا أن المغرب سبق كل البلدان المغاربية إلى العلاقات العلنية مع الدولة العبرية، اذ استقبل الملك الحسن الثاني بيريز في قصر إيفران أمام عدسات المصورين عام 1985 غير مبال بموجة الإنتقادات الواسعة داخل المغرب وخارجه. وكشف أنه لعب دورا أساسيا في إقناع الرئيس المصري الراحل أنور السادات بزيارة القدسالمحتلة والتوقيع على اتفاقات كامب ديفيد عام 1979. وتعود قنوات الإتصال المباشرة بين الملك الحسن والدولة العبرية إلى ما قبل اعتلائه العرش، إذ أقنعه الإسرائيليون بكشف مؤامرة ضده بوصفه وليا للعهد في كانون الأول ديسمبر 1959، وهذا ما يفسر إقباله على تطوير التعاون معهم بعد توليه مقاليد الحكم عام 1961 وبخاصة في المجال الأمني أسوة بالعلاقات التي كانت تقيمها اسرائيل آنذاك مع شاه إيران. واعتبر محللون أن المكتب الذي فتحه جهاز"موساد"الاسرائيلي في المغرب منذ تلك الفترة شكل تمهيدا لمكتب التمثيل الديبلوماسي الذي فُتح منتصف التسعينات، علما أنه كان يدير أيضا مكتبا سريا في تونس في الفترة نفسها لتنظيم تهجير اليهود التونسيين إلى فلسطين. وتمثلت أهم حلقة للتعاون بين الجانبين في ترتيب خطف المعارض المغربي البارز مهدي بن بركة من باريس في 29 تشرين الأول 1965. ولم يكن هذا التعاون سريا إذ أماطت صحيفة"بول"الإسرائيلية اللثام عن تورط"موساد"في اغتيال بن بركة في 11 كانون الأول 1966 مع أنها متخصصة في الصور الخليعة، لكنها تحفظت عن إعطاء التفاصيل متعللة بأن"هناك تحقيقا جاريا في الموضوع يمكن أن يؤدي إلى إسقاط حكومة ليفي أشكول". واللافت أن 30 ألف نسخة من العدد جُمعت من الأسواق وأحيل كاتبا المقال على المحكمة بتهمة إفشاء أسرار الدولة فقضت بسجنهما سنة واحدة، مما برهن على شدة ضيق الإسرائيليين من إفشاء سرَ بذلك الحجم. وفي المغرب كما في تونس لعب رموز الطائفة اليهودية دور الجسر بين الحكومتين بواسطة الصداقات المتينة التي حافظوا عليها في اسرائيل. وفي هذا السياق تبنى الملك الحسن ومن بعده الملك محمد السادس الأمين العام لمجلس الجماعات اليهودية في المغرب سيرج بيرديغو الذي تولى منصب وزير السياحة 1993-1995 وأندري أزولاي الذي كان مستشارا خاصا للملك الحسن والذي يحتفظ بعلاقات حميمة مع كبار الزعماء الإسرائيليين. موريتانيا ويبدو أن العلاقات الموريتانية - الإسرائيلية تُعتبر لدى الجانب الإسرائيلي نموذجا للمستوى الذي ينبغي أن يصل إليه التطبيع مع العواصم المغاربية الأخرى. فعلى رغم خلع الرئيس معاوية ولد طايع، مهندس التقارب مع الدولة العبرية والذي قلب تحالفات موريتانيا بنسبة 180 درجة منتصف التسعينات بتخليه عن عراق صدام وإقباله على إقامة علاقات ديبلوماسية كاملة مع اسرائيل، تحاشى خليفته العقيد علي ولد محمد فال فصم العلاقات على رغم المطالبة المتصاعدة بالتخلص من تركة ولد الطايع وإقفال السفارة الإسرائيلية في نواكشوط التي تحتل موقعا بارزا غير بعيد عن القصر الرئاسي. بل إن وزير الخارجية الجديد أحمد ولد سيدي أحمد سارع إلى الإجتماع مع نظيره الإسرائيلي شالوم بعد أسابيع قليلة من الإنقلاب على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك. ووجه الوزير رسالة واضحة للعرب وللقوى السياسية الداخلية الضاغطة لقطع العلاقات مع الدولة العبرية عندما أكد أن"السياسة الخارجية لموريتانيا لم يتغير فيها شيء وبقيت كما هي"مشددا على أن"العلاقة مع اسرائيل ستستمر". واعتُبر هذا الموقف تحديا للعرب ولتيار واسع من الرأي العام الداخلي المناهض للتطبيع مع اسرائيل، وهو ما يعني أن الحكومتين ستمضيان في تنفيذ الإتفاقات التي توصلا إليها خلال زيارة شالوم إلى موريتانيا في وقت سابق من العام الجاري، وكأن شيئا لم يتغير في نواكشوط. ولم تخف الجزائر جارة موريتانيا القوية انزعاجها من العلاقة الخاصة مع اسرائيل، وانتقد الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة علنا أبعاد تلك العلاقة ما أدى إلى برود في العلاقات الثنائية. ويتوجس الجزائريون بخاصة من العلاقات المغربية - الإسرائيلية التي يخشون من أن تكون موجهة ضدهم خصوصا على أيام الحرب الباردة. إلا أن الصراع الدموي بين الجيش والجماعات المسلحة طيلة التسعينات سهَل فتح باب التقارب في إطار التعاون الأمني وتبادل الخبرات، وهي علاقات مازالت مُحاطة بالكتمان. وكان لافتا أن بوتفليقة لم يستنكف من مصافحة رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك في خطوة اعتبرت لدى المراقبين ترطيبا للأجواء فيما أثارت لدى أحزاب وشخصيات جزائرية موجة واسعة من الإنتقادات والشجب. ولعل هذه المعارضة الشديدة هي التي أحبطت بعض الإشارات"التطبيعية"ومن أبرزها إجراء مباراة لكرة القدم بين فريقين جزائري واسرائيلي وزيارة وفد إعلامي جزائري لاسرائيل أسالت حبرا كثيرا في الجدل بين مؤيديها ومعارضيها. لكن الثابت لدى المحللين أن الأوضاع الجزائرية لا تتحمل تطبيعا مع الدولة العبرية على الطريقة الموريتانية ولا حتى التونسية، أقله في المرحلة الراهنة، على رغم وجود عناصر في الدولة لا تخفي حماستها لهذا الخيار. ليبيا وفي ليبيا يرتدي التطبيع شكلا مختلفا عن البلدان المغاربية الأخرى، فهو وإن كان وقودا للتقارب مع واشنطن إلا أن العقيد معمر القذافي يتعاطى معه بحذر شديد مخافة أن يقضي على شعبيته في أوساط عوَدها على الخطابات القومية الملتهبة. ويلعب رئيس المنظمة العالمية لليهود الليبيين رامي كحلون دورا مهما في إنضاج التطبيع. وكشفت صحيفة"جيروزاليم بوست"في 3 آذار مارس الماضي أنه حاول الحصول على دعوة من السلطات الليبية لزيارة ليبيا بدعوى الإطلاع على بيت أهله ومناقشة مسألة"تعويض اليهود عن ممتلكاتهم". لكن السلطات فضلت إرجاء الزيارة ربما خوفا من ردود الفعل في الداخل، خصوصا أن ليبيا تطالب اسرائيل منذ سنوات بدفع تعويضات لأسر ضحايا الطائرة المدنية التابعة للخطوط الليبية التي أسقطها سلاح الجو الإسرائيلي فوق صحراء سيناء عام 1973. وفاتح مسؤولون أميركيون نظراءهم الليبيين في شأن ضرورة التطبيع مع الدولة العبرية، وبناء على تلك"النصائح"تردد ان مسؤولا ليبيا زار اسرائيل سرا لإجراء مفاوضات حول التعويضات لليهود. وكانت"جيروزاليم بوست"أكدت أن الزيارة تهدف"للإعداد لأمر ديبلوماسي ما". وطبقا للرواية الإسرائيلية فإن 30 ألف يهودي غادروا ليبيا منذ استقلال البلد عام 1952 وتركوا وراءهم"عقارات وممتلكات"، ما يدل على ضخامة المطالب المالية الإسرائيلية. قُصارى القول أن ليبيا ستبقى على ما يبدو"الحلقة الأضعف"في التطبيع المغاربي - الإسرائيلي نظراً الى انهماك الليبيين في ورشة الإصلاحات الداخلية التي تحض عليها واشنطن للقبول بعودة الحكم الليبي إلى المجتمع الدولي. لكن الثابت أن المعارضة القوية التي يلقاها التقارب مع الدولة العبرية لدى المجتمعات المغاربية ما زال يشكل العقبة الرئيسة أمام معاودة انطلاق قطار التطبيع الديبلوماسي والسياسي.