بعد رحيل آخر المستوطنين عن قطاع غزة، ثمة جملة من القضايا الملحة التي تطرح نفسها على أجندة الشعب الفلسطيني وقواه السياسية، وسنتوقف في هذه السطور عند أهمها في هذه المرحلة، وهي قضية المعابر التي تربط قطاع غزة بالعالم الخارجي، إلى جانب العلاقات الفلسطينية الداخلية في قطاع غزة وتأثيرها على نمط الإدارة في القطاع، والأهم على آليات مواجهة مخطط شارون لتكريس الاستيطان في الضفة الغربية والغور والقدس. بات واضحاً خلال الأسابيع الأخيرة أن مسألة المعابر بين قطاع غزة ومصر ما زالت تراوح مكانها وأن الإصرار الإسرائيلي على الاحتفاظ بشكل من أشكال السيطرة عليها لم يتراجع، على رغم بعض الإشارات الإيجابية السابقة على هذا الصعيد. واللافت أن هواجس الدبلوماسية المصرية وتبعاً لها ضعف الأداء السياسي الفلسطيني ما زالت تلقي بظلالها على مسألة المعابر، ولولاها لغدت هدفاً وحيداً بالنسبة للمقاومة، ولما كان بوسع الإسرائيليين الإبقاء على سيطرتهم عليها. وفي حين لم تحسم هذه المسألة إلى الآن، فإن قبول القاهرة- المنشغلة بتوفير أفضل الأجواء للتمديد للرئيس مبارك- بالاتفاق الأمني مع الدولة العبرية فيما يتعلق بالحدود مع القطاع يشكل إيذانا ببقاء السيطرة الإسرائيلية إلى أمد يصعب التكهن به، بصرف النظر عن ماهية تلك السيطرة في ظل توفر بدائل كثيرة منظورة وغير منظورة لا تغير من حقيقة أن القطاع لن يتمتع بسيادة كاملة على حدوده البرية، فضلاً عن حرية الملاحة البحرية والجوية. من هنا تبدو قضية تحرير الممر البري بين القطاع ومصر قضية أساسية ومحورية يجب أن تتوافق السلطة وقوى المقاومة بدعم من مصر على العمل على إنجازها، وإلا فإن حرية الفلسطينيين ستبقى منقوصة، حتى لو غدت أفضل من السابق. يضاف إلى ذلك بالطبع ما يتعلق بالممر الآمن بين القطاع والضفة الغربية الذي يبدو أساسياً في هذه المرحلة كي لا يجري تكريس الفصل بين القطاع والضفة الغربية. واللافت أن واشنطن لا تبدو مشغولة بهذا الملف"الهامشي"، في حين تصر على التعامل مع القطاع كما لو كان دولة، وقد قال بوش في أحد تصريحاته إن"ما يجب أن يحدث الآن هو إقامة حكومة تؤدي عملها في غزة"، الأمر الذي يشير إلى أن الملفات التالية، ومنها مسألة السيادة لا يجب أن تحظى بالأولوية، بدعوى أن النجاح في غزة هو الذي سيفتح الأفق أمام الفلسطينيين لكي يتقدموا على صعيد الحقوق الأخرى، وهو امتحان قد يطول كثيراً بحسب ما تشير تجربة التفاوض السابقة مع الإسرائيليين. القضية الأخرى الأكثر إلحاحاً، والتي ستترتب عليها ملفات فرعية مهمة، هي قضية العلاقات الفلسطينية الداخلية، وتحديداً بين حركة فتح أو حزب السلطة، وبين حركة حماس، فعلى إيقاع هذه العلاقة سيتحدد ما إذا كان بوسع الفلسطينيين تطوير إنجازهم في قطاع غزة، أم أنهم سيجعلون منه نقطة مراوحة واشتباك مفسحين المجال أمام شارون كي يحقق مخططه للحل الانتقالي بعيد المدى. لعل البعد الأكثر أهمية في سياق تحديد العلاقات الفلسطينية الداخلية هو ذلك المتعلق بالمفاوضات ومسيرتها في ظل خريطة الطريق، ذلك أن البند الأول في الخريطة هو"تفكيك البنية التحتية للإرهاب"، وهو بند سيكون محور التركيز بالنسبة لواشنطن وتل أبيب طوال المرحلة المقبلة، ولن يقبلوا على صعيده مجرد التهدئة أو وقف الأعمال المسلحة، بل سيتجاوزون ذلك صوب مصادرة الأسلحة واعتقال النشطاء، وصولاً إلى وقف التحريض واعتقال من يصرون عليه، والنتيجة هي أننا إزاء عنصر ابتزاز لن يتوقف، لاسيما في ظل حاجة شارون إلى عدم اتخاذ أية خطوة سياسية جديدة قبل انتخابات العام القادم، إلى جانب حاجة الأميركيين إلى استمرار التهدئة من أجل استمرار التركيز على الملف العراقي. الأسوأ من ذلك هو أن شارون لن يجامل الفلسطينيين على صعيد الشروع في تكريس الاستيطان في الضفة والقدس، وسيستغل الانشغال الفلسطيني بدولة غزة ليباشر نشاطاته الاستيطانية في الضفة والقدس والغور، وهو ما بدأ به عملياً من خلال مشروع ربط مستوطنة معاليه أدوميم بالقدس، وتعزيز الاستيطان في غور الأردن. ها هنا تبرز الحاجة إلى توافق فلسطيني فلسطيني، ذلك أن تحقيق السيادة للقطاع ستبقى قضية ملحة، وهذه لن تتحقق من دون علاقات داخلية إيجابية، الأمر الذي ينطبق على مواجهة نشاطات شارون الاستيطانية وانتهاكاته المتواصلة في الضفة والقدس، مع الحاجة هنا إلى توافق على آليات المواجهة، حتى لو كانت آليات سلمية في هذه المرحلة، ويبقى جانب آخر لمسألة التوافق يتعلق بإدارة الشأن الغزاوي الداخلي، ذلك أن استئثار حركة فتح، بل ربما جزء محدود منها بإدارة الملف من الألف إلى الياء لا يبدو مريحاً بحال من الأحوال، والشارع الفلسطيني لن يصدق أن الذين سرقوا أراضي الدولة أو الأراضي الأميرية وأقاموا عليها الفلل الفاخرة وبرك السباحة، بحسب ما أكد رئيس سلطة الأراضي الفلسطينية قبل أيام، لن يكرروا ذات اللعبة مع الأراضي الجديدة، مع فارق أنهم سيقيمون مزارع هذه المرة، وليس مجرد فلل محدودة ربما فرضها ضيق المساحة المتاحة قبل الانسحاب!! ثمة حاجة إلى إشراك الفعاليات المشهود لها بالنزاهة في قطاع غزة، ومعها ممثلون عن الفصائل في متابعة آليات التعاطي مع الأراضي والعقود والصفقات التالية بعد الانسحاب، وهو ما لم يحدث إلى الآن على رغم الأحاديث الكثيرة حول التنسيق مع القوى الفلسطينية. أما مسألة الانتخابات مطلع العام القادم فلا تبدو حلاً لهذه المعضلة لأن معظم ترتيبات ما بعد الانسحاب ستكون قد أنجزت في ذلك الوقت، ولن تتمكن حماس حتى لو حصلت على نسبة كبيرة من الأصوات والمقاعد من التأثير فيما يجري، مع أن تجربة المعارضة البرلمانية في العالم العربي لا تشير إلى تأثير جوهري على الحكومات رغم الهجاء الكثير والاعتراضات اليومية. ولعل من المفيد القول هنا إن أداء السلطة طوال الشهور المتبقية حتى انتخابات مطلع العام القادم ستتركز في إطار توفير الأجواء وربما الأدوات اللازمة لتحقيق سيطرة حركة فتح على السلطة، وهي سيطرة لن تخرب عليها حماس ما دامت فتح هي صاحبة الأغلبية التي لن تتوفر من خلال الشعبية وحدها، بقدر ما ستوفرها الظروف والمعطيات الداخلية والخارجية. ما يمكن أن يحل هذه الإشكالات هو العودة إلى خيارات النضال والتناقض الرئيس مع الاحتلال واستمرار مشروع التحرير، وهو ما لن يحدث من دون أن ترفض السلطة وحركة فتح أية ضغوط تدفع باتجاه ضرب حركة حماس أو تحجيمها على الأرض. من الواضح أن مقتل الفلسطينيين إنما يتمثل في قبول السلطة وحركة فتح بالنظرية الأمريكية الإسرائيلية القائلة بأن دولة غزة هي محور التحرك، وحين يكون الموقف كذلك فإن فرض هيبة الدولة سيكون هو الأساس، وبالطبع على الطريقة العربية التقليدية، والأسوأ أن يحدث ذلك من دون أن تتحقق السيادة لتلك الدولة. أما ممارسات شارون في الضفة والغور والقدس، والتي ترمي إلى تكريس مشروع الدولة المؤقتة المنصوص عليها كخطوة ثانية في خريطة الطريق أيضاً، فلن يتم التعامل معها خارج سياق الشكوى السياسية اليومية أمام الوفود الدولية الزائرة. مع أن مد ذلك المشروع من قطاع غزة إلى الضفة قد يستغرق أعواماً من المماحكة كما كان الحال في تجربة أوسلو. إذا حصل ذلك فسنكون إزاء مرحلة تيه جديدة لا تختلف كثيراً عن مرحلة أوسلو، لاسيما وأن رموز هذه المرحلة هم أنفسهم رموز المرحلة السابقة، وإن بغياب ياسر عرفات، فمن يرى أن تناقضه الرئيس هو مع شقيقه الفلسطيني على رغم وقوف المحتل بالباب، لا يمكن أن يكون مؤهلاً لتحقيق السيادة والاستقلال على كامل الأراضي المحتلة عام 67 بما فيها القدس. صحيح أن للرئيس الفلسطيني محمود عباس مواقف أكثر قرباً من روحية التوافق، لكن الأقوياء الآخرين، وهم معروفون، لا يبدون كذلك، وهنا يمكن التعويل على أطراف عاقلة في حركة فتح يمكنها الدفع باتجاه تعزيز مسار الوحدة الداخلية الفلسطينية، وذلك بوضع مسألة غزة في حجمها الطبيعي بعيداً عن حكاية الدولة التي ينبغي أن تفرض هيبتها على أبناء شعبها بدل فرضها على العدو، فضلاً عن مواجهة عبثه بمصير ما تبقى من ملفات الصراع. كاتب من الأردن.