بدأ رئيس الوزراء الإسرائيلي ارييل شارون ينفذ"خطته"للانفصال عن الفلسطينيين وسحب الجيش واخلاء قطاع غزة من المستوطنين بغض النظر عن الظروف. وحشد للمهمة كل طاقات الدولة التعبوية الأمنية والسياسية ووظّف لها علاقاته الدولية وصداقاته الشخصية. ونال دعماً أميركياً منقطع النظير. وتشير المعلومات الى أن الجيش الإسرائيلي ابتداء اجلاء المستوطنين من ثلاث مستوطنات شبه معزولة نتساريم وموراج وكفار داروم فيما تبقى منشآتها المدنية تحت سيطرته بانتظار القيادة السياسية. ويرتبط هذا التصميم، بتقدير شارون للمصالح العليا لإسرائيل أمنياً وسياسياً وديموغرافياً، ولا علاقة له بموجبات السلام مع الفلسطينيين ومتطلبات تطبيق"خريطة الطريق"الدولية. وشارون لا يخفي أن أحد أهداف"التنازلات المؤلمة"، وهو شطب"الخريطة"وشطب عملية السلام وإلغاء انجازاتها، والالتفاف على الاجماع الدولي حول حق الفلسطينيين في دولة تشمل الضفة الغربية. وأبرز الحجج التي يقدمها شارون لقواعد"ليكود"وجمهور اليمين المتطرف في الجدل الداخلي المستعر حول"الخطة"هي المحافظة على يهودية الدولة، وتعزيز الروابط الإسرائيلية - الأميركية. وهو مقتنع بأن قطاع غزة بمساحته الصغيرة وموارده القليلة وكثافته السكانية عبء استراتيجي على دولة إسرائيل. ويعتقد أنها لن تكون قادرة، مع مرور الزمن، على تحمل تكاليف استمرار وجودها فيه مادياً وأمنياً وسياسياً. ويعد شارون أنصاره ومؤيديه بأن تكون غزة آخر تنازل يقدمه للفلسطينيين، وبأن يعوضه بالتوسع في الاستيطان في الضفة الغربية وترسيخه في القدس. وفي سياق تصميمه على تنفيذ مشروعه، حسم شارون بسرعة النزاع مع لوبي المستوطنين الذين تنتمي غالبيتهم الى حزب"ليكود". وهدد الوزراء بالطرد من الحكومة في حال الامتناع عن دعم"الخطة". ولتحقيق هدفه اعتمد شارون مع المستوطنين، المتشبثين بالبقاء في القطاع ويستغلون أخصب الأراضي وأجمل المواقع، استراتيجية العصا والجزرة، أمر الجيش بتنفيذ"الخطة"بالقوة ومهما كان الثمن، ودعا الى انزال أشد العقوبات بالعسكريين الذين يعصون الأوامر ويرفضون المشاركة بعملية الاجلاء، وأقر بالاعتماد على"الكرم"الأميركي، أكثر الموازنات سخاء لتعويض المستوطنين وإعادة توطينهم في أماكن أخرى. ولم يتوقف عند التحذيرات من احتمال وقوع"نزاع أهلي واسع"داخل إسرائيل بسبب"الخطة". وظل يتعامل مع المشكلة على أنها خلاف يتعلق بالمصالح العليا للدولة وليست خلافاً تكتيكياً يقبل المناورة والاجتهاد. في موازاة ذلك، يواصل شارون حملته على السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية بحجة التقصير في مكافحة"الإرهاب"والتردد في تجريد مسلحي"حماس"والفصائل الأخرى من أسلحتهم. وفي الوقت الذي يهدد بتوجيه ضربة قاسية مدمرة لقطاع غزة في حال تعرض الجيش الإسرائيلي لنيران فلسطينية مؤثرة أثناء عملية"الانسحاب"، أوعز للمعنيين في المؤسسة الأمنية باجراء اتصالات مع المعنيين في السلطة للبحث في توظيف الإمكانات الفلسطينية في خدمة الاخلاء و"الانسحاب"وفق الرؤية الإسرائيلية. وحققت المحادثات تقدماً محدوداً ظل محصوراً في الإطار التقني، من نوع تسليم الجانب الفلسطيني خرائط المصانع والبنية التحتية التي تبيّن شبكات الكهرباء والماء والطرق والجسور. ولم تعالج المحادثات مسائل كثيرة حساسة مثل الارتباط القانوني والسياسي بين أراضي القطاع التي سيجلو عنها الاحتلال مع الضفة والقدس، وترسيم الحدود والممر الآمن بين الضفة والقطاع ومستقبل عملية السلام بعد"الانسحاب"، وأيضاً مسألة تعديل حدود عام 1949 الذي تم من جانب واحد عام 1967 في منطقة ايرتز، وضم ما يقارب 80 كيلومتراً مربعاً من الأرض الفلسطينية الى إسرائيل... الخ. وجدير بالذكر أن العلاقات التجارية مع قطاع غزة، وترتيب وضع المعابر موضع تبيان في الجيش والقيادة السياسية: منهم من يدعو الى ابقاء معبر رفح وحركة البضائع والأفراد تحت سيطرة الجيش ويرفض اشراك أي طرف ثالث. ويخشى أصحاب هذا الرأي تكريس الاستعانة بطرف ثالث كسابقة يجري اعتمادها لاحقاً في معالجة قضية المعابر من الضفة الغربية وإليها. ومنهم من يقترح تقسيم معبر رفح الى معبرين: الأول يخصص للركاب يتم تسليمه للفلسطينيين تحت اشراف طرف ثالث أوروبي ومصري، ومعبر ثانٍ خاص بالبضائع يتم استحداثه قرب بلدة كيرم شالوم داخل إسرائيل عند ملتقى الحدود الفلسطينية - الإسرائيلية - المصرية. ورغم محاولات أنصار هذا الرأي تغطية موقفهم الاستعماري بموضوع الأمن، إلا أن جوهره اقتصادي ويعبر عن تمسك أصحابه ببقاء سوق قطاع غزة حكراً على المنتجات الإسرائيلية. وفي هذا السياق يفيد التذكير بأن الضفة والقطاع هما أكبر ثاني سوق للمنتجات الإسرائيلية، يخشى كثيرون فقدان ثلثه القطاع لحساب المنتجات المصرية والعربية والأوروبية. الى ذلك، يسعى شارون الى ابقاء هذه المسائل الجوهرية ذات الأبعاد السياسية معلقة الى ما بعد الانتهاء من تنفيذ خطته، وأن تصبح مادة مفاوضات طويلة مع الفلسطينيين والوسطاء الدوليين. ويخطط لتوظيفها في الهروب من الإجابة عن أسئلة اليوم التالي ل"الانسحاب"، استخدمها في قتل الوقت حتى الانتهاء من الانتخابات الإسرائيلية العام المقبل. ويمكن القول إن شارون، قبل تنفيذ خطته، لم يهمل أي عامل من عوامل النجاح والتخلص من عبء الاستيطان واخراج جيشه من مستنقع قطاع غزة، واهتم بالعامل الاقليمي المتعلق بالدور المصري، وأبدى تساهلاً في المحادثات مع المصريين حول ضبط حدود مصر مع القطاع، ووافق على تعزيز الوجود العسكري المصري ونشر كتيبة مشاة جديدة في المنطقة، ولم يُسمع تحفظ بعض أركان القيادة العسكرية وأقطاب كثيرون في حزب"ليكود". لا شك في أن"الانسحاب"سيتم وقطاع غزة سيتحرر من الاستعمار الصهيوني قبل نهاية العام. وهذا التطور التاريخي يخلق حراكاً نوعياً في الساحتين الفلسطينية والإسرائيلية، وينقل الصراع من محطة الى أخرى جديدة أكثر تعقيداً وعنفاً. وهذه التطورات تخضع الفكر الفلسطيني لامتحان حاسم لم تواجه مثله أطياف الحركة الفلسطينية، الفشل فيه ممنوع، بل يتسبب في كارثة جديدة. والجميع القوى الوطنية والإسلامية ملزمة بإعادة النظر في علاقاتها بعضها بعضاً ووضع أسس جديدة لتنظيم علاقتها بالناس وإدارة حياتهم، وتجد نفسها للمرة الأولى، تعمل من دون مشجب الاحتلال الذي ظل يستخدم في تبرير الفشل والتقصير. الى ذلك، بديهي القول إن النجاح في المرحلة الجديدة لا يتوقف فقط على انتزاع بقية الحقوق في قطاع غزة، وإعادة بناء ما دمره الاحتلال، واجادة إدارة الشؤون الأمنية والاقتصادية، بل أيضاً في إدارة الصراع ضد الاحتلال في الضفة، وقلب السحر على الساحر"شارون"بتحويل خطة"الانسحاب"وجلاء المستوطنين عن القطاع الى خطوة ثابتة في عملية السلام. اعتقد أن التدقيق في أوضاع الجبهة الفلسطينية الداخلية يبيّن أن القوى الوطنية والإسلامية مرتبكة في مواجهة"خطة"شارون، وأوضاعها ليست على ما يرام، وعلاقاتها تبعث على القلق ولا توفر الشروط الضرورية لاستيعاب الحدث النوعي المنتظر وتوظيفه في انجاز الأهداف الوطنية في الضفة الغربية. وإذا وضعنا جانباً القضايا اليومية المرتبطة بالتطاول على السلطة وأجهزتها والتمرد على قراراتها وتعدد مراكز القوى وخلق حال من ازدواجية السلطة والفلتان الأمني والعنف ضد السكان وممتلكاتهم والفساد... الخ، فإن ترتيبات النظام السياسي، سلطة المعارضة من دون مستوى الحدث وقاصرة عن مواجهة التحديات والنهوض بمهمات المرحلة الجديدة، ولا يزال حزب السلطة فتح والقوى المؤتلفة في حال ضياع تمنع ايجاد المنهج القادر على الاستقطاب وتبديد قلق الناس واقناعهم بالقدرة على السيطرة على الوضع بعد جلاء الاحتلال. وبيّنت اجتماعات مركزية"فتح"التي عقدت في عمان الشهر الماضي وما تلاها من مواقف فتحاوية، أن الاتفاق على تجاوز الماضي وعدم فتح ملفاته الشائكة، لم يرسِ أساساً ثابتاً لعلاقة فتحاوية صحيحة، ولم تعمر"وحدة القيادة"التي حرص أعضاء مركزية"فتح"على اظهارها. وجاءت الأحداث فأكدت أنها"وحدة"شكلية، وأن نار الخلافات الداخلية ظلت كامنة تحت الرماد. ومما يؤكد ذلك إعلان فتحاويين عن الشروع في تشكيل جيش شعبي، وتصريحات للسيد فاروق القدومي"أبو اللطف"أمين سر حركة"فتح"عن تشكيل الوفد الفلسطيني للقمة العربية، التي لم تعقد... لقد منح"أبو اللطف"نفسه حق التصرف ليس فقط كزعيم ل"فتح"، بل قرر تشكيل الوفد الدولة للقمة وسمى رئيسه وأعضاءه، علماً أن القمة قمة دول وليست اجتماع زعماء حركة تحرر وطني، ومخاطبة الجامعة العربية ورؤساء الدول العربية والأجنبية مسألة تخص رئاسة السلطة ورئاسة الوزراء، وليس ل"فتح"علاقة رسمية مباشرة بها من قريب أو بعيد، ولا أدري إذا كان الفتحاويون أبناء حزب السلطة، اصحاب فكرة تشكيل جيش شعبي مهمته السيطرة على القطاع بعد الانسحاب يدركون أن موقفهم يرسم ازدواجية السلطة، ويرخص ل"حماس"والمعارضة تشكيل ميليشيتها الخاصة بموازاة قوات الأمن الفلسطينية؟ الى ذلك، لم يتوقف تضعضع الجبهة الداخلية عند هذا الحد، ولم تستطع"حماس"وقوى المعارضة الوطنية والإسلامية الاقتراب من السلطة الى حد تشكيل جبهة موحدة يفرضها تحدي"الانسحاب"من القطاع والطبيعة الجديدة للصراع في الضفة. صحيح أن قوى المعارضة التزمت بالهدنة، لكن هذا الالتزام لا يزال هشاً ولا أحد يضمن استمراره. والهدنة تعالج مسألة العلاقة مع قوة الاحتلال لفترة، لكنها لا تعالج القضايا الوطنية الملحة ولا تزيل قلق الفشل في الامتحان. لا شك في أن اتفاق السلطة والمعارضة حول جميع القضايا المختلف حولها أمر غير ممكن لأسباب كثيرة، لكن ذلك لا يعني الاستسلام والبقاء في وضع انتظار ما تقرره الأقدار خلال"الانسحاب"وبعده. وما دام الجميع متفقين على الهدنة وتجميد الصراع الداخلي وتحاشي"صوملة"الوضع، فإنني اعتقد أن الحل يكمن في الاتفاق على معالجة القضايا الملحة، وعدم التسليم بأي ترتيبات إسرائيلية يتعارض مع المصالح الوطنية العليا، ووضع ترتيبات سياسية وتنظيمية انتقالية ملزمة، تستمر حتى ظهور نتائج الانتخابات التشريعية التي لا بد من اجرائها بأسرع وقت، ويفضل قبل نهاية العام. ولا غنى عن الإقرار بوحدانية السلطة واحترام قراراتها وتسهيل عمل أجهزتها ومساعدتها في السيطرة على كل شبر يجلو عنه الاحتلال. كاتب فلسطيني.