حدث هذا في نهايةشهر نيسان ابريل من سنة 2002. كان رئيس وزراء لبنان رفيق الحريري عائداً الى لبنان، عقب زيارة رسمية قام بها للصين وماليزيا يرافقه وفد اقتصادي - صناعي .ولما دخلت طائرته الخاصة بوينغ 777 أجواء باكستان، أبرق محيياً الرئيس برويز مشرّف، كما تقضي الأعراف البروتوكولية .وأصرّ الرئيس الباكستاني على دعوته الى الغداء، مؤكداً له في البرقية الجوابية أنه سيكون شخصياً في استقباله على المطار .ولاحظ أعضاء الوفد اللبناني أن أواصر الصداقة التي تجمع بين مشرّف وضيفه كانت أقوى بكثير مما تصوروا .ثم تبيّن لهم لاحقاً أن الرئيس الباكستاني مدين للحريري بنجاته من ثلاث محاولات اغتيال بسبب الحماية التي وفرتها له السيارة المصفحة .أي السيارة التي قدمها له"أبو بهاء"كهدية سنة 2001 بعد تعرض الرئيس الباكستاني لمحاولة اغتيال بواسطة سيارة مفخخة .وهي مماثلة للسيارة التي استخدمها الحريري أثناء تنقلاته في لبنان، والتي اشتهرت بأن مرورها كان يشوش على الخليوي، ويمحو الصور عن شاشات التلفزيون .ولقد اشتركت في صنع هذه السيارة شركتان المانية وأميركية، بحيث جاءت مواصفاتها ملبية لشروط الحماية والوقاية والقدرة على تعطيل القنابل الموقوتة ضمن مساحة كلم مربع .وفي المرحلة الأولى كانت الشركة الألمانية تصنع الهيكل من صفائح معدنية سميكة لا يخترقها الرصاص أو شظايا العبوات الناسفة. وفي المرحلة الثانية تنقل الى الولاياتالمتحدة حيث يتم تجهيزها بنظام مشفّر يمكنه تعطيل المتفجرات بواسطة جهاز يبث موجات لاسلكية. يجمع الخبراء على القول إن عملية الاغتيال الأخيرة سبقتها محاولات عدة لم يكتب لها النجاح بسبب تمكن جهاز الرصد في السيارة من تعطيلها، أو بسبب الحذر الذي اتخذه الحريري فور ابلاغه من قبل مصادر دولية مطلعة، بأنه على قائمة التصفية مثله مثل رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي .لذلك طلب من النائب جنبلاط استخدام سيارته المصفحة في كثير من المناسبات، بينها مناسبة زيارته لمنزل عقيلة الدكتور سمير جعجع .واستناداً الى معلومات مصادر أمنية خارجية تحاشى الزعيم الدرزي الظهور العلني في بعض التظاهرات، وأناب عنه ممثلين من نواب حزبه .وفي رأيه أن الرسالة الدموية التي وصلته عبر محاولة اغتيال النائب مروان حمادة كانت الحافز الذي شجعه على الالتصاق بالمعارضة .كما شجعه أيضاً على مواصلة التحدي بعدما كسر حاجز الخوف وتبنى الوصف الذي أطلقته عليه الصحافة:"الشهيد الحي".وهذا ما عبّر عنه أثناء تلقيه اتصالات هاتفية من كوفي أنان وموفده تيري رود لارسن والأخضر الابراهيمي، يطلبون منه أخذ الحيطة والحذر لأن خطر الاغتيال يقترب منه .وشكر للثلاثة اهتمامهم بسلامته وذكرّهم بأن أول قائمة لمرشحي الاغتيال وزعت خلال الحرب اللبنانية بواسطة ريمون إده وذلك قبل مقتل والده كمال جنبلاط .والمعروف أن عميد الكتلة الوطنية سافر الى مصر ومنها الى باريس حيث اختار المنفى حرصاً على حياته. في ظل هذه الأجواء المشحونة بالتوتر والغضب، وصل الى بيروت فريق الخبراء الدوليين الذي شكله الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان بهدف مساعدة الدولة على التحقيق، خصوصاً أن الجهة الفاعلة أشاعت البلبلة في البلاد عن طريق شريط نقلته قناة"الجزيرة"وفيه يزعم أحمد أبو عدس أنه نفذ العملية باسم"جماعة النصر والجهاد في بلاد الشام".وعلى الفور نفى التنظيم التابع لأبي مصعب الزرقاوي هذه المزاعم، مؤكداً أن التيارات الجهادية في بلاد الشام هي براء من التهمة .وقال التنظيم في بيان بثه على الانترنت إنه يتهم ثلاثة أجهزة باغتيال الحريري: جهاز الموساد والاستخبارات السورية والاستخبارات اللبنانية .والملفت أن التصريح المرتجل الذي أدلى به وزير العدل القاضي عدنان عضوم، قد زاد في نشر البلبلة لأنه وضع"الشبهة"على 14 لبنانياً زاروا أقرباءهم بينما كانوا في طريقهم الى سدني بعد أداء فريضة الحج. ولاحظ المراقبون أن ضغوط الاتهامات التي تعرضت لها الحكومة أوقعها في الارباك وادخلها في متاهات سياسية كانت بغنى عنها لو عرفت كيف تتصرف بحكمة وروية وموضوعية. منتصف هذا الأسبوع تحرك الشارع اللبناني الغاضب بين منطقة قريطم وحرم مسجد محمد الأمين، في حين تحركت أحزاب الموالاة بين عين التينة وبكركي بحثاً عن حل سياسي يمكن أن يشكل أرضية لحوار هادئ، خصوصاً أن الرئيس نبيه بري تمنى أن تكون مطالب الجميع تحت السقف الذي حدده البطريرك صفير المتمثل بتطبيق اتفاق الطائف .وردت المعارضة على طلب الامتثال للغة الحوار بضرورة الاتفاق على تفسير قانوني لاتفاق الطائف .ذلك أن وليد جنبلاط لا يقبل بأن يكون الانسحاب العسكري السوري هو نهاية المطالب، وإنما يدعو الى تطبيق كل البنود المتعلقة بسيادة الدولة اللبنانية واستقلالها، خصوصاً المبدأ الأول ونصه:"لبنان وطن نهائي سيد حر مستقل، وطن نهائي لجميع أبنائه، واحد أرضاً وشعباً ومؤسسات، في حدوده المنصوص عنها في الدستور اللبناني والمعترف بها دولياً".وهو يرى أنه من أولى واجبات سورية التي كلفت بالوصاية على تطبيق اتفاق الطائف، أن تبادر الى الاعتراف بالدولة اللبنانية وتقيم معها علاقات ديبلوماسية أسوة بالعلاقات التي تقيمها مع كل دول الجامعة العربية .وحجته أن نظام الحزب الواحد في دولتين لم يلغ العلاقات الديبلوماسية بين بغدادودمشق .ولقد أعلن جنبلاط هذا الموقف مراراً، وقال إنه من حق اللبنانيين مطالبة سورية بأن تعاملهم مثلما تعامل مواطني سنجق اسكندرون وفلسطينيي حيفا ويافا .كما يرى أنه من حقهم الغاء معاهدة الاخوة والتعاون والتنسيق التي أدخلت مليون عامل سوري الى لبنان وهجرت مليون لبناني الى الخارج .كما قضت على الصناعة والزراعة والتجارة في لبنان من أجل انقاذ الاقتصاد السوري المحاصر .وفي تصوره أن الدولة اللبنانية ساهمت في افقار مواطنيها عندما حققت مع الذين اشتروا بعض الكميات الكاسدة من زيت عكار والكورة، متهمة الحريري بأنه يقوم بهذا العمل لأهداف انتخابية. زعماء المعارضة ممن يتهمون جهة سورية نافذة بتدبير عملية الاغتيال، يعتقدون بأن الانتخابات كانت الدافع الأساسي لافتعال عملية أحرجت قيادة النظام في دمشق، وكان جنبلاط قد حذر من مخاطر المرحلة التي تسبق الانتخابات، وقال إن اللقاء الديموقراطي سيواجه جهازاً أمنياً متسلطاً يملك مصالح اقتصادية ضخمة، ويهمه ألا يحدث التغيير باتجاه الديموقراطية .ولقد شاركه في هذا التصور الشهيد رفيق الحريري الذي أعلن في آخر زيارة له لبكركي أن تصرفات الحكومة تدفعه أكثر فأكثر للالتحاق بركب المعارضة. وحول قانون الانتخاب قال الحريري إن كتلته ليست معتمدة على حصيلة بيروت فقط، لأنها ستجعل من الالتفاف حول المعارضة تياراً يشمل كل لبنان .وفي حديث منسوب الى الحريري في باريس، قال إن سورية ستواجه خلال معركة الانتخابات حركة احتجاج شعبي غير مسبوقة يفترض أن تزعج المسؤولين مثلما أزعجت"الثورة البرتقالية"في أوكرانيا الرئيس الروسي بوتين .ومن المؤكد أن هذه الرسالة وصلت الى دمشقوبيروت، كما وصلت معلومات عن طلب آلاف الشالات من مصنع فرنسي كانت ستوزع على ناخبي كتلة الحريري في بيروت والأماكن الاخرى .ولقد ظهرت مجموعة من الشالات باللونين الأبيض والأحمر في المأتم الحاشد. زيارة السفير وليد المعلم لبيروت لم تنجح في تقريب وجهات النظر بين الحكومة والمعارضة، ذلك أنه اكتشف خلال اللقاءات أن المقاطعة ستصل الى حد الانقسام العميق، وأن قرارات مؤتمر المعارضة الثالث في فندق البريستول كانت أقصى ما يمكن أن يحصل عليه من وعود .وهي قرارات بعيدة عن المهادنة السياسية وعن كل ما تطلبه دمشق من حلفائها السابقين مثل: وليد جنبلاط ورفيق الحريري وفارس بويز ومروان حمادة، ولاحظ المعلم ايضاً ان صفوف المعارضة بدأت تتسع، وان حصيلة الانتخابات قد تقلب ميزان القوى داخل البرلمان المقبل .أي البرلمان الذي سينتخب رئيس الجمهورية في خريف 2007. ولكن مخاوف سورية تركزت على دعوة المعارضة الى تقليد فيكتور يوتشنكو الذي قطع الرباط السياسي مع موسكو .ومن هذه المقارنة استنتجت دمشق ان المعارضة اللبنانية عازمة على جمع كتلة نيابية تضمن الإتيان بغالبية معطلة قادرة على المساومة لانتخاب رئيس جمهورية غير مقيد بنفوذ الشقيقة الكبرى. وفي حال نجحت هذه الحركة فإن نشاطها لن يتوقف عند هذا الحد، بل سيخلق تياراً سياسياً في البرلمان قادراً على إلغاء شرعية الوجود السوري في لبنان .أي الشرعية التي تتلطى خلفها دمشق والتي ظهرت كعامل اساسي لتمديد ولاية اميل لحود .عندئذ يمكن تحقيق شروط القرار 1559 بإرادة لبنانية لا بإرادة دولية .واستند بيان المطارنة الموارنة الى احداث سابقة أودت بحياة مئات ممن عارضوا الهيمنة السياسية والأمنية السورية، ليقفزوا الى استنتاج مفاده"ان انقاذ الوطن من الوصاية هو الحل الوحيد لبقاء لبنان في مأمن من العودة الى ما كان فيه من انقسام واقتتال". سورية رفضت هذا السيناريو ونبهت منذ اللحظة الأولى، الى مخاطر الانزلاق الى هوة حفرتها اسرائيل واميركا .وذكرت القيادة في دمشق انها قررت ارسال وفد رفيع المستوى للمشاركة في الجنازة، إلا ان رفض عائلة الحريري اقامة مأتم رسمي، حال دون تحقيق هذه الرغبة .اضافة الى تعرض العمال السوريين في منطقتي صيدا وطرابلس للضرب والإهانة، وما استتبع ذلك من اتهامات علنية رددها الجمهور الغاضب في الجنازة .وكان من المنطقي ان تعترض دمشق على تصريح مساعد وزير الخارجية الاميركية وليم بيرنز الذي قال بعد المشاركة في الجنازة"انه على سورية القيام بانسحاب كامل وفوري من لبنان".ولقد استند عشرات المعلقين الاميركيين على هذا التصريح الايحائي ليكتبوا ان دمشق تريد خلق الانطباع بأن غياب قواتها عن الساحة اللبنانية سيخلق الفوضى والعنف.. .وان حرمان جبهة المعارضة من أهم زعمائها سيؤدي الى تشتتها وتفتيتها . واعتبر وزير الخارجية فاروق الشرع ان هناك قوى دولية كبرى وراء هذا الحادث ربما استخدمت اصابع عربية عميلة للتنفيذ. ورأت الوزيرة بثينة شعبان ان الاعلام الاسرائيلي والاميركي لعب دوراً مؤثراً في خلق أجواء التضليل والافتراء .وفي تصورها ان الحريري كان مسّوقاً ناجحاً للموقف السوري في عواصم العالم، وانه تميز عن حلفائه في المعارضة بالحرص على ابقاء العلاقات الوثيقة مع سورية، وعليه ترى ان المنطق السليم يستبعد سورية من دائرة الاتهام .وعندما حملت الحكومة الاسرائيلية سورية مسؤولية جريمة اغتيال الحريري، رد عبدالحليم خدام باتهام اسرائيل التي وصفها بأنها اغتالت الشعب الفلسطيني والمنطقة بأكملها . المعارضة اللبنانية استعارت وصف"الانتفاضة"من الفلسطينيين لكي تؤكد انها ماضية في مقاومة"الاحتلال"السوري. ورأى رئيس الحكومة عمر كرامي في هذا الوصف مؤشرات انقلاب على الحكم .ولكنه دعا الى ايجاد مخرج للمأزق الخطر عن طريق استخدام لغة الحوار والمصارحة .وعلق جنبلاط على دعوة كرامي بالقول انه مستعد لمحاورة دمشق، وليس اتباعها كما اقترح ايضاً الرئيس حسني مبارك .وهو يميل الى الاعتقاد بأن لقاء عين التينة قد عقد بنصيحة من سورية التي شعرت بأن صمت حلفائها وعزلتهم السياسية قد أضعفا موقفها الدفاعي .لذلك انتظرت انقضاء فترة الحداد لكي تقوم بحركة مضادة في محاولة لوقف الحملات السياسية والاعلامية التي تصنفها بين الدول المارقة .وترى دمشق ان التدهور الحاصل في علاقاتها مع الغرب قد يؤدي الى ما هو اسوأ في حال ركنت الى تقويم المجتمع الدولي .وهي تتلمس خطورة الخطوة التي تقوم بها رئيسة اللجنة الفرعية لشؤون الشرق الأوسط في الكونغرس الاميركي اليانا روس ليتنن، على اعتبار ان اصدار قانون"لتحرير سورية"يؤدي تلقائياً الى تصنيف سورية دولة خطرة على السلام العالمي مثل عراق صدام حسين .كذلك تسعى اليانا الى استصدار قرار من مجلس الأمن يصنف لبنان"دولة أسيرة"! في هذا المناخ الدولي المتوتر تسعى القيادة السورية الى ترميم الجسور المقطوعة مع المعارضة من خلال أداء حلفائها في جلسة البرلمان يوم الاثنين المقبل .ولقد اوصتهم بضرورة الاشادة بالدور الوطني الذي لعبه الحريري تجاه سورية، وبأهمية تصنيفه شهيداً لكل اللبنانيين، وليس لفئة تريد احتكار صداقته لأسباب انتخابية .وربما اعتمدت على خطابي الرئيس كرامي والوزير فرنجيه في اقناع وليد جنبلاط بأنهما ايضاً ذاقا مرارة الاغتيالات ولكنهما تجاوزا الأحقاد في سبيل وحدة الوطن . وتتوقع دمشق استثمار عامل الوقت لكسب ثقة الطائفة السنية التي فقدتها بفقدان الحريري، مثلما فقدت الى جانبها زعيماً درزياً لولاه لما انتصرت في معركتها ضد الموارنة .وفي ضوء هذا التطور المقلق اضاعت سورية أوراقها للعب ورقة التجاذب بين فريقين متخاصمين على الحكم ولكنهما متفقان على الاحتكام لقراراتها .ويرى المراقبون ان سورية خسرت بموت الحريري زخم الطائفة التي أعانتها دائماً على رفض الاعتراف بجمهورية لبنان الكبير .واليوم جاء دور المجتمع الدولي لينظر الى سورية نظرة الرئيس بوش الذي وصفها في بروكسيل بأنها"جار مستبد منع لبنان من الازدهار وممارسة الديموقراطية".ويتوقع اللبنانيون من سورية ان تتصرف بما يوحي عكس ما قاله عنها الرئيس الاميركي! ولقد فعلت ذلك هذا الاسبوع تحت وطأة الضغوط الخارجية كأنها تقول للمجتمع الدولي أنها ليست مسؤولة عن الفراغ السياسي الذي سينشأ عن غيابها الأمني! كاتب وصحافي لبناني.