يختلط على المشاهد وهو يتابع حلقات برنامج"شاهد على العصر"، الذي تبثه قناة"الجزيرة"، من هو الشاهد على العصر؟ ومن هو المذيع الذي يرغب في سماع هذه الشهادة كي ينقلها إلى مشاهدي القناة؟ إذا افترضنا، جدلاً، أن هذا المشاهد لا يعرف بطرس غالي الشاهد على العصر، ولا يعرف أحمد منصور مقدم البرنامج، ذلك أن المذيع الذي يدير دفة الحديث يحتفظ لنفسه"بحصة الأسد"من الكلام ليتحول الشاهد على العصر إلى مجرد مستمع لخطب منصور. ففي إحدى حلقات هذا البرنامج التي تناولت اتفاق كامب ديفيد، وشهادة غالي حولها، بدا منصور محققاً"أمنياً"أكثر منه إعلامياً، فلم يكن يدع الضيف يتحدث، ولم يتركه يكمل فكرة واحدة، بل كان طيلة فترة الحلقة يشاكس، ويجادل، ويحاجج من موقعه الفكري، وانطلاقاً من قناعاته الشخصية قد يكون أخذ الضوء الأخضر مسبقاً من إدارة القناة، ومن وضاح خنفر بالذات المتفق معه في آرائه ومواقفه. فمنصور، المتمكن من موضوعه، ينتقي شهادات، وآراء، ومقالات من هنا وهناك تدين هذا الاتفاق، وهذا حقه وواجبه أيضاً، لكن ما ليس من حقه هو أن يحشد هذه الشهادات ثم لا يترك المجال لضيفه بطرس غالي"الشاهد على العصر"كي يبدي رأيه، ويقول كلمته فيها، والسبب في هذا"القمع الإعلامي"هو أن ردود الأمين العام السابق للأمم المتحدة لا يتناسب مع قناعات منصور، وبالتالي لا يريد ربما لهذا الرأي أن يصل إلى الجمهور. وقد يقول قائل لماذا، إذاً، يستضيفه؟ وهو سؤال وجيه لكنه يقودنا إلى قضايا أخرى تتعلق باللعبة الإعلامية وسياساتها ليس هنا مجال الخوض فيها. ولئن كانت هذه الصفة احتكار مدة البرنامج لنفسه متأصلة في شخصية أحمد منصور الحائز بكالوريوس آداب من جامعة المنصورة، كما يحدث في برنامجه الآخر"بلا حدود"، فينبغي إلا يغيب عن الذهن أن هذا الاحتكار يزداد أو يقل تبعاً لطبيعة الآراء الصادرة من الضيف، فحينما يعرف منصور أن الضيف سيقول شيئاً مخالفاً ولا يتناسب مع مبادئه يقمعه، أما حين يسترسل الضيف في حديث يلقى هوى لديه فانه يترك له الفسحة الكاملة، الأمر الذي يجعل من منصور طرفاً سياسياً منحازاً لا إعلامياً محايداً. وهنا تختلط شخصية المذيع كإعلامي يجب أن يتحلى بالموضوعية مع شخصيته كإنسان له قناعات ووجهات نظر عليه الاحتفاظ بها لنفسه بعيداً من الشاشة. فالمذيع حين يحاور شخصية من وزن بطرس غالي عليه أن يصغي لا أن يلقن، أن يستغل الوقت لا أن يبدده بالمماحكة المجانية، وعليه أن يحترم رأي الضيف لا أن يسيء إلى مكانته، وتاريخه السياسي بدفعه إلى قول نصف الحقيقة ثم يتدخل مقاطعاً، بل أكثر من ذلك حين يحاول الاصطياد في الماء العكر فيسعى وفي سياق مغاير الى الغمز من قناة غالي الحائر في"محكمة"منصور لدى محاولة الأخير فتح دفاتر الذاكرة ومحاسبة الرجل على إعجابه بالشقراوات أو السمراوات. غير ان غالي الأكثر انفتاحاً وأريحية من المذيع لم يتذمر من هذه الملاحظات وقال بطلاقة الشيخ العجوز ما لم يتوقعه منصور"دي كانت فرفشة". وكان من الممكن أن تمر هذه الملاحظات بسلام واعتبارها استفسارات"بريئة"غير أن طريقة طرح منصور لذلك وضحكاته وسخريته المضمرة، لم تترك مجالاً لأي انطباع آخر سوى"سوء النية"! وإذا ما تجاوزنا هذا الخلط الفج من قبل منصور بين تهكمه على بطرس غالي بسبب إعجابه بالشقراوات وبين محاسبته على مواقفه الداعمة لاتفاق كامب ديفيد، فإن ما لا يمكن تجاوزه هو سوء التقدير والتحليل المتمثل في أن منصور صاحب الكتب العديدة ومنها"الإختراق الإسرائيلي للعالم العربي"، و"النفوذ اليهودي في الإدارة الأميركية"رد جميع المآسي، والهزائم، والمصائب التي يعانيها العالم العربي إلى اتفاق كامب ديفيد، متناسياً أن هذا الاتفاق حيّد مصر فحسب، فما الذي فعلته الدول العربية الأخرى طوال الربع قرن الماضي؟ وهو ركز على القضية الفلسطينية معتبراً أن هذه القضية وصلت إلى ما وصلت إليه بسبب الموقف الرسمي المصري وعجز مصر عن فعل أي شيء إزاءها لأنها"مكبلة"، بحسب وصفه، بهذا الاتفاق، لكن غالي كان أكثر واقعية، هنا أيضاً، حين قال باختصار شديد فكرة لن يمنحه منصور الفرصة للاستفاضة فيها"إن إسرائيل هي بمثابة ولاية أميركية"، وهذه تختصر جوهر أزمة القضية الفلسطينية، لا اتفاق كامب ديفيد. الأمر الآخر الذي غاب عن ذهن منصور وكان حاضراً في ذهن غالي هو أن الأنظمة العربية، وبعد سنوات قليلة من هذه الاتفاقية، سارت على خطى أنور السادات عراب كامب ديفيد اتفاقات أوسلو مع الفلسطينيين، اتفاق وادي عربة مع الأردن...، فإذا كانت السياسة، في وجه من وجوهها، هي نوع من البراغماتية، وإذا كانت الأمور بخواتيمها، كما يقال، فان خطوة السادات، والحال كذلك، كانت صحيحة، ولئن شكل هبوط طائرة أنور السادات في مطار"بن غوريون"في نهاية سبعينات القرن الفائت مشهداً"ثورياً"و"مؤذياً لمشاعر العرب"، و"غير مألوف"وربما"نوعاً من الخيانة"فلنذكر منصور بان آرييل شارون، وقبل أيام قليلة، كان يلتقط الصور التذكارية مع الزعماء العرب في منتجع شرم الشيخ المصري. هل يمكن لنا أن نتخيل زيارة كهذه قبل أربعة عقود؟ المذيع الشاب 43 عاماً بدا أكثر تزمتاً من الرجل الثمانيني الذي بدا منفتحاً وأكثر موضوعية، وكان حضوره محبباً غير أن منصور كان له بالمرصاد ونأمل ألا نشاهد هذا التصرف في الحلقات المقبلة، وعلى منصور أن يدرك أن"فن الإصغاء"في الإعلام أهم بكثير من"فن طرح الأسئلة"، كما أن ديبلوماسية استمالة الضيف نحو الكشف وتوضيح الحقائق بحرية أجدى للقناة ولمشاهديها من استفزازه، ومقاطعته في كل حين، لا سيما إذا كان هذا الضيف مثقفاً، وسياسياً مرموقاً من مستوى بطرس غالي.