إن لم نتحدث عن الخُبث، لا بأس أن يحتوي مراس الإعلامي على شيء من اللؤم. لا يعيبه أن يكون شكاكاً، وليس يقينياً. وأن يكون بارعاً في تثبيت التهم أو تفنيدها، عبر نتاجه ومسلكه. لكن، حين يتحاور مع خصمه في الرأي أو الفكر أو الموقف، على ذلك الإعلامي أن يتجرّد، ولو قليلاً، من المواقف المسبقة، سعياً لتقديم أكبر قدرٍ ممكن من الحقيقة للمتلقِّي، وألا يتدخَّل في إطلاق الأحكام، وأن يترك ذلك هذه المهمة للمشاهد أو القارئ. ما زال فتح دفاتر الحرب الأهلية اللبنانية أمراً مثيراً للاهتمام، وعملاً في غاية القيمة والخطورة والمشقة أيضاً. كونها قد تثير حساسيات، دينية أو مذهبية أو طائفية، ذات خلفيات السياسية، وما زال يشوب تلك الحقبة اللبس. والخوض في كشف ملابساتها ومجرياتها، أيضاً يشوبه الكثير من التدليس والتسييس والتحوير والتزوير وكَيْل التهم والتراشق بما يزعمه كل طرف أنها «الحقائق». ومهمة التقليل من هذه الالتباسات والمغالطات والاتهامات والإدانات...، في الحروب الأهلية اللبنانية عموماً، والأربع عقود الأخيرة من تاريخ لبنان خصوصاً، لا شك في أنها تستوجب شهادة شخصية من وزن الرئيس اللبناني السابق أمين الجميل. وهذا ما فعله الإعلامي المصري، أحمد منصور، في برنامجه «شاهد على العصر»، الذي تقدمه «الجزيرة» القطرية على حلقات. والحق أن منصور، أبلى بلاء حسناً في استنطاق الجميل. لكن غلبت نبرة «الطعن» في صدقية وشفافية أمين الجميل، على لغة المنصور، مسايرة توجهه الأيديولوجي الخاص بالتأكيد، وذلك لجهة توثيق وتثبيت اتهامات «التخوين» و «العمالة» على الرئيس اللبناني الراحل بشير الجميل (شقيق أمين الجميل). وعلى رغم أن أمين الجميل (مع حفظ الألقاب)، حاول مراراً تفنيد هذه الاتهامات عن شقيقه، بلغة هادئة، وتحليلية، ترتكز على المعطيات والالتهابات والانفجارات السياسية والعسكرية التي كانت تعتمل في لبنان آنئذ، إلا أن المنصور، ونظراته الى أمين الجميل، تقطرُ لؤماً، لم يكن مصدِّقاً كلامه. فالعين، تفضح أحياناً كوامن النفس. ليس هذا وحسب، بل سعى المنصور حيثاً، الى إثارة فكرة تقول إن أمين الجميل ليس سوى تتمة لمشروع بشير الجميل «الخياني»، وإن بصيغ أكثر نعومة وحداثة! ومع هذا خلال عشر حلقات متتالية من «شاهد على العصر» في ضيافة أمين الجميل، كان الأخير في غاية الهدوء، ويحاور بأعصاب جد باردة، وبطلاقة وسلاسة، بعيداً من التوتر والانجرار للاستفزازات والتهم التي تأتيه من المنصور. لم يشأ الجميل أن يسيء الى المنصور، ولو تلميحاً. حتى فاض به الكيل في الحلقة العاشرة بالقول: «أنت تشير الى السلبيات فقط، ولا تشير الى الإيجابيات»، وهذه العبارة تنطوي على اعتراف الجميل بوجود سلبيات، وشعور بالغبن والاستهداف، من خلال تجاهل المنصور الإيجابيات. فبماذا رد المنصور؟ رد: «أنا في هذا البرنامج، ملك السلبيات. أنا أمثّل الرأي الآخر!». وإذا تغاضينا عن الجزء الأول من العبارة - الجواب، على خطورتها إن كانت صحيحة، فإن الجزء الثاني، يكشف المنصور، ويتلف صدقيته في الحيادية والموضوعية. فهو يكشف بوضوح أن المنصور ليس على المسافة نفسها من الرأي والرأي الآخر! يعني، أن المنصور، وضع نفسه في صف الذين يخوِّنون بشير وأمين الجميل! ولا يوجد تفسير آخر لكلام المنصور، حين يقول: «أنا أمثّل الرأي الآخر». وعليه، إذا كانت هذه الحلقات من «شاهد على العصر» قد كشفت جوانب مهمة وخطيرة وحساسة من سيرة الحروب الأهلية في لبنان، من طريق ما أدلى به أمين الجميل، فإن الأخير، وبهدوئه وبرودة أعصابه، أكد للمُشاهد، أن مهنية وحياد أحمد المنصور، كانا على المحك. وأن مسلكه، وقع في هفوات - إن لم تكن سقطات - قاتلة. ف «شاهد على العصر» ليس قاعة محكمة، ولا أمين الجميل متهماً، ولا أحمد منصور بقاضٍ، ولا كتب المذكرات والتحليلات الموجودة بين يدي المنصور، هي أدلة قاطعة ودامغة! وإذا كان المنصور نصّب نفسه قاضياً في برنامجه، فأقلّه، أن يكون على المسافة نفسها من المُدَّعى والمُدَّعى عليه! لا أن يقول: «أنا أمثّل الرأي الآخر». يحق للمنصور أن يمثل الرأي الآخر، وأن يطرح ويناقش قناعاته. لكن، حين يكون ضيفاً في برنامج حواري آخر، في مواجهة أمين الجميل. لا أن يستضيف المنصور في برنامجه «شاهد على العصر»، ضيفاً، لا يقبل بشاهده، ويكتفي بما ورد في الكتب الموجودة لديه، ككتابي شمون شفير، وروبرت فيسك... الخ! وإذا كان الأمر، كما ذهب المنصور، أنه يمثل الرأي الآخر، فعليه أن يغير اسم برنامجه من «شاهد على العصر» الى «شاهدين على العصر». وحينئذ، سنحتاج الى مقدِّم جديد للبرنامج.