أتى الرئيس الأميركي جورج بوش إلى أوروبا من بوابة الاتحاد الأوروبي في بروكسيل. وحمل في جعبته، إلى الملفات السياسية الساخنة، ملفاً اقتصادياً ساخناً أيضاً ما زال مفتوحاً على خلاف مع الاتحاد الأوروبي والمتعلق بصادرات الزراعة الأوروبية إلى السوق الأميركية وموضوع الدعم. رئيس وزراء بلجيكا غي فورهوفشتات، الذي قدم الرئيس الأميركي خطيباً في قاعة "كونسرت نوبل"، أخرجه عن النص المعد سلفاً عندما تناول في كلمة التقديم معضلة الفقر في العالم والهواجس التي تثيرها لدى الأوروبيين. بيد أن بوش لم يخرج عن موقفه المعروف من تلك المعضلة التي يرى علاجها الشافي في التجارة الحرة "لأنها تعطي الأمل لملايين الفقراء في العالم والأسواق المفتوحة توسع الفرص والعمل للشعوب". الرئيس الأميركي، الذي استبق زيارته بتصريح حضّ فيه الدول الأوروبية على خفض الصادرات الزراعية إلى بلاده، والعادة كانت أن يطلب إلى تلك الدول فتح أسواقها أمام الصادرات الأميركية، تناول أيضاً موضوع الدعم الذي تحصل عليه الصادرات الزراعية الأوروبية، علماً أن بوش كان فشل في تمرير مشروع قانون في الكونغرس لخفض الدعم الكبير الذي تتلقاه الزراعة وصادراتها في بلاده. إن رائد شعار الأسواق المفتوحة والتجارة الحرة يعلم أن آليات تحقيق شعاره لا تستقيم بالشيء وضده، وبازدواجية المعايير في التجارة كما في السياسة، وأن سجل بلاده وسياسته هو بالذات يحفلان بتلك الازدواجية. فالشكاوى التي تلقتها منظمة التجارة العالمية للمرة الأولى ضد الإخلال بقواعد عملها وقوانين التجارة الحرة كانت ضد الولاياتالمتحدة بالذات، وليس آخر تلك الشكاوى ما يتصل بصادرات الصلب الأميركية، ونظام الحصص في صادرات النسيج الذي اضطرت الولاياتالمتحدة إلى إلغائه وكانت المقصودة به أساساً صادرات الصين ودول شرق آسيا. والآن تثير الإدارة الأميركية في وجه أوروبا الدعم الذي تقدمه الأخيرة إلى صناعة الطيران، بعد الإعلان عن نجاح تجربة جيل "إيرباص" العملاقة سعة 800 راكب التي ترى فيها الإدارة الأميركية منافسة لطائرات "بوينغ". المشكلة ليست بين الأقوى والأقوى. بل بين الأقوى والضعيف إلى حد التهالك. فالأمم المتحدة، تدعمها الدول الصناعية، حددت سنة 2015 مهلة لخفض عدد الفقراء في العالم إلى النصف. وفرض البرنامج الذي قررته عوناً من الدول الغنية بواقع 0.7 في المئة من إجمالي الناتج المحلي. وخمس دول فقط التزمت تعهداتها، من بينها بلجيكا، التي أثار رئيس وزرائها قضية الفقر في العالم. والولاياتالمتحدة ليست من بين تلك الدول. وفي مؤتمر صندوق التنمية الزراعية الدولي "إيفاد" الذي عقد اجتماعه السنوي قبل أيام من زيارة الرئيس الأميركي إلى أوروبا، لخص الرئيس الأوغندي يوري موسيفيني واقع الحال في التجارة الدولية حين أبلغ إلى المشاركين في الاجتماع بأن فقراء أفريقيا من أكبر المانحين في العالم: "نحن نحصل بالأسعار الرائجة حالياً على دولار أميركي واحد لكل كيلوغرام قطناً غير مصنع نصدّره. ومع تصنيعه ترتفع قيمته أضعافاً ثلاثة. فإذا حولناه نسيجاً ترتفع قيمته أضعافاً ستة. وإذا صنعناه ثوباً فإلى أضعاف عشرة. وهكذا نمنح 10 دولارات أميركية للمستورد في كل كيلوغرام". ماذا يعني كل ذلك لرئيس الولاياتالمتحدة؟ ببساطة: إنها التجارة الحرة. ونخاله يردد ما قاله في قاعة "كونسرت نوبل" حين أضاف: "لقد وفرنا الأمن لحرية التجارة وسنلاحق الإرهابيين أينما اختبأوا. ونتعقب من يروّج لمعتقدات الكراهية". وللسيد جورج بوش من هذه الكراهية خزين بحجم احتياط الغاز في سيبيريا. والرئيس الأميركي له قاموسه في الإرهاب المزدوج المعايير، ورئيس الوزراء الإسرائيلي آرييل شارون رجل سلام على صورة الغلاف لهذا القانون. ولا توجد مفردة اقتصادية واحدة في ذلك القاموس عن علاقة الإرهاب بالفقر والتخلف. وهذا ما يجعل بوش يستشيط غيظاً أكثر مما تغضبه دعوات العالم إلى تحديد ماهية الإرهاب وعلاقته بالاحتلال والظلم من أجل تبنّي استراتيجية عالمية لمكافحته. لقد وفر الأمن للتجارة، قال، ولم يقل ماذا ستوفر هذه التجارة على الطريقة الأميركية لبليون و300 مليون من تعداد العالم يعيشون بدولار واحد من عملة بلاد الرئيس، ونحو 955 مليوناً، من بينهم أفارقة، يعتاشون على زراعة متخلفة، مطلوب منهم بقوانين التجارة المفتوحة أن ينافسوا زراعة معدلة جينياً بوسائل التكنولوجيا الأرقى في العالم، وهي قوانين لا تقل بمفاعيلها عن الإرهاب بالمعيار الاقتصادي، إذ تتجاهل تماماً قاعدة الإنتاج المضروبة في البلدان المتخلفة، وتردّي مستوى آليات الإنتاج، وأمية الموارد البشرية وضعف الإعداد المهني، وغياب قاعدة التمويل والتسهيلات الائتمانية، وتكرس انقسام الاقتصاد العالمي بين أقلية مانحة وأكثرية متسولة. ولا يخفف من غلواء ذلك كون تلك القوانين تتيح فترات سماح للتكّيف حين تؤدي شروطه إلى اعتماد نماذج اقتصادية وإصلاحات أبعد ما تكون عن حاجات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وغالباً ما تقود إلى قلاقل اجتماعية وتوتر سياسي. لا، ليست التجارة الحرة طريقاً لجبه معضلة الفقر في العالم، بمقدار ما هي مرمح لجياد الاقتصادات الجامحة، التي فرضت مصالحها وهي ما هي عليه من قدرات إنتاجية وتكنولوجية هائلة تجاوز قوانين التجارة الحرة. فكيف للبلدان المتخلفة صحة، وعلماً، وآليات إنتاج أن تكون حصان السبق؟ نتفهم تماماً صاحب نظرية "من ليس معنا فهو ضدنا" عندما يقول إنه أمّن الحماية للتجارة الحرة. فهذا النوع من التجارة وقوانينها بحاجة إلى من يحميه، وإلى من يعممه دستوراً عالمياً بفتوحات الفاتحين كما هو حاصل. وكل ذلك من موقع "الحرص على مكافحة الفقر". واقتصاد القسمة بين مانح ومتسول سيطول زمانه على الأرجح. وهو في جوهره اقتصاد التنمية من جهة والتخلف من جهة أخرى. والمشكلة ليست بين الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي وان اختلفت المواقف بين الجانبين على المستوى الإنساني والثقافي. الرئيس الأميركي يعلم ذلك لكنه لا يأبه في كل الأحوال ما دامت القوة تشترع للعالم اليوم قوانينه في الاقتصاد والسياسة. كاتب وصحافي