خرجت علينا الصحف في الآونة الأخيرة بأنباء حالة فوران شعبي عارم في بورسعيد شملت لقاءات واجتماعات جماهيرية حافلة، ودعوات للمقاطعة واحتجاجات لدى المجلس المحلي والمحافظة، وهي الاحتجاجات التي تبناها النائب البرلماني للمدينة وحملها إلى مجلس الشعب في العاصمة، وكلها تنم عن مستوى غير مألوف من"المشاركة الشعبية"والممارسة الديموقراطية لم نعهده لا في سواحل البلاد ولا في داخلها. ولم تكن استجابة أجهزة الدولة المحلية مألوفة هي الأخرى، فلم تسوّف أوتماطل أو تدفع بقوات الأمن"للسيطرة"على الوضع، ولم تلجأ لقانون الطوارئ الجاهز دوما والخالد أبداً. لم تشكل لجانا لدراسة الأمر ولم تطلق التصريحات المتضاربة والوعود الغائمة. لم تفعل السلطات المحلية في بورسعيد أياً من هذا. وإذا كنا، نحن سكان القاهرة، لا نعرف بعد ما إذا كان المشروع الجهنمي لردم جزء من مجرى نهر النيل بهدف توسيع مجري شارع الكورنيش قد تم إلغاؤه أم أنه قابع في لجنة ما ينتظر الانقضاض بين ليلة وضحاها، فليس من شك في أن سكان بورسعيد واثقون من نجاحهم مطمئنون إلى انتصارهم. فلقد أصدر محافظ بورسعيد بالفعل قراراً بمنع عرض فيلم"السيد أبو العربي وصل"، بناء على اجتماع طارئ للمجلس المحلي للمحافظة، واستجابة للإرادة الشعبية لأهلها. لكن دعنا لا نتعجل الاحتفال، فهذه الفورة الديموقراطية غير المعهودة والتي تليق من حيث آلياتها بأعرق الديموقراطيات الغربية، قامت وقعدت بهدف استبدادي وهو: منع عرض فيلم سينمائي. لم أشاهد الفيلم المذكور ولا أنوي مشاهدته، فالدلائل كلها تؤكد أن"أبو العربي وصل"ينتمي إلي نوع شائع من الأفلام المصرية"الكوميدية"تشكل مشاهدتها نوعا من تعذيب الذات بت في عمري هذا في أشد الغني عنه. وليس لأنها ساخرة. فالسخرية، وبالذات السخرية من النفس، من علامات الحضارة، وهي فوق هذا وربما بفضله من الخصائص المميزة ل"الشخصية"المصرية والمحببة فيها. ولا ل"الشخصية"يعود عزوفي عن هذا النوع من الأفلام أيضا إلى إنها"غير جادة" أو"تجارية"ولكن وببساطة لرداءتها وقبحها وإضجارها و"ثقل دمها"، وهذا كله بمعدلات لا تحتمل، كما لو أن معدي الفيلم يتوجهون قصدا لنزعة مازوخية في المشاهدين تجد متعة في شدة الإضجار وكثافة الرداءة. ليست المسألة إذن أن المشاهد المصري أو البورسعيدي سيفقد شيئا ثمينا بمنع عرض"أبو العربي"، وهو ما لم يحدث في الحقيقة. فالفيلم وفقاً للتقارير الصحافية ما زال يعرض حتى في بعض الصالات في بورسعيد نفسها، وذلك في مفارقة مضحكة وان كانت مألوفة للغاية هذه الأيام، حيث مظهر الأشياء هو المهم وليس حقيقتها. إن ما يثير الحسرة في الفورة البورسعيدية الأخيرة هو انها تعبير مجدد عن ظاهرة عامة تتجسد بأقصى ما تتجسد في ما يسمي"الجماعة الثقافية"المصرية، ويمكن أن نطلق عليها عنوان"ديموقراطية المنع". حكوميون ومعارضون، دينيون وعلمانيون، الكل يسبّح بحمد الديمقراطية ويطالب في الوقت نفسه بتقييد حرية آخرين، حفاظاً على الدين أو على الأخلاق أو على الأمن القومي أو الوحدة الوطنية، وغيرها من المقدسات التي تزدحم بها حياتنا الفكرية والثقافية والسياسية. أقلام حمراء يمسك بها الجميع ضد الجميع، والسلطة هي الحكم. أهالي بورسعيد ثارت ثائرتهم ليس على واقعهم ولكن على تشويه"أبو العربي"لصورتهم. ولمَ لا وقد أصبحت الصور هي الميدان الرئيسي وربما الوحيد للصراعات الفكرية والاجتماعية والسياسية في بلادنا؟ تشويه"صورة"مصر في الخارج اقرأ الغرب، إقرأ أميركا هو الاتهام الأمضى من قبل الحكومة لخصومها. كلنا مهمومون بتصحيح"صورة"العرب والمسلمين في الغرب أكثر من اهتمامنا بتصحيح واقعهم. صراعاتنا السياسية الكبري، أو ما يبدو صراعات سياسية، جلها صراعات حول الصور، صور الماضي والحاضر والمستقبل. صراعات مستعرة تتواري فيها الممارسة الاجتماعية اليومية وتناقضات المصالح الملموسة حتى تكاد تختفي تماماً وراء كليات الهوية. هي صراعات لا نعود فيها أفراداً أو فئات اجتماعية أو حاشا الله اثنية أو دينية متنوعة المصالح والرؤى ولكن كتلة صماء يدور النزاع حول تعيين جوهرها المفترض، قوميا أو إسلاميا أو حداثيا أو أية توليفة من العناصر السابقة. واقع بورسعيد تعس. فمنذ عقود والحكومات المتعاقبة تتعامل مع المدينة وأهلها كحقل تجارب، ويا ليته حقل لتجارب علمية منضبطة، لكنها تجارب هاوٍ يلعب قليلاً وسرعان ما ينسى ما فعله ليعود اليه بعد حين بتجربة جديدة. عقود من التجارب اللاهية حولت أكثر أهالي بورسعيد الي تجار يقفون دوما علي شفا الخراب، وانتجت أعجوبة فريدة من نوعها هي اعجوبة المدينة المنفتحة المنغلقة. رهنت الحكومة أقتصاد بورسعيد وأرزاق أهلها بالتهرب الجمركي منها الى الداخل المصري، ثم عملت على منعه، ثم جعلته غير ذي بال. لكن المهم هو الصورة، وبورسعيد هي"المدينة الباسلة"، تلك الصورة التي اكتسبتها ابان العدوان الثلاثي، أي منذ قرابة نصف قرن من الزمان. صراع الصور صراع ايديولوجي، نصفه نفاق ونصفه الثاني خداع للذات. وهو ما يذكرنا بفيلم آخر يتعرض هذه الأيام لمطلب المنع، وهو فيلم ايناس الدغيدي"الباحثات عن الحرية". لم أشاهد هذا الفيلم أيضاً ولا أنوي مشاهدته، ولكن يبدو اننا مرة اخرى ازاء صراع على الصور. فالمحامي الذي دفع امام القضاء بإيقاف عرض الفيلم يتهمه بتشويه صورة المرأة المصرية الفاضلة، والسيدة الدغيدي في ما يبدو، تدافع عن صورة المرأة المتحررة، وظني اننا ازاء حالة من النفاق المتبادل. وكان سوء حظي أو ربما حسنه قد قادني، منذ عدد من السنوات، لمشاهدة فيلم للمخرجة نفسها، خرجت منه بقناعة انني قد شاهدت أكثر الأفلام رداءة وبشاعة في تاريخ السينما المصرية كله. لا يحضرني عنوان الفيلم، لكن من الصعب نسيان تكثيفه الشديد النقاء، البالغ القبح، لما يكمن تحت ركام الصور المتنازع عليها من نزعة فاشية مفزعة. مدرسة ثانوية مثالية لأبناء طبقة وسطى مصرية مثالية أيضا. البنات عذارى"مودرن عفيفات"والأولاد"جنتلمانات"، وهكذا حتى تقع الواقعة وتُخترق المدرسة اختراقاً ثلاثياً من ابن تاجر للمخدرات وشاب أجنبي مثلي جنسياً حامل لفيروس الأيدز، وربما كان يهودياً، وأخيراً، وعلى الاطراف، ابن البواب الملتحي، الارهابي الاسلامي الممتلئ شبقاً تجاه بنات الطبقة الوسطى الأنيقات الطاهرات. وتهتز الصورة المثالية لأبناء وبنات الطبقة الوسطي المثالية بفعل الاختراق الذي يهددها بالانهيار حتي تتدخل ناظرة المدرسة أقرأ السلطة بمعاونة البوليس بطبيعة الحال لدرء العدوان واعادة الأمور الى ما كانت عليه من مثالية. وفي الحقيقة، ليس طغيان الصور سوي دليل حاسم على الفقر المدقع للمحتوي. السياسة، وهي المجال الأبرز للمارسة الاجتماعية والمجال الأوحد لتقرير المصير في الدولة الحديثة، اختفت اختفاءاً تاماً في غياهب دواليب البيروقراطية وأوصد الباب عليها بإحكام منيع، فلم يبق لنا غير الأيديولوجيا، والحال أن الصراعات الأيديولوجية في غياب السياسية ليست سوى صراعات صور خاوية. مع الاعتذار ليوسف شاهين،"سكوت هنصور"هو العنوان المناسب تماماً لحياتنا الاجتماعية الراهنة. رئيس تحرير"الأهرام ويكلي"