Jean-Michel Ducomte. La Dژmocratie. الديموقراطية Milan, Paris. 2004. 64 pages. هذا كتاب، على إيجازه، يجيب عن كل الأسئلة الأساسية التي يمكن أن تثار حول قضية الديموقراطية: تاريخها، نظرياتها، تطبيقاتها، مكوناتها، نماذجها، مزاياها، مخاطرها، كلفتها، مصادراتها، الخ. في ما يتعلق بتاريخها، أولاً، هناك إجماع على أنها أول ما رأت النور في اليونان، ولكن في أثينا حصراً، وفي رقعة من الأرض لا تزيد مساحتها على 2500 كيلومتر مربع، ولم تعمّر لأكثر من قرن واحد، هو القرن الخامس قبل الميلاد، قبل أن تغيب في ليل الصمت الطويل لتعاود انبعاثها من رمادها بعد اثنين وعشرين قرناً من الثورة الاميركية عام 1776 والثورة الفرنسية عام 1789. لماذا مثلت أثينا هذا الاستثناء الباهر في تاريخ الديموقراطية؟ لأنه في أثينا حصراً، لا سيما في عصر بيريكليس، تجردت السلطة لأول مرة في التاريخ من طابعها الديني، وغدا مصدرها الوحيد هو الشعب: ومن هنا أصلاً اشتقاق كلمة"الديموقراطية"التي تعني حرفياً"حكم الشعب". ففي سياق المنافسة العنيفة على السلطة بين الأسر الأريستوقراطية الاثينية لتكون هي صاحبة الكلمة العليا في"مجلس الأربعمئة"المولج بتسيير شؤون المدينة، كان لا بد من الحصول على أصوات الشعب الاثيني المجتمع في الساحة العامة الآغورا. وعلى هذا النحو، ومع تكريس الآلية الانتخابية لتفادي العنف المسلح بين الأسر الأريستوقراطية، رأت النور فكرة"المواطن"الذي يتمتع، مهما يكن شرطه الاجتماعي، بصوت واحد معادل لصوت كل مواطن آخر. ولكن رغم ان هذه المساواة في المواطنة كانت قائمة في أسّ الديموقراطية الأثينية، فهذه المساواة كانت مقصورة على الذكور من مواطني أثينا دون الإناث، وعلى الأحرار دون العبيد، وعلى الأصلاء دون الأغراب. ومن هنا كانت الديموقراطية الاثينية ديموقراطية أقلية، لا ديموقراطية أكثرية، إذ كان حق الانتخاب مقصوراً على نحو من ثلاثين ألف مواطن لا تزيد نسبتهم على 15 في المئة من اجمالي سكان أثينا من النساء والعبيد والأغراب. ومع ذلك، فإن هذه الديموقراطية لم يُقيض لها البقاء. فما ان استولت الأسرة المقدونية على الحكم في القرن الرابع قبل الميلاد، وأقامت امبراطورية شاسعة امتدت الى مصر وتركيا وايران والهند، حتى أعادت خلع الطابع الثيوقراطي على السلطة. وقد سارت الامبراطورية الرومانية على نهج الامبراطورية المقدونية، فأقامت ملكية الحق الالهي، وألّهت إمبراطور روما، وكف الشعب بالتالي عن ان يكون مصدر السلطة. والواقع ان تطور المنطق الامبراطوري على امتداد الحقبة الأخيرة من العصور القديمة وكامل القرون الوسطى كان لا بد أن يتأدى الى"موت الشعب". ففي أثينا البيريكليسية كان يمكن لكامل شعب أثينا أن يجتمع في الساحة العامة ليمارس حقه - بل واجبه - في التصويت ممارسة مباشرة. أما مع اتساع رقعة الامبراطوريات، ومن بعدها الدول القومية، فإن ممارسة الديموقراطية المباشرة كانت قد غدت مستحيلة. ومن ثم كان لا بد، حتى تعاود العنقاء الديموقراطية انبعاثها من رمادها، أن يتم اختراع فكرة الديموقراطية التمثيلية. فخلافاً لما كان عليه واقع الحال في الديموقراطية الاثينية المباشرة، فإن من يحكم في الديموقراطية التمثيلية ليس الشعب، بل ممثلوه المنتخبون من قبله. وهذا معناه ان قوة الشعب لم تعد تتمثل في كونه فاعلاً مباشراً، بل في كونه مانحاً للشرعية. وهو لا يعود الى الفعل المباشر إلا في حال نشوء حالة ثورية، أي حالة تقتضي تدخل الشعب لإحلال شرعية جديدة محل شرعية فقدت شرعيتها. والواقع ان الديموقراطية الحديثة تدين بوجودها بالذات لفعل ثوري. فسواء في مستعمرات انكلترا الاميركية أم في فرنسا عام 1789، كان لا بد من إحلال مبدأ جديد للشرعية محل المبدأ القديم القائم على أساس من الدين أو أريستوقراطية الدم أو كليهما معاً. وفي المستعمرات الانكليزية تمثل مبدأ الشرعية الجديد هذا بالشعب، بينما تمثل في فرنسا بالأمة. وفي الحالين كان حدوث الثورة الديموقراطية بمثابة اعلان، ان لم يكن عن غروب الآلهة، فعلى الأقل عن عدم أهليتها لأداء دور المرجع في بناء وعي مدني. ومن ثم كان لا بد من اختراع مذهب انساني يكرس مرجعية الانسان الى ذاته، وهذا في تجريده كمواطن، أي كفرد متساو في الحقوق مع نظرائه من الأفراد دونما اعتبار للفوارق الطبيعية أو الاجتماعية. ومن هنا تواكب اختراع الديموقراطية الحديثة مع اختراع المدرسة العامة. فالمدرسة هي مكان كبير للتجريد ولاكتساب حس المساواة ووعي المواطنة. ولقد كان الفيلسوف التنويري كوندورسيه 1743 - 1794 أول من اقترح المجانية التامة للتعليم، بشرط ألا يتضمن التعليم العام تعليم أي مذهب ديني. وقد قرن روبسبيير مجانية التعليم وعلمانيته بإلزاميته. فالمدرسة العامة، المجانية والالزامية والعلمانية، هي وحدها القادرة على تكوين مواطنين قادرين ليس فقط على فهم العالم، بل كذلك على ممارسة التفكير العقلي والنقدي بما يتيح لهم التجرد من انتماءاتهم الطبقية والطائفية والمحلية الخاصة ليصيروا أعضاء في الجسد لكوني المجرد لذي تؤلفه جماعة المواطنين. فلا مواطن الا اذا كان متعلماً، وبالتالي ذا روح نقدي من دونه لا تقوم قائمة للديموقراطية التي تتنافى ومنطق القطيع. واذا كانت الديموقراطية تعطي مثل هذا الدور للمعلم، فانها تعطي دوراً لا يقل اهمية للمثقف. فالمثقف هو الحامل للوعي الاكثر تجريداً والاكثر شمولية في آن معاً. ولقد ولدت طبقة المثقفين نظرياً في عصر التنوير وعملياً في عهد الثورة الفرنسية. ثم ما فتئ دورها يتعاظم ابتداء من مطلع القرن العشرين مع قضية دريفوس ليبلغ أوجه في عصر الايديولوجيات حيث تأكدت الوظيفة الالتزامية للمثقف، ومرة ثانية في عصر موت الايديولوجيات حيث تأكدت وظيفته النقدية. فالوعي الديموقراطي هو في جوهره وعي نقدي. وهو يقوم على الاستعمال العام للعقل. اذ عن طريق المناقشة والمداولة والمواجهة العامة بين القناعات المبنية على العقل، يمكن ان يتكون رأي مشترك، مشروع ومقبول من الجميع. ومن هنا كان آخر مخاض للنظام الديموقراطي الحديث هو"المجتمع المدني". فبعد ان كانت الفلسفة السياسية للديموقراطية قد اكتشفت مع مونتسكيو مبدأ"وحد السلطة بالسلطة"، وبالتالي ضرورة الفصل بين السلطات حؤولاً دون تراكم السلطة وتداركاً لعسفها، جاءت تجربة الانظمة الشمولية في القرن العشرين لتؤكد على الحاجة الى تطوير المجتمع المدني كسلطة مقابلة للمجتمع السياسي الذي تمثله الدولة وكقوة اجتماعية تحتية قادرة على موازنة القوة الفوقية للنخبة السياسية واجهزة الدولة الممركزة، واخيراً كطاقة مجتمعية عينية تعارض ميل الدولة المسرف الى التجريد وتأخذ على عاتقها التعبير والدفاع عن المصالح المحلية والقطاعية والمهنية والانتمائية للمواطنين، وتضغط باتجاه تطوير الديموقراطية من ديموقراطية تمثيل الى ديموقراطية مشاركة واستشارة متواصلة. يبقى اخيراً سؤال: هل تعني الديموقراطية، لا سيما بعد انتصارها الكبير على الشيوعية،"نهاية التاريخ"كما تفترض أطروحة فوكومايا؟ الواقع ان مفهوم"النهاية"بالذات ليس مفهوماً تاريخياً. والتاريخ لا يقدم اية ضمانة ضد احتمال نكوص ديموقراطي، وهو احتمال وارد جداً كلما حدث انفصام بين آلية الديموقراطية وثقافة الديموقراطية. ففي ظل غياب هذه الاخيرة يمكن ان تتأدى الآلية الديموقراطية الى شمولية من نوع جديد. حدث ذلك بالأمس البعيد حينما جاء النازيون الى الحكم بقوة الانتخابات. وحدث ذلك بالأمس القريب عندما تحولت بعض"الديموقراطيات الشعبية"في اوروبا الوسطى الى استبداديات قومية اثنية. وقد يحدث ذلك غداً اذا جاء الاصوليون والمتشردون الدينيون الى الحكم عن طريق صناديق الاقتراع ثم قرروا بعد ذلك إلغاء الآلية الديموقراطية من أساسها، محوّلين بذلك عرس الديموقراطية الى مأتم.