النقود التي هي هاجس الكبار جميعاً... هل هي كذلك بالنسبة إلى الأطفال الصغار. هل يعي الأطفال قيمتها وهل لديهم، هم أيضاً، حروبهم الصغيرة الخاصة حولها؟ افتراض براءة الأطفال لا ينفي أن تكون الإجابات عن هذه الأسئلة إيجابية. فالنقود مع مفردات أخرى قليلة تشكّل لبنة قاموس الأطفال الذي يروح يتوسّع مع نموهم، وهي المفردة التي تنمو ويتعاظم استخدامها مزيحة غيرها من المفردات. بالتالي إذا كانت المواضيع التي ينشغل فيها الطفل معدودة فإن النقود أبرزها إلى جانب اللعب والأكل والتلفزيون والنزهات. ترتبط يوميات الأطفال بالنقود. منذ استيقاظهم وبدء نهاراتهم يسألون عن المصروف، وبوصولهم الى المدرسة تكون النقود أهمّ محاور أحاديثهم. فيستعرض كل منهم "ثروته"، يعيّرون بعضهم بعضاً ويتباهون أمام بعضهم بعضاً، ثم يتوجّهون إلى الحانوت المدرسي حيث تدور معركة قاسية على بعضهم، يتواجهون فيها مع قدراتهم لجهة دقة الاختيار والتوفير ومواءمة رغباتهم مع امكاناتهم. أما أفظع المآسي التي قد تلمّ بطفل فهي أن تضيع نقوده، وهي الحالة التي تصل فيها ردّة فعله الى العنف وسوق الاتهامات والانتقام الفوري عبر ضرب المشتبه به. في الطفولة المبكرة لا يفهم الطفل ما عساه يستفيد من النقود! لكن هذا سرعان ما يتغيّر، وسرعان ما يفهم الصغير أنه بواسطة هذه الأوراق والقطع المعدنية يستطيع الحصول على ما يحبّه من حلوى وألعاب... حتى سنّ الرابعة يبقى معظم الصغار غير قادرين على التمييز بين العملات، فتتساوى لديهم قيمتها، بل هم يقدّرونها أحياناً في شكل عكسي ويفضّلون النقود المعدنية غير القيّمة على الورقية الأكبر قيمة. هذا ما تعبّر عنه سعاد 4 سنوات حين تسمي النقود المعدنية المختلفة باسم واحد: "خمسمية"، أي خمسمئة ليرة لبنانية. فالنقود في عالمها البسيط والبريء هي هذه العملة.. لدى الأطفال أيضاً صورة مثلى للنقود ترتسم في عقولهم ويبنون عليها الكثير من سلوكياتهم، وإن اختلفت وفق اختلاف القدرات الذهنية والاجتماعية لكل منهم. الثروة في نظرهم هي ذاك الرقم الذي التقطته ذاكرتهم من أحد الأفواه أو من اعلانات التلفزيون... والذي هو في رأيهم المبلغ الأقصى الذي يتخيّلون وجوده. بالنسبة الى محمد 4سنوات هذا المبلغ هو 02 ألف ليرة لبنانية حوالى 41 دولاراً، وبالنسبة إلى عزام 5 سنوات هو ألف ميّة! وفي نظر ناريمان 4 سنوات مليون مطلق، لا يعنيها أن يكون مليون دولار أو مليون ليرة! ما تعرفه جيداً أن كلمة مليون تعني الكثير وأنها قمة المبالغ المالية. ماذا تفعل ناريمان اذا امتلكت المليون؟ تشتري مليون كيس شيبس ومليون كورنيه آيس كريم... أما عزام فيرى أن المبلغ الكبير الذي يحدّده بألف مئة كفيل بشراء طيارة يحلق بها في السماء. ويتعدى حلم محمد امكاناته حين يخطّط لشراء سيارة وباص ب 41 دولاراً. لأسباب كثيرة يحبّ الأطفال الأعياد وأهمّها "العيدية". هذا التقليد بنقد الأطفال مبالغ مالية في الأعياد هو أحد الميزات الاجتماعية والعاطفية لأعيادنا، وبما أن القليل من النقود يسعد الصغار فإن هذه السعادة كفيلة بتوطيد العلاقات العاطفية بينهم وبين الكبار... أين يذهب الصغار بحصيلة عيدياتهم؟ ليست لدينا هنا خيارات كثيرة فإن لم يصرفوا ما حصّلوه فوراً يودعونه في حصالاتهم الصغيرة الملونة، وهذه فكرة الأهل طبعاً. الحصالة فكرة صائبة تعلّم الأطفال الإدخار والتدبير الاقتصادي، لكن الأطفال يحملون أحياناً ما هو أكبر من طاقتهم تحديداً في العائلات الفقيرة التي يستولي فيها الأهل على مدّخرات الصغار بالتحايل والوعود البعيدة الأجل، كأن تعد الأم طفلها بأن تعيد مال حصالته عندما يتقاضى والده علاوة في العمل أو عندما تربح في اليانصيب! كما تقول فاتن 9 سنوات بكل اقتناع. للحصالة اذاً دور حسّاس في حياة الأطفال، فإذا شعروا بأنهم لا يستفيدون مما يدخرونه فيها وإذا شعروا بالاستغفال وهم من الذكاء الفطري بما يمكنهم من اكتشاف هذا فإن علاقتهم بها ستصاب بشرخ وقد يتمردون عليها ويشعرون بالاضطهاد وبالرغبة في التبذير. هذا ما أوحت به جميلة 10 سنوات، حين قالت إنها كانت تملك حصالة وإن أمها أخذت ما فيها لتشتري لها فستاناً لكنها لم تشتره الى الآن وبالتالي لم تعد جميلة تحب ادخار ما يبقى من مصروفها وعيديتها بل تصرفه على الفور. مشكلة حسام 11 سنة أن والده يستردّ منه عيديته بحجة أن الوالد بدوره مطالب بدفع عيديات لصغار العائلة وبالتالي ينطبق مثل "سلف ودين" وتفتر سعادة حسام الموقتة. لكن والدة روني تتفحّص معه المبلغ المدخر في الحصالة بين فترة وأخرى لترى إن كان قد اقترب من سعر الدراجة أو اللعبة الالكترونية التي يريدها روني وهي تشاركه وتشجعه على الادخار وتضع في الحصالة من نقودها.