زحام القاهرة يخفي الكثير والكثير. تنظر إلى الكتل المتلاحمة في ميدان رمسيس أو شارع الأزهر أو ناصية من نواصي المهندسين، فيهيأ لك أن الجميع وحدة واحدة، نساءً ورجالاً وأطفالاً، وضعاً واحداً، ومشكلات متشابهة، ولحظات سعادة متطابقة. الحقيقة أن هذا التطابق ليس سوى قناع يخفي تباينات واختلافات يصلح كل منها فيلماً سينمائياً حافلاً بالإثارة. "المطلقات" فئة من الفئات المختفية في الزحام، وهي كالفئات الأخرى تحوي طبقات اجتماعية واقتصادية عدة، وتعكس عقليات وثقافات متنوعة. وهذا ليس غريباً، فهي متخمة بما يزيد على مليون امرأة، ومليون أخرى ينتظرن دورهن. "الحياة" اختارت عدداً من المطلقات، وعاشت مع كل منهن يوماً كاملاً، وروعي في الاختيار أن يعكس طبقات وثقافات مختلفة منها المتعسف، ومنها المتحرر، ومنها ما يتأرجح بين هذا وذاك. رجاء مطلقة منذ خمس سنوات، أي منذ كانت في الثلاثين من عمرها. تعيش مع ولديها 6 و8 سنوات في بيت والدها الموظف على المعاش ووالدتها ربة البيت وشقيقتها الصغرى غير المتزوجة. تعمل رجاء في مصلحة حكومية تتقاضى منها 175 جنيهاً مصرياً لا غير. تبدأ رجاء يومها في السادسة صباحاً، فتجهز طعام الإفطار لأسرتها ولولديها وتصطحبهما معها بعد ذلك إلى المدرسة. تقول رجاء: "مع اني تجاوزت ال35 من العمر، وعلى رغم أنه مضى على إقامتي في بيت اسرتي بعد طلاقي خمس سنوات، إلا أن والدي لا يودعني صباحاً إلا بعبارة لا تتغير "ثلاثة بالضبط، وليس ثلاثة وخمس دقائق". وعمل رجاء لا ينطوي على أي نشاط ذهني أو غير ذهني، إلا أنها ترى فيه حبل النجاة الوحيد لها، تقول: "إنه المكان الوحيد الذي أتنفس فيه من دون تفكير في طريقة أخذ النفس. تعرضت بعد طلاقي للكثير من الهمز واللمز من قبل بعض زملائي وزميلاتي، إلا أنهم يملّون بسرعة، ويبحثون دائماً عن أبطال جدد لحكاياتهم". تمضي رجاء سويعاتها في العمل بين قليل من الأعمال الكتابية وكثير من الحديث مع زميلاتها، يتحدثن عن المطبخ، والأبناء، وغلاء المعيشة، والمدير، والمواصلات المزدحمة، والعلاوات المتأخرة، والمصيف بالتقسيط. وتقول: "لولا العمل لانفجرت منذ زمن طويل". وأغلب الظن أن رجاء لا تبالغ، فال175 جنيهاً التي تتقاضاها تنفذ قبل مرور أسبوع من الشهر الجديد. وطلبات الأبناء لا تنقطع: كتب مدرسية، أحذية انتهى عمرها الافتراضي، زيارة غير متوقعة لطبيب الأطفال. واللائحة طويلة، وقد دفعتها ظروفها المادية الصعبة إلى الاشتراك في إحدى شركات بيع أدوات التجميل، إذ تتقاضى مكافآت على مبيعاتها، وتضيف إليها ال75 جنيهاً اليتيمة التي يدفعها طليقها نفقة للولدين، إضافة إلى نحو 20 جنيهاً فوائد مصرفية على حساب قديم لها في دفتر التوفير. وفي طريق عودتها إلى بيتها بعد العمل، تتسلم الولدين من المدرسة، ويعرجون على السوق لشراء البقول اللازمة لغذاء اليوم المقبل. تقول: "أهون مشكلاتي هي الأمور المادية، لكن الحبل الذي يضيّق خناقه أهلي عليّ يومياً لا أتحمله". فوالد رجاء أب مصري جداً، ينتمي إلى زمن كانت كلمة "الطلاق" فيه أصعب من "الموت"، ولعل مبادرة زوج رجاء بتطليقها بعدما تزوج امرأة أخرى هي التي منعته من أن يتبرأ من ابنته و"العار" الذي جلبته على الأسرة. فهو يعلم في قرارة نفسه أن ابنته ضحية لرجل أناني ومزواج وغير مسؤول منذ اليوم الأول للزواج، لكن إيمانه بأن الطلاق عار للمطلقة واسرتها يغطي على قناعته تلك. ورجاء تؤكد دوماً أن لا نية لديها مطلقاً في تكرار فكرة الزواج، مع أنها تحرص على أن تعود الى البيت في الثالثة إلا خمس دقائق وليس الثالثة وخمس دقائق، إلا أن والدها لا يكف عن مضايقتها بقصد أو من دون قصد. تقول رجاء: "فترة بعد الظهر والمساء تمضي بطيئة ورتيبة ومملّة، فبين ترتيب المنزل، ومراجعة دروس ابني البكر، وتجهيز طعام اليوم التالي، لا يتوقف والدي عن التعليق على أي كبيرة أو صغيرة ترد في مسلسل أو فيلم أو حتى خبر تلفزيوني له علاقة بالزواج أو الطلاق، وهو لا يقصد أن يجرحني، إلا أن النتيجة هي تعرّض مشاعري بصفة دائمة للوجع". تأوى رجاء الى فراشها مع ولديها في نحو التاسعة مساءً، وتجد صعوبة كبيرة في أن تخلد الى النوم بسرعة، فتمضي الوقت في الفراش بعيداً من تعليقات الوالد التي لا تتوقف. وإذا كان والد رجاء يرى في طلاقها عاراً، فكذلك منى السيدة القروية ابنة ال30 عاماً التي هجرت قريتها الصغيرة هرباً من العار. تقول منى: "تزوجت ابن عمي حين كنت في الثامنة عشرة. لم يكن لي خيار، بل لم أسأل عن رأيي أصلاً، إلا أن زوجي حاد الطباع وعنيف، وأهل القرية يعرفون ذلك، تحملت عنفه لا سيما بعد ما أنجبنا ثلاثة ابناء، إلا أن كثرة إلقاء القبض عليه في حوادث "بلطجة" وأحياناً سرقة دفعتني إلى طلب الطلاق". حصلت منى على الطلاق متحدية بذلك أهلها وأهل زوجها والعادات والتقاليد والأعراف. وهجرت قريتها إلى القاهرة، وتركت وراءها ابناءها الثلاثة لدى والدتها. تعيش منى في غرفة صغيرة على سطوح منزل قديم في منطقة باب الشعرية الشعبية، تبدأ يومها في التاسعة صباحاً، إذ تتوجه إلى واحد من البيوت الستة التي اتفقت مع اصحابها على تنظيفها مرة في الاسبوع. قسوة هذا العمل، وتعرضها مراراً وتكراراً للإهانة، وتفتيش الكيس البلاستيكي الذي تحمله للتأكد من أنها لم تسرق شيئاً، ليست أسوأ من حياتها الماضية، وهي تقول: "نار الخدمة في البيوت ولا جنة زوجي البلطجي". وتنمي منى دخلها بالتوجه يوم الجمعة إلى الموسكي، ووكالة البلح، وغيرهما من الأسواق الشعبية، وتشتري الجلاليب النسائية، وأغطية الرأس، وأدوات التجميل الرخيصة والرديئة وتبيعها لجاراتها في باب الشعرية مع إضافة هامش ربح لها، أو تبيعها بالتقسيط مع إضافة الفوائد. وتزور منى ابنائها مرة في الشهر محملة بالهدايا وقدراً من المال لوالدتها. وعلى رغم ظروفها الصعبة وتجربتها السيئة وحرمانها من ابناءها، إلا أنها تركت الباب مفتوحاً أمام فكرة الزواج، تقول: "تقدم إليّ ميكانيكي وصاحب مطعم صغير، وكلاهما متزوجان، وما زلت أدرس العرضين". وإذا كانت منى تلقت عرضين فقط، فإن رانيا تلقت عشرات العروض بالزواج مرة أخرى. رانيا في السادسة والعشرين من عمرها، جميلة جداً، وناجحة جداً في عملها في إحدى الشركات الاستثمارية الكبرى. تنتمي الى أسرة ثرية راقية، فوالدها رجل أعمال ووالدتها سيدة مجتمع بارزة ولها أنشطة خيرية عدة، ورانيا ابنتهما الوحيدة، تزوجت من زميل لها في الجامعة بعد قصة حب قصيرة. ولم تكن قصة الحب التي جمعتهما فقط هي القصيرة، بل أيضاً أيامهما تحت سقف واحد. تقول رانيا: "بعد اسابيع من الزواج، اكتشف كل منا أنه تسرّع في قراره، وعلى رغم عدم وجود خلافات كبيرة بيننا، إلا أن قرار الانفصال جاء طبيعياً جداً ومن دون تفكير طويل". عادت رانيا إلى بيت والديها من دون أن يتغير الكثير. تقول: "مامي وبابي تضايقا بعض الشيء في البداية لأنهما كانا يعتقدان أنني حزينة للطلاق، لكنهما تأكدا من أنني مقتنعة تماماً". وتمارس رانيا حياتها بشكل عادي، تخرج إلى عملها في الصباح وتعود في نحو السادسة مساءً، إما الى المنزل، او تقابل اصدقاءها على العشاء في أحد المطاعم او في النادي. تقول: "تلقيت عروضاً كثيرة من زملاء لي في العمل، ومن اصدقائي من الجامعة للزواج، وجميعهم يعرف زوجي السابق وقصة طلاقنا لكني اتخذت قراراً بالتمتع بحريتي بعض الوقت". كثيرات غير رانيا يتمتعن بحريتهن بعد الطلاق، وإن كان مفهوم المتعة هنا يختلف. نادية مهندسة مدنية، ناجحة في عملها، ولديها فتى وفتاة في مرحلة المراهقة، وهي مطلقة منذ نحو عام، وإن كانت انفصلت عن زوجها منذ ما يزيد على خمس سنوات. تقول نادية: "حصلت على الطلاق من المحكمة بعد ما ماطل زوجي في تطليقي، والحقيقة ان السنوات التي امضيناها سوياً كانت اقرب الى الجحيم. كنا نختلف على ابسط الامور، وقلما تمر مناسبة أو مصيف او رحلة او عيد من دون معركة بيننا والقشة التي قصمت ظهر البعير كانت تطاوله عليّ بالضرب في إحدى تلك المعارك امام زملائي في العمل". تعيش نادية حياة عادية مع ابنها وابنتها، عمل في الصباح، ومذاكرة وقضاء شؤون البيت في المساء، وهي تؤكد أن حياتها حالياً تسير بشكل افضل بكثير مما كانت عليه قبل الطلاق. تقول: "تغيّرت نظرة المجتمع كثيراً الى المطلقة لسببين وثيقي الصلة الاول انشغال الجميع بقدر هائل من المشاكل الشخصية والمادية، ما يقلص الوقت المتبقي للنميمة وتقطيع فروة الآخرين، والسبب الثاني هو زيادة عدد المطلقات بشكل جعل منهن فئة قائمة بذاتها، وتفرض وجودها على المجتمع". وعلى رغم ذلك، فهي لا تنفي مثلاً تعرضها لنظرة ذات معنى من زوجة البواب احياناً، او همسة ذات مغزى من إحدى عجائز العائلة. تقول: "لا أُعير أي اهتمام لتلك التفاهات، المشكلة الوحيدة في حياتي حالياً هي تهديدات طليقي المستمرة باستصدار امر من المحكمة بضم ابني وابنتي اليه، لكني اعلم في قرارة نفسي إنها مجرد تهويش لأنه تزوج اخرى، ولا اعتقد ان زوجته الجديدة مستعدة تلك المسؤولية". مشكلة شبيهة تتعرض لها جنان المطلقة ايضاً منذ نحو اربع سنوات. تعمل جنان سكرتيرة في مكتب مدير مصنع ملابس ضخم طلّقها زوجها بعد ست سنوات من الزواج الحافل بالمشاحنات اسفر عن ابنتها الوحيدة التي تبلغ من العمر نحو ثماني سنوات. التفاصيل اليومية لحياة جنان تسير بشكل عادي. فهي تتوجه إلى عملها في الصباح، ويتولى والدها مهمة توصيل ابنتها إلى المدرسة واستلامها. وهي تتمتع بحياة اجتماعية لا بأس بها. لديها دائرة مقربة من الصديقات، وتقوم بزيارات عائلية احياناً، ولكن تواجهها ثلاث مشكلات اساسية، الأولى محاولات طليقها المستمرة استقطاب ابنتهما باصطحابها إلى اماكن راقية، وشراء ملابس غالية الثمن لها، وهي اشياء لا تستطيع الام منافسته فيها لضيق ميزانيتها. المشكلة الثانية هي "انني متأكدة من انه في حال زواجي مرة اخرى، فسيطالب طليقي بابنتي لتربيها والدته، إذ أن والدتي متوفية، وهذا هو نص القانون". والمشكلة الثالثة التي تؤكد جنان انها تأتي في ذيل القائمة هي نظرة المجتمع لها. تقول: "صحيح ان الغالبية تعاملني باحترام ومن دون افكار مسبقة، لكن بعضهم احياناً يحاول ان يصطاد في المياه العكرة، فأتلقى دعوة على العشاء مثلاً من عميل في المصنع كجس نبض". جس نبض المجتمع المصري لا سيما القاهري يشير الى حدوث انفتاح غير مسبوق في تقبل المطلقات واندماجهن في المجتمع كعضوات صالحات. إلا ان التغيير لن يستتب بين يوم وليلة فكلمات مثل "عازبة" ما زالت شائعة والافكار المسبقة لم تمح.