حين اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الأولى في كانون الأول ديسمبر عام 1987، واجهتها إسرائيل بقسوة لافتة، مستخدمة جماع قوتها العسكرية الهائلة، ولم يمنعها من ذلك أنها كانت انتفاضة شعبية الطابع سلمية التوجه أبطالها الأطفال وسلاحها الحجر. وقد أدى العنف المدمر الذي استخدمته إسرائيل ضد "أطفال الحجارة" إلى موجة من التعاطف غير المسبوق مع الفلسطينيين وازاه استنكار غير مسبوق أيضاً للقسوة المدمرة التي استخدمتها إسرائيل لإخماد الانتفاضة. وقد شارك في هذا الاستنكار بعض أبرز الشخصيات الأدبية والفنية في الولاياتالمتحدة، ولم يكن غريباً أن يكون على رأس المنتقدين لإسرائيل الكاتب المسرحي الذي رحل عنا أخيراً"آرثر ميللر، الذي عرف بآرائه اليسارية التي قادته إلى الوقوف أمام لجنة التحقيقات في النشاط المعادي لأميركا في العام 1957 في ذروة سطوة المكارثية على البلاد. لكن ذلك لم يكن الموقف الوحيد الذي وقف فيه الكاتب اليساري موقفاً انتقادياً من إسرائيل، ففي العام 2003 اختير ميللر لنيل "جائزة القدس الأدبية" وهي جائزة لا تمنح للتميز الأدبي والإبداعي فحسب، كما تقول لائحتها، بل للشخصيات الأدبية التي تسجل امتيازاً في الدفاع عن الحريات وعن حقوق الأفراد بشجاعة. وجاء في بيان أسباب منحه الجائزة بذله "جهوداً كبيرة للصالح العام، ولوقوفه إلى جانب الأفراد العاديين الضعفاء ووضعهم في صدارة المجتمع". وبحسب صحيفة "الأوبزرفر" البريطانية, فإن الكاتب الكبير فكر في البداية في رفض الجائزة، ولكنه عاد فقرر قبولها، ولكنه امتنع عن السفر إلى إسرائيل لتسلم الجائزة مكتفياً بإرسال خطاب مسجل على الفيديو تضمن كلمته في قبول الجائزة وهي كلمة تضمنت انتقادات قاسية لسياسة إسرائيل كانت من الشدة بحيث استفزت رئيس بلدية القدس، وهو يهودي أصولي، وجعلته يرد عليه بخطاب توبيخي مفسداً حفل تسلم الكاتب الكبير للجائزة. ولفتني أن المحرر الثقافي لصحيفة "هاآرتس" الإسرائيلية مايكل هاندلزاتس أشار إلى تلك الحادثة مخفياً بعض الحقائق ومحوِّراً بعضها لكي يبدو الكاتب المسرحي الكبير وكأنه كان على وفاق مع الدولة اليهودية كما يجدر بيهودي صالح وليس علمانياً ناقداً لها كما هو الحال في واقع الأمر. ففي مقال له نشر في اليوم التالي لوفاة ميللر قال المحرر الثقافي ل"هاآرتس" إن ميللر الذي قبل الجائزة لم يتمكن من الحضور لتسلم الجائزة بسبب وضعه الصحي المتردي، وهو ما اضطره إلى إرسال خطابه المسجل على شريط فيديو والذي أعرب فيه عن أمله في أن "تتمكن إسرائيل من أن تقود سفينتها إلى بر الأمان عبر إجراءات إنسانية في الأيام العاصفة التي تلت الحادي عشر من أيلول سبتمبر 2001". ولكن الأمر لم يكن كذلك كما عرضته وسائل الإعلام العالمية آنذاك، فقد أكدت صحيفة الأوبزرفر اللندنية في حينه أن ميللر "لم يستقبل الجائزة بالأحضان، بل إنه فكر بداية في رفضها، ولكنه عدل عن رأيه وقرر قبولها"، ولكن على طريقته الخاصة. وفي اليوم المقرر لتسلم الجائزة فوجئ الحضور في حفل التسليم بعرض شريط فيديو مضخم أرسله ميللر يظهر فيه الكاتب المسرحي الكبير مرتدياً بدلة سوداء وربطة عنق حمراء بجسم ملأ الشاشة، وهو يلقي خطاباً يهاجم فيه إسرائيل على ممارساتها غير الإنسانية تجاه الشعب الفلسطيني، في ما بدا وكأنه مشهد مسرحي كبير الشبه بتلك المشاهد التي برع في رسمها صاحب بعض "ساحرات سالم" و"بعد السقوط" و"موت بائع متجول". في خطابه ذاك، وصف ميللر سياسة الاستيطان التي تمارسها إسرائيل في الضفة الغربية وقطاع غزة بأنها تمثل "هزيمة ذاتية"، مشيراً إلى أن إسرائيل "تريد بذلك إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، إلى أيام كان فيها من المقبول التوسع خلف الحدود الطبيعية للبلاد". وقال إنه كان يأمل في أن تصبح إسرائيل دولة مسالمة بمجتمع تقدمي مثل أي مجتمع آخر، ولكنها تحولت إلى العكس تماما: "مجتمع مسلح على خلاف مع جيرانه ومع العالم أيضاَ". واختتم خطابه داعياً إسرائيل إلى إعادة اكتشاف مبادئها اليهودية. بخطابه التوبيخي هذا، كان ميللر ينضم إلى عدد من أبرز كتاب العالم وفنانيه الذين نالوا الجائزة، فقد نالها من قبل يهودي مينوهين، عازف الكمان الأشهر في العالم حتى رحيله عام 1999، وفي حفل تسلّم الجائزة وجه نقداً قاسياً لإسرائيل وسياساتها، وقبل أربعة أعوام حصلت على الجائزة الكاتبة والروائية الراحلة سوزان سونتاغ التي لم تتردد في إلقاء خطاب انتقادي اشتهر آنذاك. وبالطبع، فإن انتقادات ميللر التي كانت الأعنف لم ترق لرئيس بلدية القدس أوري لوبليانسكي، وهو يهودي أورثوذوكسي متطرف كان بين الحضور، فصعد إلى المنصة غاضباً وبدأ هجوماً معداً سلفاً على ميللر بدا واضحاً منه أن رئيس بلدية القدس كان شاهد الشريط فقرر الرد عليه. وفي رده ذاك الذي أعده مساعدوه، أخرج لوبليانسكي بضاعته الكاسدة من الأفكار العنصرية قائلاً إن ميللر كان "كاتباً مسرحياً عالمياً" وصل قمة شهرته قبل 50 عاماً. ودان الميل البادي للمثقفين إلى "الاستمرار في نقد تصرفات دولة إسرائيل، بل وإضفاء معايير استعمارية على القضية"، وهاجم ميللر لجلوسه "على جبل الأوليمب بعيداً آلاف الكيلومترات رافعاً عقيرته بالنقد". واختتم رده قائلاً: "إن من الصعب التعامل مع الحقيقة المجردة، فالحقيقة البسيطة هي أن شعب إسرائيل لم يكمل بعد حرب وجوده. إن أعداءنا يواصلون حربهم وعلينا أن ندافع عن أنفسنا". وقد وصف أحد الحضور كلمة رئيس البلدية بأنها "قمامة متطرفة"، فلم يكتف لوبليانسكي بإثارة استياء الحضور بل أثار أيضاً استياء أعضاء لجنة الجائزة التي تضم بعض أشهر الأدباء الإسرائيليين. وقال أهارون أبلفيلد،عضو لجنة منح الجائزة وهو من أشهر الروائيين والشعراء الإسرائيليين، إن لجنة الجائزة هي التي قررت منحها لميللر وليس رئيس بلدية القدس. ولكن السخرية من لوبليانسكي بلغت ذروتها بتعليق من أحد الحضور قال فيه" ان رئيس بلدية القدس لا يعرف شيئاً عن ميللر، ولكنه قد يعرف شيئاً عن مارلين مونرو".