«الاستثمار العالمي»: المستثمرون الدوليون تضاعفوا 10 مرات    قيود الامتياز التجاري تقفز 866 % خلال 3 سنوات    رئيسة (WAIPA): رؤية 2030 نموذج يحتذى لتحقيق التنمية    سعود بن مشعل يشهد حفل "المساحة الجيولوجية" بمناسبة مرور 25 عامًا    السد والهلال.. «تحدي الكبار»    ظهور « تاريخي» لسعود عبدالحميد في الدوري الإيطالي    أمطار على مكة وجدة.. «الأرصاد» ل«عكاظ»: تعليق الدراسة من اختصاص «التعليم»    «التعليم»: حظر استخدام الهواتف المحمولة بمدارس التعليم العام    إسماعيل رشيد: صوت أصيل يودّع الحياة    من أجل خير البشرية    وفد من مقاطعة شينجيانغ الصينية للتواصل الثقافي يزور «الرياض»    محمد بن راشد الخثلان ورسالته الأخيرة    مملكتنا نحو بيئة أكثر استدامة    نيوم يختبر قدراته أمام الباطن.. والعدالة يلاقي الجندل    في الشباك    بايرن وسان جيرمان في مهمة لا تقبل القسمة على اثنين    النصر يتغلب على الغرافة بثلاثية في نخبة آسيا    قمة مرتقبة تجمع الأهلي والهلال .. في الجولة السادسة من ممتاز الطائرة    وزير الخارجية يشارك في الاجتماع الرباعي بشأن السودان    الكرامة الوطنية.. استراتيجيات الرد على الإساءات    نائب أمير الشرقية يكرم الفائزين من القطاع الصحي الخاص بجائزة أميز    ألوان الطيف    ضاحية بيروت.. دمار شامل    «بنان».. جسر بين الماضي والمستقبل    حكايات تُروى لإرث يبقى    جائزة القلم الذهبي تحقق رقماً قياسياً عالمياً بمشاركات من 49 دولة    نقاط شائكة تعصف بهدنة إسرائيل وحزب الله    أهمية قواعد البيانات في البحث الأكاديمي والمعلومات المالية    الأمير محمد بن سلمان يعزّي ولي عهد الكويت في وفاة الشيخ محمد عبدالعزيز الصباح    تطوير الموظفين.. دور من ؟    السجن والغرامة ل 6 مواطنين ارتكبوا جريمة احتيالٍ مالي    قصر بعظام الإبل في حوراء أملج    كلنا يا سيادة الرئيس!    القتال على عدة جبهات    معارك أم درمان تفضح صراع الجنرالات    الدكتور ضاري    التظاهر بإمتلاك العادات    مجرد تجارب.. شخصية..!!    كن مرناً تكسب أكثر    نوافذ للحياة    زاروا المسجد النبوي ووصلوا إلى مكة المكرمة.. ضيوف برنامج خادم الحرمين يشكرون القيادة    الرئيس العام ل"هيئة الأمر بالمعروف" يستقبل المستشار برئاسة أمن الدولة    صورة العام 2024!    ما قلته وما لم أقله لضيفنا    5 حقائق من الضروري أن يعرفها الجميع عن التدخين    «مانشينيل».. أخطر شجرة في العالم    التوصل لعلاج فيروسي للسرطان    محافظ صبيا يرأس اجتماع المجلس المحلي في دورته الثانية للعام ١٤٤٦ه    وزير الخارجية يطالب المجتمع الدولي بالتحرك لوقف النار في غزة ولبنان    استعراض السيرة النبوية أمام ضيوف الملك    أمير الشرقية يستقبل منتسبي «إبصر» ورئيس «ترميم»    الوداد لرعاية الأيتام توقع مذكرة تعاون مع الهيئة العامة للإحصاء    أمير الرياض ونائبه يؤديان صلاة الميت على الأمير ناصر بن سعود بن ناصر وسارة آل الشيخ    أمير منطقة تبوك يستقبل القنصل الكوري    البريد السعودي يصدر طابعاً بريدياً بمناسبة اليوم العالمي للطفل    الدفاع المدني يحذر من الاقتراب من تجمعات السيول وعبور الأودية    الأهل والأقارب أولاً    الإنجاز الأهم وزهو التكريم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نقاط للتاريخ في العلاقات السورية - اللبنانية . الزعيم هدد بقطع الاتصالات ... وخالد العظم أعلن الانفصال الجمركي فوقع الخلاف الأول 2 من 2
نشر في الحياة يوم 11 - 02 - 2005

كان الرئيس خالد العظم أحد رؤساء الوزارات في سورية يحب لبنان حباً جماً، ويتمتع في كل صيف بقضائه في بلدة سوق الغرب التي كان يعتبرها أجمل بقعة في لبنان. كما كان كثير السفر إلى لبنان لتلبية المناسبات الاجتماعية، لكنه كان وراء قرار الانفصال الجمركي السوري عن لبنان في عام 1950، الذي ادى إلى تفاعلات سياسية وخلافات برزت على سطح العلاقات الودية الأخوية في البلدين.
ويعتبر الرئيس العظم أحد القيادات السورية القلائل الذين شاركوا في صنع التاريخ السوري الحديث، باعتباره رجل دولة وأسهم فعلياً في إرساء اللبنة الأولى لوجود سورية الاقتصادي. وله مساهمات في مشاريع الاقتصادات الخاصة، ومنها تأسيس الشركة الوطنية لصناعة الاسمنت ومواد البناء عام 1930 في موقع دمر في دمشق. كما أسهم في تأسيس شركة المغازل والمناسج في دمشق، وغيرها من المشاريع الاقتصادية التي يحتاجها المواطن السوري مثل ميناء اللاذقية الذي أخذ ينافس ميناء بيروت.
والعظم من الأسر الارستقراطية في سورية لقب ب"المليونير الأحمر"، بعدما تعاون مع اليساريين السوريين، يتقدمهم السياسي الاشتراكي المعارض أكرم الحوراني والحزب الشيوعي بزعامة خالد بكداش، بهدف بلوغ منصب رئاسة الجمهورية، لأن المحافظين في سورية رفضوا منح أصواتهم للعظم لتولي الرئاسة الأولى. وبعد حركة الثامن من آذار مارس 1963 لجأ العظم مع زوجته إلى الطابق الأرضي من مبنى السفارة التركية الذي كان ملكاً خاصاً له في شارع أبو رمانة، فيما حوصر المبنى من جماهير مؤيدة لحركة الثامن من آذار التي قام بها حزب البعث طالبت السفير التركي بتسليم العظم لمحاكمته مع الانفصاليين ضد الوحدة مع مصر. لكن السفير رفض هذا الطلب، ثم وافقت حركة الثامن من آذار على السماح للعظم بمغادرة سورية فاختار الإقامة في بيروت. وفي 18 شباط فبراير 1965 توفي الرئيس العظم في بيروت في منزله في عين الرمانة ودفن جثمانه في جوار الإمام الاوزاعي.
كان اهتمام العظم بالشأن الاقتصادي إلى جانب السياسة واضحاً. وفي عهد أول انقلاب عسكري بزعامة الجنرال حسني الزعيم اعتقل العظم مع الرئيس السوري الأول شكري القوتلي ووضعا في سجن المزة العسكري، ولم يطلق قائد الانقلاب سراحهما إلا بعدما قدم القوتلي استقالته من رئاسة الجمهورية والعظم من رئاسة الوزارة.
وفي عهد الانقلاب العسكري الثالث الذي قاده العقيد أديب الشيشكلي أسند قائد الانقلاب منصب رئاسة الحكومة لخالد العظم لينصرف اهتمامه إلى الشؤون الاقتصادية، فحاول تنظيم العلاقات الاقتصادية مع لبنان، وعقدت اجتماعات مشتركة في بلدة شتورة بهدف ازالة حال القلق بين البلدين، وطالب العظم الجانب اللبناني باقامة وحدة اقتصادية ترتكز على أسس سليمة، مع توحيد سياسة الاستيراد والتصدير والرسوم الجمركية في البلدين، وفرض ضرائب موحدة على التجار والصناعيين والمزارعين، وإلغاء المجلس الأعلى للمصالح المشتركة. وقد خيّر الرئيس العظم الجانب اللبناني بين هذا الاقتراح، أو أن يكون هناك انفصال تام في العلاقات الجمركية،
وفي حوار خاص بين كاتب هذه السطور والرئيس العظم قال:"لم اكن انا الذي فصم عرى الوحدة الاقتصادية بين سورية ولبنان، بل كانت الحكومتان اللبنانية والسورية الموقعتان على اتفاق أول تشرين الأول اكتوبر عام 1943 أو بالأحرى سعد الله الجابري وجميل مردم بك عن سورية ورياض الصلح وفيليب تقلا عن لبنان. هؤلاء هم الذين قضوا على الوحدة الاقتصادية التي كانت تشمل سورية ولبنان منذ مئات السنين، وحصروا العلاقات المشتركة بالشؤون الجمركية فحسب... أما انا فسعيت لإعادة الأوضاع الى ما كانت عليه، لكن رياض الصلح رفض اقتراحي فاضطرني إلى إلغاء الوحدة الجمركية في 3 آذار 1950".
محاولة خطف كامل مروة
كان حسني الزعيم قائد الانقلاب الأول يطلب من الصحافتين السورية واللبنانية تأييداً مطلقاً لعهده الانقلابي. لكن الصحف اللبنانية حملت بعنف على زعيم الانقلاب، ومنها"الحياة"، فكتب كامل مروة في زاويته"قل كلمتك وامش":"إن العهد السوري الجديد في عالم الغيب وهو محاط بعلامات الاستفهام، وبغيوم كثيرة، وبأمان يتقاسمها التفاؤل والتشاؤم، وعلى العهد السوري افساح المجال امام عناصر الشباب النظيفة العاملة".
ولم يعجب المقال حسني الزعيم فأصدر قراره بمنع"الحياة"من التداول في سورية مع اتلاف اعدادها كل يوم. وبطش الزعيم بكل صحيفة لبنانية وعربية لم ترتم عند اقدامه، وضغط على الحكومة اللبنانية لتستخدم سلطات الرقابة لكتمان ما يجري في سورية.
واكتشفت السلطات الأمنية اللبنانية في 22 نيسان ابريل عام 1949 محاولة لخطف كامل مروة من عناصر سورية بعث بها جهاز استخبارات حسني الزعيم، فأبلغت مروة بتلك المحاولة وطلبت منه الحذر في تنقلاته.
وبسبب اشتداد حملة الصحافة اللبنانية على الزعيم وجه قائد الانقلاب تهديداً مباشراً لرياض الصلح اكد فيه ان سورية ستقطع كل اتصال مع الحكم اللبناني، ما اضطر الرئيس اللبناني بشارة الخوري الى ايفاد رئيس اركان الجيش العقيد توفيق سالم حاملاً رسالة للزعيم يؤكد فيها الخوري رغبة لبنان في استمرار التعاون الاخوي، معتبراً ان الانقلاب مسألة داخلية تخص سورية وحدها.
وبدوره أوفد الزعيم مرافقه الخاص إلى بيروت وسلم بشارة الخوري رسالة جوابية.
وعقد رئيس الحكومة رياض الصلح مؤتمراً صحافياً دعا فيه الصحافة اللبنانية إلى الاعتدال في ما تتناوله عن الوضع في سورية وضرورة الكف عن الاساءة إلى الدول المجاورة، وفي صورة خاصة سورية.
سورية لا تتحمل زعيمين
دخل الوسطاء اللبنانيون بين الزعيم ومروة بهدف فتح صفحة جديدة. وبعدما انتخب الزعيم رئيساً للجمهورية السورية، وجه دعوة خاصة لصاحب"الحياة"لزيارة دمشق وتمت الزيارة. وفي هذا اللقاء سأل مروة الزعيم: لماذا سلّمت انطون سعادة إلى لبنان؟ فأجابه:"إن سورية لا تتحمل زعيمين"!
في عهد الانقلابات العسكرية بدأت السلطات السورية تتذمر من الوضع الجمركي الموحد مع لبنان والسعي لتحسين الوضع المالي بكل الوسائل، باعتبار ان العصب المالي والاقتصاد الوطني من اهم مقومات الدولة. لذلك قرر العظم الذي شكل الوزارة السورية في عهد العقيد أديب الشيشكلي، مدعوماً من مجلس الحرب الأعلى للقيادة السورية، توجيه مذكرة انذار إلى رياض الصلح، يطالبه فيها إما بإقامة وحدة اقتصادية وإما انفصال جمركي بين البلدين لوضع حد للبلبلة الاقتصادية.
وحددت المذكرة 20 يوماً اعتباراً من السابع من آذار 1950 للاستجابة لطلبها، كما منحت عشرة أيام للحكومة اللبنانية لدرس المذكرة. وكانت نقطة الخلاف الأساسية هي التعامل بالنقدين السوري واللبناني فدمشق كانت تريد ان يتم تداول العملتين في الدوائر الحكومية والمصالح المشتركة في سورية ولبنان، على اساس التعامل بين الليرة اللبنانية والليرة السورية، كما هو مصرح عنه في صندوق النقد الدولي، ويسمح للمصارف بتحويل الاموال بين البلدين بحرية تامة.
وكانت الحكومة اللبنانية خالفت ما تم عليه الاتفاق عند اجتماع الرئيسين القوتلي والخوري في شأن ميثاق التفاهم وما تم الاتفاق عليه بين وزيري خارجية البلدين في شأن اتخاذ موقف موحد بالنسبة الى مفاوضات جلاء القوات الفرنسية عن أراضي البلدين، خصوصاً الفقرة الثالثة التي تنص على:"ان سورية لا تعترف بأي اتفاق اقتصادي او ثقافي اذا لم تدع إلى مناقشته والموافقة عليه، وكذلك الحال في لبنان". لكن الحكومة اللبنانية انفردت بتوقيع الاتفاق النقدي مع فرنسا من دون استشارة الحكومة السورية، ونص الاتفاق على إلغاء قوة النقد السوري الابتدائية في لبنان ما ساعد في استمرار الفارق بين النقدين السوري واللبناني.
الصلح يرد مع محمد علي حمادة
وفي 13 آذار 1950 جاء الرد اللبناني بمذكرة بعث بها الرئيس رياض الصلح رداً على اقتراح الوحدة الاقتصادية وحمل المذكرة محمد علي حمادة موفداً من وزارة الخارجية وقابل الرئيس العظم في مكتبه في وزارة الخارجية، وأوضح أن الحكومة اللبنانية آسفة جداً لعدم استطاعتها قبول ما جاء في المذكرة السورية، وانه يرجو ألا تنقطع الصلات بين البلدين بل ان يحاولا الوصول إلى حل وسط يحفظ مصلحتهما.
وأكد العظم ان الحكومة السورية لا ترغب في قطع الصلات وإنما تريد توثيقها، وطلب منه ان يبلغ الصلح أنه الصلح الوحيد الذي يستطيع تحقيق الوحدة الاقتصادية وتوثيق العلاقات بين سوريه ولبنان، وقال العظم لحمادة:"يؤسفني أن تصل العلاقات بين بلدين في عهد الرئيس الصلح إلى حد التوتر الحالي الذي قد يؤدي إلى انفصام العرى الاقتصادية والمالية". وأضاف:"اعتقد أن كثير من اللبنانيين، خصوصاً المسلمين منهم، يتوقون إلى الوحدة، وان الرئيس الصلح لو أعلن رأيه في الوحدة الاقتصادية لصعب على رئيس الجمهورية اللبنانية ومن معه من المعارضين لهذه الفكرة أن يتشبثوا بموقفهم السلبي، وأن الصلح على افتراض انه ضحى برئاسة الوزارة الآن فلا بد له من العودة إليها بعد مدة غير طويلة بقوة اكبر، وعندها يستطيع تنفيذ رأيه وجمع الكلمة وتسيير مقدرات لبنان على الوجه الصحيح".
وأوضحت المذكرة اللبنانية التي حملت جواب الرئيس الصلح وهي تتألف من خمس صفحات"ان للحكومة اللبنانية تجاه البلد السوري الشقيق سياسة استوحتها من روابط الإخاء والجوار، ومن مصلحة البلدين في أن يقوم بينهما تعاون وثيق في مختلف الميادين الاقتصادية والمالية، والحكومة اللبنانية تبذل المساعي الحثيثة في سبيل إيجاد حلول المشكلات والخلافات، لأنها لم تكن يوماً مسؤولة عنها، ففي 10 كانون الأول ديسمبر 1949 وجهت الحكومة السورية مذكرة أوضحت فيها بإخلاص وصراحة أسباب الخلاف القائم واقترحت حلولاً له، ثم قامت بمساع لعقد اجتماع مشترك باءت جميعها بالفشل، وان مذكرة الحكومة السورية المؤرخة في 7 آذار 1950 الواردة في شكل إنذار، وما سبقها ورافقها من تصريحات لا تنسجم مع روح التعاون والصداقة التي حافظت عليها الحكومات اللبنانية المتعاقبة". وأضافت"أن الوحدة الجمركية القائمة، أوجدتها السلطات الفرنسية وأبقى عليها البلدان بعد نيلهما استقلالهما، وهذه الوحدة يبرر وجودها أن البلدين السوري واللبناني مهمان لبعضهما في الشؤون الاقتصادية، بحكم الطبيعة والوقائع وان مصلحتهما المتبادلة تقضي بانتقال البضائع من بلد إلى آخر بحرية تامة، لذلك عقد الفريقان بتاريخ أول تشرين الأول 1943 اتفاقية شتورا على أساس وحدة جمركية تامة وإدارة موحدة للمصالح المشتركة. وقد اخلص لبنان للنظام القائم بينه وبين سورية وضحى في سبيله بالكثير من مصالحه، وذلك حفاظاً على الروابط العديدة واعتقاداً مخلصاً منه أن ذلك النظام نفع متبادل للبلدين".
وتضمنت المذكرة ذكر بعض التضحيات التي تحملها لبنان وما يتصل بشؤون الاستيراد والتصدير والرسوم الجمركية واستيراد القمح من سورية ومنع شحن القمح إلى لبنان من دون عذر أو مسوغ، في وقت لم يكن يملك فيه ما يكفي لإعاشة الأهلين مدة خمسة عشر يوماً، ولم يكن لديه من النقد النادر ما يؤمن له إعاشته من الخارج، وان لبنان لم يطلب الانفصال كما خطر للحكومة السورية أو لأحد وزرائها أن تمنع عنه المواد الدهنية والزيوت والأغنام، ولم يفكر بأن يقابل هذه التدابير بمثلها.
الانفصال الجمركي
وأمام هذه المواقف المتصلبة من البلدين قرر الرئيس العظم اتخاذ الإجراءات اللازمة في الانفصال الجمركي مع لبنان بعد جلسة خاصة عقدها مجلس الوزراء، ومنها:
1- إغلاق الحدود مع لبنان فوراً ومنع سفر السوريين إلا بإجازة عند الضرورة.
2- إقامة مراكز جمركية ومراكز مراقبة على الحدود السورية - اللبنانية.
3- منع نقل البضائع من لبنان إلى سورية باستثناء البضائع العابرة ترانزيت.
4- تطبيق أنظمة القطع على العمليات التجارية بين سورية ولبنان وعدم السماح للأشخاص المسافرين إلى لبنان أو القادمين منه أن يخرجوا أو يدخلوا أكثر من خمسين ليرة سورية من النقد السوري.
أحدث الانفصال الجمركي هزة كبيرة في الأسواق اللبنانية، فارتفعت أسعار المواد الغذائية والزراعية التي تستورد عادة من سورية، وارتفعت قيمة النقد السوري بنسبة كبيرة، وفقد النقد اللبناني نسبة 20 في المئة من قوته الشرائية، وكان النقد السوري بعد تحرير سورية من القوات الفرنسية عام 1946 تعرض إلى موجة تدن عن النقد اللبناني بسبب نفقات السوريين في لبنان.
القوتلي ينتقد قرار الانفصال الجمركي
امام هذا التطور عمدت الصحافتان السورية واللبنانية الى شن حملات تسيء إلى العلاقات بين البلدين، فالصحافة السورية ايدت قرار العظم، مثلما أيدت الصحافة اللبنانية موقف الصلح من القطيعة.
وأمام انقسام الآراء سافرتُ إلى الإسكندرية حيث كان يقيم الرئيس شكري القوتلي بعدما قدم استقالته من رئاسة الجمهورية لأقف على رأيه في الانفصال الجمركي مع لبنان، وسألته عن رأيه في قرار الانفصال الذي اتخذه الرئيس العظم فقال:"إن قرار الحكومة السورية خطأ كبير، ولبنان بلد عزيز على قلوبنا، ووقف جنباً إلى جنب مع سورية أمام محنة الانتداب الفرنسي على أراضي البلدين ...".
وأمام الحملات الصحافية المتبادلة بين سورية ولبنان وصل إلى دمشق الرئيس عبد الله اليافي في 22 آذار1950 يرافقه رجل الأعمال اللبناني إميل البستاني المعروف بصداقاته مع صحافة البلدين في محاولة لوقف الحملات الإعلامية وتنقية الأجواء الأخوية وللتمهيد للقاء يجمع الرئيسين الصلح والعظم في بيروت بحسب اقتراح الصلح.
وأقام البستاني مأدبة غداء في متنزه دمر القريب من دمشق حضره أصحاب الصحف السورية واللبنانية وتبادل معهم الحديث لتكون مهمة الصحافة في البلدين بعيدة من الخلافات والعمل على رأب الصدع. وعبّر الجميع عن الأمل في زوال الجفاء الذي خيم على العلاقات، وان تعود إلى ما كانت عليه على أسس جديدة.
ووقّع أصحاب الصحف برقية مشتركة أُرسلت إلى المقامات المسؤولة في بيروت ودمشق هذا نصها:"الصحافيون اللبنانيون والسوريون المجتمعون اليوم في دمشق يباركون الاجتماع المقرر عقده بين الحكومتين، ويرجون أن يسفر عن تحقيق رغبات الشعبين لاستئناف العلاقات الاقتصادية على ضوء مصلحة البلدين". وفعلاً توجه الرئيس العظم إلى بيروت في 23 آذار قبل أن يتوجه مع الصلح إلى القاهرة للمشاركة في اجتماع مجلس الجامعة العربية، وتم اللقاء من دون الوصول إلى نتيجة مرضية بعدما تمسك كل منهما بوجهة نظره.
الأمير فيصل يتدخل
شارك العظم والصلح في اجتماعات مجلس جامعة الدول العربية في القاهرة على مستوى رؤساء الوزارات في 23 آذار 1950. وكانت وزارة الخارجية السورية أصدرت في"كتاب أخضر"الوثائق والاتفاقات والمذكرات المتبادلة، وبدورها أصدرت وزارة الخارجية اللبنانية"كتاباً أبيض"تضمن الوثائق والمذكرات، ووزع الصلح والعظم مئات من النسخ في القاهرة على رؤساء الوفود العربية والصحافيين للاطلاع على تفاصيل الأزمة وأسبابها مع تفاعلاتها.
سيطرت الخلافات على أجواء اجتماعات القاهرة وحملت الصحافة المصرية بشدة على الموقفين السوري واللبناني، لكن الحملة كانت شديدة على الرئيس العظم في شكل خاص.
وكعادته في اختيار الديبلوماسية الشفافة التي تنتهجها قيادات السعودية عند وقوع أي خلاف عربي، هدفها جمع الشمل بين الأمة العربية من خلال الثوابت السياسية التي وضعها الملك عبدالعزيز الذي كان يتابع مضاعفات الخلاف، عبّر الأمير فيصل بن عبدالعزيز وزير الخارجية الذي كان يمثل السعودية في اجتماعات الجامعة العربية، عن الرغبة في ان تلعب الديبلوماسية السعودية دوراً إيجابياً لإزالة سوء التفاهم بين البلدين، باعتبار أن الاتهامات المتبادلة أساءت الى القضايا العربية التي جاءت وفود الدول العربية للتشاور والبحث فيها.
وكلف الأمير فيصل بن عبدالعزيز الشيخ يوسف ياسين عضو الوفد السعودي دعوة الصلح والعظم للاجتماع في دارة فيصل في القاهرة لتناول الشاي، وشارك في هذا اللقاء الثلاثي الوزير اللبناني حبيب أبوشهلا. وبدأ الأمير فيصل بالحديث عن ضرورة توحيد الجهود العربية أمام القضايا المصيرية، وأكد أن الملك عبدالعزيز يحمل كل محبة وأخوة صادقة لكل من سورية ولبنان الشقيقين منذ القدم، ويتمنى ألا يحصل بينهما أي انفصال سياسي أو اقتصادي أو مالي وما يكدر صفو العلاقات الطيبة.
وتناول الحديث الرئيس الصلح مشيراً إلى الوضع العربي وضرورة تآزر الدول العربية وإمكان حل الخلافات والمنازعات بين الأشقاء بالإخوة والمحبة، ولكن جواب الرئيس العظم كان قاسياً كعادته، إذ رد بعنجهية على أقوال الصلح بقوله:"لسنا في صدد العروبة ولا نحن بحاجة لتلقي الدروس والعظات في ما يجب عمله للحفاظ على قوة العرب ومستقبلهم، بل نحن في صدد علاقات مالية واقتصادية أردنا جعلها موحدة بيننا وبينكم، رفضتم وأشرتم علينا باتخاذ ما نراه لازماً لحفظ مكانة نقدنا".
وشرح العظم أمام الأمير فيصل تفاصيل الخلاف مع لبنان وأن لبنان وقف موقفاً معاكساً لمصالح سورية الاقتصادية والمالية، ورفض الوحدة الاقتصادية من الأساس،
وباعتباري كنت أتابع اجتماعات الجامعة العربية ولقاء الأمير فيصل بن عبدالعزيز مع الصلح والعظم فإنني أسجل هذه النقطة وهي: بسبب معرفة الوفود العربية الأخرى بشخصية خالد العظم وغطرسته وتمسكه بآرائه المتصلبة، لم يحاول رؤساء الوفود العربية، خصوصاً مصطفى النحاس باشا رئيس وزراء مصر وزعيم حزب الوفد، وتوفيق باشا السويدي رئيس وزراء العراق، التدخل في هذا الخلاف وفضلا الوقوف على الحياد.
وأمام هذه الأزمة قرر الشيشكلي إبعاد العظم عن رئاسة الوزارة بسبب المعلومات التي بلغته عن المشاورات التي أجريت في القاهرة في شأن الخلاف السوري- اللبناني فقدم العظم استقالته من رئاسة الوزارة، وبدأ الشيشكلي يظهر على المسرح السياسي ليمهد لنفسه تولي الحكم في سورية وأخذ يوثق علاقاته مع العالم العربي. وقام بزيارة لبنان ووصف زيارته لبيروت بأنها جاءت من حرص القيادة السورية على استمرار العلاقات الودية الأخوية بين البلدين الجارين.
عاد العظم الى رئاسة الوزارة يوم 27 آذار 1951، وبعد اغتيال الرئيس رياض الصلح في عمان في 7 تموز يوليو شكلت الوزارة اللبنانية برئاسة الحاج حسين العويني الذي حاول إيجاد حل للخلاف السوري - اللبناني من خلال صلاته الطيبة مع الرئيس العظم بهدف تغيير الوضع الحاضر بين البلدين.
وعقدت اجتماعات مشتركة في دمشق وبيروت وشتورة، فشلت في الوصول إلى اتفاق لأن العظم تمسك بوجهة نظره، وتساهل في تخفيف الإجراءات على قضايا الترانزيت الدولي إرضاء للعويني ولكن ظل الاختلاف على الأساس. فدعا العويني العظم لزيارة بيروت، وزارا الرئيس بشارة الخوري في مصيف عاليه. ومما قاله الخوري للعظم:"يجب أن يكون الاتفاق مع سورية على جميع الأمور، وإما خلاف عليها كلها من دون حل وسط للقضايا". ولكن الخلاف استمر بعد اللقاء.
وفي لقاء خاص مع الرئيس العظم قال لي:"إن الرئيس اللبناني طلب أن توافق سورية على تبادل تمثيل ديبلوماسي مع لبنان ليسهل تبادل الرأي والمذاكرة المستمرة بين دمشق وبيروت". وأضاف:"كان جوابي المبدئي على هذا الطلب أن بيروت ليست بعيدة من دمشق، كما أن الهاتف يؤمن الاتصالات بسهولة بينهما ووعدته بعرض الطلب على مجلس الوزراء".
وعند دراسة الطلب في جلسة وزارية عرض فيها الرئيس العظم ملخصاً لنتائج زيارته للرئيس الخوري رفض مجلس الوزراء اقتراح الرئيس اللبناني. واشار المجلس الى أنه مر على استقلال لبنان وسورية سبع سنوات، وليس بين لبنان وسورية تمثيل ديبلوماسي.
صبري حمادة ممنوع من دخول سورية
من الحوادث التي وقعت بسبب مضاعفات الأزمة بين سورية ولبنان هذه الحادثة التي حصلت في عهد حكومة الرئيس العظم الأخيرة التي كانت أول صدام مع الحكومة اللبنانية وكانت من طريق الصدفة، فقد وصل الرئيس صبري حمادة رئيس مجلس النواب اللبناني إلى مخفر الحدود السورية - التركية عائداً إلى لبنان فأبلغه رئيس مخفر الحدود بأنه ممنوع من دخول سورية، وعندها حاول الرئيس حمادة الاتصال بالجهات السورية الرسمية فوجد أن خط الهاتف معطل. وعندها عاد إلى المخفر التركي وهاتف منه الدكتور أسعد محاسن وزير الخارجية فاعتذر الوزير عن الحادث وأرسلت التعليمات فوراً إلى الحدود بعدم معارضة دخوله سورية.
وعند وصول الرئيس حمادة إلى بيروت عرض الأمر على مجلس النواب اللبناني، وأرسلت الخارجية اللبنانية مذكرة احتجاج إلى الخارجية السورية على ما تعرض له رئيس المجلس. وبعد مشاورات بين الدكتور محاسن والعظم أوعز الأخير برفض تسلم المذكرة وإعادتها بمظروفها إلى الموظف اللبناني الذي أحضرها من دون الاطلاع على مضمونها. واعتبرت الحكومة اللبنانية هذا الرد"إهانة"، وحملت الصحف اللبنانية على دمشق.
وسئل الرئيس العظم عن ملابسات الحادث فقال للصحافيين:"إن اسم صبري حمادة مدرج في قائمة الممنوعين من دخول سورية منذ عهد الوحدة المصرية - السورية، وعندما علمت الحكومة بالحادث أرسلت التعليمات فوراً للسماح له بعبور نقطة الحدود، والأمر لا يستوجب تبادل مذكرات رسمية بين الحكومتين".
* كاتب وصحافي عربي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.