الذهب يتجاوز 4300 دولار، متجهًا نحو أفضل أداء أسبوعي منذ 17 عامًا    رسميًا.. سالم الدوسري الأفضل في آسيا    خطيب المسجد الحرام: العبد الموفق يعيش في خير لم يسأله ونعيم لم يتوقعه    خطيب المسجد النبوي: الدعاء سلاح المؤمن وسبيل الثبات في الشدائد    ابتدائية مصعب بن عمير تعقد لقاءً توعويًا مع أولياء الأمور حول اختبارات "نافس" والاختبارات المركزية    النفط يتجه لتسجيل خسارة أسبوعية    في أجواء أسرية بهيجة.. عقد قران المهندس خالد القحطاني    سخاء المدني أول سعودية متخصصة في طب الفضاء والطيران    اختيار السغودية رئيسة للذكاء الاصطناعي عالميا    سباق الذكاء الاصطناعي تنافس بلا خط نهاية يهدد التوازن العالمي    هل استقام ظل لسلام الشرق الأوسط    د. عبدالحق عزوزي يترجم القرآن إلى اللغة الفرنسية    انطلاق أضخم الفعاليات الدولية في صناعة الضيافة بمشاركة رواد القطاع بالمملكة    السواحه يناقش تعزيز الشراكة في تقنيات أشباه الموصلات والذكاء الاصطناعي    النهائي يتجدد بين ألكاراز وسينر في "Six Kings Slam الرياض 2025"    وزيرة الخارجية الفلسطينية تؤكد أهمية اتفاق شرم الشيخ    الاتحاد السعودي لكرة القدم أفضل اتحاد وطني في آسيا    ترامب: سألتقي «على الأرجح» ببوتين خلال أسبوعين    موجة قصف إسرائيلية واسعة على جنوب لبنان    الهلال بطلاً لكأس الاتحاد السعودي للكرة الطائرة    الأسهم الاستثمارية تغري الآباء للاستثمار لأبنائهم    «سلمان للإغاثة» يوزّع (560) حقيبة إيوائية للنازحين من محافظة السويداء إلى محافظة درعا    القبض على (3) إثيوبيين في جازان لتهريبهم (54) كجم "قات"    الأمير عبدالعزيز الفيصل يترأس اجتماع مجلس أمناء مؤسسة الحلم الآسيوي بالرياض    مجمع الملك سلمان يكرّم 12 فائزًا من 10 دول في مسابقة حَرْف    آل الشيخ ل"الوطن": المملكة تسعى لنشر الإسلام الوسطي المعتدل في شتى أنحاء العالم    تونس تواجه البرازيل وديا الشهر المقبل    أمير منطقة جازان يطمئن على صحة الشيخ العامري    جمعية ريف تحتفي باليوم العالمي للمرأة الريفية وتؤكد دورها في التنمية المستدامة    الكلية التقنية التطبيقية بالرياض تستضيف الحدث الكشفي العالمي "JOTA-JOTI 2025"    زينهو مع الرائد.. تجربة جديدة في دوري يلو    14 عالماً من جامعة الفيصل ضمن قائمة ستانفورد لأفضل 2% من علماء العالم    بلاي سينما تطلق أول سينما اقتصادية سعودية بجودة عالية    جمعية الثقافة والفنون بجدة تكرم الفوتوغرافية ريم الفيصل    إنقاذ حياة مريضة بتركيب صمام رئوي عبر القسطرة بدون جراحة    أمير القصيم يرعى حفل تخريج 167 حافظًا لكتاب الله    وزارة الداخلية تطلق ختمًا خاصًا احتفاءً بعام الحرف اليدوية 2025    الأمير محمد بن عبدالعزيز يرعى لقاء وزير التعليم بأهالي منطقة جازان    مائة معلم سعودي يشرعون في دراستهم بالصين لاستكمال برنامج ماجستير تعليم اللغة الصينية    وزير ا الصحة السعودي و المصري يبحثان تعزيز التعاون الصحي المشترك وتوطين الصناعات الدوائية    نيابةً عن محافظ الطائف.. "البقمي" يفتتح المؤتمر الدولي السابع لجراحة الأطفال    رئيس "أرامكو" : أزمة نفط عالمية وشيكة بسبب نقص الاستثمار    نيابة عن سمو محافظ الطائف وكيل المحافظة يطلق المؤتمر الدولي السابع لجراحة الأطفال    رئيس أمن الدولة يهنئ القيادة بمناسبة تأهل المنتخب لكأس العالم 2026    لضمان تنفيذ وقف النار.. استعدادات لنشر قوة دولية في غزة    الأخضر.. تأهل مستحق لكأس العالم    المرور السعودي: 6 اشتراطات لسير الشاحنات على الطرق    760 مدرسة تحصد مستوى التميز وتعيد صياغة الجودة    وزارة الشؤون الإسلامية تفتتح المسابقة الدولية الثانية لتلاوة القرآن الكريم وحفظه في كازاخستان بمشاركة 21 دولة    بوتين للشرع: حريصون على استقرار سوريا.. تعاون ومشاريع شراكة بين موسكو ودمشق    الفيلم السعودي «هجرة» يعبر إلى الأوسكار    موسم الرياض يطرح تذاكر «النداء الأخير»    أنف اسكتلندي.. حبة بطاطا    البرد يرفع مستويات السكرفي الدم    العمري يبحث احتياجات أهالي صامطة    أمير مكة: مشروع بوابة الملك سلمان يعكس اهتمام القيادة بالتنمية في المنطقة    أمير تبوك يرفع التهنئة للقيادة بمناسبة تأهل المنتخب لكأس العالم 2026    إطلاق كائنات فطرية في محمية الوعول    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"ذاكرة العناصر" ديوان مختلف . نزيه أبو عفش يستحضر العالم في ذروة صفائه
نشر في الحياة يوم 10 - 02 - 2005

يتخطّى الصوت الشعري في ديوان"ذاكرة العناصر"للشاعر السوري نزيه أبو عفش الصادر عن دار المدى 2005 دائرة الأنا الفردية ليعانق"أنا"جمعية أوسع، تتقاطع فيها أزمنة كثيرة، تعزز تواصل الدلالة العاطفية بين العناصر، على خلفية إيمان خفي بوحدة الوجود، وافتراض حضور ذات عليا، متسامية، تبث بهاءها في موجودات الكون من حجر وطير ونبات. هذا التواصل يتجلّى في شكل بؤر أسطورية خفية تؤسس لماهية النص، تربطه بلحظة ماضية، موغلة في القدم، حتى لتكاد تفقدُ هويتها الزمنية، وتتحول نمطاً مجازياً مشحوناً بالدلالات. هذا النمط، إذا صحّ التعبير، يمثّل الموضوع المفصلي في النقد الأسطوري، الذي يقترحه الناقد نورثروب فراي، في تشريحه النصوص وفقاً لأنساق ميثولوجية متكررة، تغفل فيوض الذات"الفردية"، وتركّزُ على الأنماط الأسطورية"الجمعية"التي تحكم بنية النص، في علاقة تناسخٍ واستنساخ لاستعارات ورموز تنتقل من عصر إلى عصر، تحوّلُ النص بؤرة غنية تتفاعل فيها أصداء سحيقة. هذا ما نراه أيضاً لدى عالم الأنثربولوجيا الشهير كلود ليفي شتراوس في دراسته النسق الأسطوري المتأصّل في وعي البشر، المحكوم بثنائية الخير والشر، وما يتفرع عنه من أضداد، عبر تحليله البنيوي للمجتمعات البدائية.
يغوص نزيه أبو عفش في مياه بدائية عميقة، سحرية، ولا معقولة، مستنطقاً ذاكرة الأشياء، قبل تراجيديا السقوط، ومصغياً لدقّات قلب الحجر، كما في قصيدة"إعادة تكوين"حيث يقدم لوحةً بالكلمات للوجود قبل الخطيئة، متخيلاً العالم في ذروة صفائه، قبل سقوط آدم وحواء من برجهما السماوي. ويكشف الشاعر عن رغبة رومانسية متأصلة بأمثَلَة الكون وإعادة الاعتبار لجماله الحسّي، الذي يولد من عناصر ملموسة ومرئية، مشمومة ومسموعة، لها غالباً طعم الجمال الخالد. هذا الجمال يولد من تناقض العناصر وتكاملها، ومن تناغم الأضداد واختلافها، بعيداً من ضبابية المفاهيم المجردة، في اقتراب لطيف من حقيقة المرئي وتواضعه الجمالي:"من الأعشاب لا سواها/ من روث الدابة لا سواه/ من أناقة الشجرة وحنان الغيم ورنين الشعاع على صخرة الزمن/ من التماعة الحصى في سرير النهر/ من لهاث النملة البطلة/ تؤسس دولتها تحت لحاء شجرة البلوط/ من لعاب الطائر الحكيم/ يذرفه مجبولاً بالأغاني، ويعمّر به بيت الأبدية/ من ضحك الثعالب وحماقة الديكة وفطنة السعادين، من كسل السلحفاة ورضى الدودة، وشقاوة التيس …"ص 206. وما الأعشاب والشجر والغيم والحصى والنمل والسلاحف والدود، وسواها الا"عناصر"في الكون، لكلّ ذاكرته البدئية، تتناغم مع ذاكرة كلّية عليا، تشكّل في النهاية جوهر الوعي الإنساني. هذا الانحياز إلى العالم الحسي يفسّر الاقتباس الذي يورده الشاعر في مستهل كتابه لجان كوكتو، إذ يعلن ولاءه العاطفي، عاشقاً ومعشوقاً، لعالم الطبيعة:"أريد أن أُحِبّ كحيوان/ وأن أُحَبّ كشجرة". ونظرة عجلى على عناوين القصائد:"براءة الحيوان"،"حماقة الطير"،"حبة قمح"،"سورة الجندب"،"عري الدابة"... ترينا شغف الشاعر بمخلوقات الطبيعة، ونزوله إلى العالم السرابي للأرض، بصفته نصاً مقدساً تؤلف حروفَه غيومٌ تسبح، وأنهارٌ تجري، وصخورٌ تلمعُ في عريها. هذا الاحتفال بأشياء الطبيعة، يكشف أيضاً عن هاجس قوي برفض الحضارة الحديثة وشرورها، واعتبار الإنسان خاطئاً كبيراً يحفر قبره بيديه.
لكنّ أبو عفش ليس بالشاعر الرومانسي التقليدي، وما إحالاته الكثيرة إلى عالم الطبيعة سوى محاولة للتمرد على ماضيه الشعري، الذي كانت تثقله المقولة السياسية، وتسدّ أفقه أوهام الأيديولوجية، فنراه هنا يستبدلُ التقريرية بشفوية دافئة، تعتمد البساطة اللغوية، والسطر الشعري المفتوح على التلقائية، عبر إبراز التناقض، وسبر أغوار الذاكرة المنسية للعناصر، حيث السرد الشعري المتكئ على نثرات حكائية، ذات بنى أسطورية أو سحرية، كما في قصيدة"الغيمة التي كانت البيت"التي تستحضر عالماً رعوياً صافياً، يقوم على استثمار طاقة الأخيولة، ورسم مناخات مدهشة، غير مألوفة. وهذا يضفي نبرة ملحمية على قصائد الشاعر، حيث العودة إلى الينابيع الأولى للتكوين، وإيقاظ الموسيقى الدفينة لذاكرة الأشياء.
هذا النزوع إلى استنطاق الذاكرة الجمعية، يستلزم اعتماد النثر السهل، الرشيق، المتكئ على الدفق السردي. وكأن ذلك يعيدنا إلى جذر كلمة muthos اليونانية، التي تعني حرفياً"الخرافة"أو"أي شيء ينطقُهُ اللسانُ عبر الكلمة"، في إشارة إلى عنصر القص الشفوي الكامن في بنية الخرافة ذاتها، حيث رغبة الراوي في سرد الحكاية، وأسطرة المألوف، والقفز فوق ما هو واقعي. والشاعر الأقرب إلى صناعة هذه الميثولوجيا هو الإنكليزي ويليام بليك، أحد أهم الملهمين لجبران خليل جبران، في شعره ورسومه. وأعتقد أن لمحات من كتاب"النبي"لجبران تتسلّل بين الفينة والأخرى، إلى قصائد نزيه أبو عفش، كما نلمح إشارات خاطفة، على مستوى الرؤيا، تأتي من نصّ"الأمير الصغير"لسانت أكزوبري، حيث استحضار البراءة القصية، واعتبارها معادلاً نقيضاً للعنف الذي يسم الثقافة المدنية الحديثة. هذا الصدى الجبراني نلحظه أيضاً في طريقة إدارة الجملة الشعرية، والميل إلى التكثيف، المشحون بطاقة دلالية ومعرفية، وفي ابتكار مجازٍ"أخلاقي"يعزز قيم التمرّد على السائد واليقيني:"الخطيئة أصوب من الحق/ والألمُ أطهرُ من الفضائل/ والجمال أخلدُ من العقل"ص 164. وثمة ميلٌ جبراني أيضاً إلى توظيف"الحكمة"، وإلباسها رداء الاستعارة، كما في قوله:"حين/ إذا اغتيلت شجرةٌ تجهشُ الغابات كلّها،/ أو طفلٌ/ تألّمَت الناسُ كلّها"ص 17. وأعتقد بأن نزيه أبو عفش لا ينجو البتة من هذا الخيط الرؤيوي، الممتد من أفلاطون إلى جبران خليل جبران، مروراً بويليام بليك وسانت أكزوبري، حيث هؤلاء جميعاً يرون العالم بيتاً للخطيئة:"هذه الأرض المثقلةُ بميراثها المخيف/ من الدم/ والغصّات/ وصليل العقائد،/ وحديد المحاربين،..."ص 165 كأنما، أيضاً، في استعادة لموقف المعري الشهير من أرض تنتظر الطوفان،"لعلّها من درَنٍ تغسَلُ."لكنّ ما ينسينا ثقل المفهوم أو لنقل معيارية اللغة الأخلاقية، أو الرؤيوية، هو محاولة الشاعر التخفّف حقاً من الفخامة البلاغية والاتجاه صوب تقشّف تشكيلي أو تعبيري يشبه كثيراً رسومه بالأبيض والأسود، التي تميّز أسلوبه كرسّام، وهذا ما تظهره لوحة الغلاف ذات الألوان الخجولة، والخافتة.
وفي الديوان، المقسوم إلى جءين، ديوانٌ فرعي تحت عنوان"شهوة نوح"يكمل الجزء الأول، دلالياً وأسلوبياً، من خلال انشغاله بصورة العالم قبل السقوط وبعده، واستخدام قارب نوح كرمزٍ للخلاص، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من ذاكرة الأرض، كأنما لتأكيد النسق الأسطوري في رؤيا الشاعر، وإعادة إحياء الميثولوجيا، عبر السرد المتكئ الى ذاكرة وحلم في آن واحد. وهذا يتأتى عبر توظيف النظرة"الوثنية"، بالمعنى الشعري، الخالية من شوائب المعيارية الإيمانية، حيث يقترح الشاعر الرأفةَ بديلاً من القسوة، والعطف بديلاً من الشفقة، والتسامح بديلاً من الانتقام، في تصور إنجيلي شفاف للعدالة الكونية، قبل اختراع اللغة، وقبل ابتكار المنظومات الفكرية والأخلاقية، كما توحي بقوة قصيدة"ما قبل الأسبرين"حين كان الألمُ، كالحياة ذاتها، حقيقياً، نيئاً، فجاً، محسوساً:"فكّر: /ما قبل الأسبرين... / أيامَ كان الناسُ يحلمون الحياةَ بأسنانهم/ ويداوون آلامَ الموتِ بصرخات قلوب اليائسين"ص 12. هذه النظرة تفترض العالم الأرضي تقليداً ناقصاً للمثال الأول، وتزييفاً شبحياً للنسخة الأثيرية الأصلية، من هنا الرغبة بالهروب إلى الوراء، والتحرر من كل ذاكرة معرفية وفلسفية، نسجاً على منوال ابن عربي، وعلى منوال أهل الحلول ممن يؤمنون بوحدة الوجود، واعتبار كل"عنصرٍ"في الطبيعة بمثابة رمز يخفي سراً إلهياً أعلى:"وما الخطيئة لو قلتُ:/ تروقُ لي سكنى الريح... / مثل حُبيبة طلعٍ سكرانة/ تسبحُ في هواء كوكبٍ سكرانٍ/ تحتها سماءٌ وفوقها سماءٌ/ وفي أحلامِها/ تلمعُ الثمارُ/..."ص 28
وعلى رغم أن أفلاطون طرد الشعر الغنائي من جمهوريته، واكتفى بالقصيدة الأخلاقية التي تعزز السير باتجاه الحقيقة، إلاّ أنّه يتقاطع مع الرؤية الشعرية بإطلاق، من حيث اعتباره العالم المرئي حلماً عابراً. والمفارقة أن هذا العالم الحلمي غير قابل للتغير إلا عبر الحلم الشعري ذاته، أو لذة الجملة الشعرية، وهذا ما يشير إليه أبو عفش بوضوح في قصيدة"أبناء أنفسهم"حين يخاطب الشعراء الذين يغيرون العالم بالكلمات، ويملّحون يأسهم بالدمع، ويعيدون حياكة الحياة بالحلم:"يحلمون الحياة بألسنتهم …/ يحلمون؟ / يحلمون أنهم يحلمون."ص 156
يعيد نزيه أبو عفش الاعتبار، إذاً، إلى قوة الحلم في تغيير الواقع، من خلال استنطاق الذاكرة"الجمعية"لعناصر الطبيعة، وإعادة تشكيل الصورة"الخرافية"للعالم، مغسولاً من كل خطيئة، عبر نثر شعري متماسك، يستفيد من تقنيات السّرد وآلياته، ويبتعد من"تقريرية"جيل شعري بأكمله، وتحديداً جيل السبعينات في سورية، الذي أنهكه الالتزام الأيديولوجي الضيق. ولعلّ الإضافة الأهم تكمن في ابتعاد نزيه أبو عفش عن قاموسه الشعري نفسه، عبر اشتغاله على قصيدة أكثر حسّيةً، وأكثر شفويةً، بل وأكثر تفاؤلاً، متخطياً آلام الذات الفردية، وحلكة كآبة مستديمة لطالما ميّزت أعماله السابقة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.