كان تنصيب جورج بوش لولاية ثانية أشبه بتطويب قديسٍ أودعه الله تكليفاً رسالياً بنشر"الحرية"في العالم. في خطاب"التطويب"الذي قيل إن الخبراء أعادوا صوغه عشرين مرةً على الأقل، ترد كلمة الحرية 49 مرةً في شريطٍ زمنيٍ يتألف من إحدى وعشرين دقيقة هي المدة التي استغرقها خطاب التطويب، وترتفع كلمة الحرية إلى مصاف الأسطورة الإيديولوجية المشعة التي لا يمكن التعبير عنها إلا بواسطة البلاغة ونبرة ارتجالها وانخطافها الداخلي وسحرها وثمالتها ورؤيويتها، ونقلها معرفةً داخليةً مباشرةً أي حدسيةً من القلب إلى القلب. وتحتل قدسية الحرية هنا في شكلٍ معكوسٍ القوة الاستعارية الشاحنة والموحية لقدسية لفظة"الجهاد"في خطاب اسامة بن لادن، ويتم استبدال"يوم النار"الذي قام به بن لادن بمسيرة إشعال أميركا ل"يوم نار"الحرية في العالم، وكأن"الحرية هي الحل"ليست سوى انزياحٍ انتقالي Deplacement ل"الجهاد هو الحل"في أيديولوجية بن لادن. في طقسية التطويب تداخل النشيد الوطني الأميركي مع الصلاة. ليس البعد الديني في خطاب التطويب وطقسه جديداً في تاريخ القسم الأميركي، ولكن الجديد هنا أن خطاب بوش لا ينهض أساساً إلا بواسطة ذلك البعد الذي يمثل نواته المهيمنة المولدة لدلالات كلمة الحرية المشعة الثملة بمعانٍ فسيحةٍ غير قابلةٍ للمس بل للتواصل الجواني الذي تنقله المعرفة"القلبية"المباشرة. لقد دعا ريغان في خطاب تتويجه في 20 كانون الثاني يناير 1980 إلى أنه سيكون "مناسباً أن يعلن يوم تنصيب الرئيس إلى يوم صلاة"، ولكن بوش الثاني جعل الصلاة جزءاً عضوياً من طقسية التنصيب. بنات بوش وزوجته حملن إنجيل العائلة، القس لويس لبون صلى، وصلى الجميع سواء كانوا مؤمنين في قرارة أعماقهم أم غير مؤمنين بكل خشوعٍ كما في أي طقسٍ تتجلى فيه ظهورات الجليل والأسمى في الكون. إن كل الرؤساء الأميركيين يلحون على الجمع بين الحرية والله كقيمةٍ أميركيةٍ عليا موحّدةٍ. ولكن الجديد في تطويب بوش هو طريقته في إدماج البعد الديني في خطاب التطويب، والتي تختلف جذرياً عن طريقة الرؤساء السابقين له. وتكمن هذه الطريقة الجديدة في التعامل مع المحايثة بين بعديْ الله/ الحرية، في دمجه بين قضية ارتباط الأمن الداخلي الأميركي بتحقيق الحرية في العالم بكوكتيلٍ من النكهات"المشعة". مثالية ألح عليها الرئيس باسمها ودعا من لم يشاهدها إلى مشاهدتها، وهو يريد القول في المستوى الشعري للدلالة دعوتهم لمشاهدتها في دبيبها على الأرض في ما سماه بحصول"عشرات الملايين على حريتهم، والمزيد من الملايين سيجدون الحرية"الذين تحذف هيبة الطقس وجلاليته لديهم صور أبي غريب ودمار الفلوجة وأطفال فلسطين. تستعير البنية العميقة في بلاغة الخطاب التطويبي ثلاث سردياتٍٍ كبرى. الأولى: المثالية التبشيرية الولسونية بالحرية، في إشارةٍ تعني ترجمتها إذا ماكانت هذه الترجمة ممكنةً أن الولاياتالمتحدة تسير في فضاء المدرسة المثالية في علاقاتها الخارجية وليس في ضوء المدرسة الواقعية، والثانية: تاريخوية مسيحانية مبسطة تستمد نسغها من تجذر مفهوم أميركا البيوريتاني عن نفسها بوصفها"أرضاً موعودةً"تعيش في"حمى الله"، ولا يكمن جديد لغة بوش واستعاراته هنا في تأكيده أن"بلادنا تحمل صورة خالق السموات والأرض"بقدر ما تكمن في تاريخويته الإنجيلية المبسطة التي تقوم على أن"الخيار الإنساني يحرك الأحداث ليس لأننا نعتبر أنفسنا أمةً مختارةً". ويتطابق هنا الخيار الإنساني في الحرية مع إرادة الله وتحريكه لأحداثها، وربما تترتب نبرة هيغلانية في تاريخوية بوش من خلال إدماجه مفهوم الواجب في أداء التاريخ لرسالته الغائية والذي يختلط هنا مع مفهوم التكليف البروتستانتي. أما الثالثة فتمتح من تروتستكانيةٍ مدهونةٍ ب"ميرونةٍ"مقدسة. تحويل يوم نار بن لادن إلى يوم نار للحرية يختلط هنا مع مفهوم"التدمير الخلاق"في العهد القديم وفي التروتستكانية والتاريخانية عموماً، ويستخدم بوش هنا الصورة الاستعارية التوراتية المحرقة الماحقة والمحيية للنار. وتكمن هذه التروتستكانية في أطياف الثورة المستمرة التي تحقق غاية الله - التاريخ - الأمة المصطفاة أميركا في عالم البشر. الحرية هنا غاية ومطرقة دائمة، لا تضمن فيها أميركا حريتها إلا بحرية العالم. الأمة المصطفاة هي الحامل التاريخاني لرسالة الله وتكليفه، التي تتماهى مع رسالة أميركا إلى العالم. وهذا لايتم في ظاهر الخطاب من خلال القوة العسكرية الاستباقية التي تستند إلى أخلاقية القوة و"الحرب العادلة""النبيلة"في منع"الطغاة"من العيش"بحرية"بقدر ما يتم من خلال التبشير ومساعدة الضعفاء والمضطهدين وضحايا الطغيان. فللمبشر هنا وظيفتان هما وظيفة الوعد ببشارة الحرية ووعيد الطغاة بنهايتهم. تستحيل الحرية إلى أسطورةٍ إيديولوجيةٍ تقول كل شيء أي أنها لا تقول شيئاً، من هنا يمكن تفسير محدودية حضور الجمل المرجعية الإحالية إلا حضوراً هامشياً وعابراً يضع قضايا التقاعد مثلاً في إطار قضية تاريخانيةٍ أشمل هي قضية الحرية ورسالة المبشر بها وعداً ووعيداً. صورة حركة التاريخ هي صورة الاستجابة ل"النداء و"الوعد"الذي يعتقد بوش الثاني أنه مكلف رسولياً بها، وهناك في أميركا عش الأصوليات والدينيات من يعتقد أن بوش ليس إلا قديساً ملهماً. يدرج بوش الثاني هنا وعده بتلبية نداء الحرية - نداء الله - نداء الأمة المصطفاة في سلالةٍ أشمل من الوعود والمواعظ تستوعب كل الأديان. إنها"ما أنزل في سيناء وموعظة الجبل وموعظة القرآن"وكل"ديانات شعبنا"، ويغدو بوش أشبه بقديسٍ يطوبه البشر في حضرة الخضوع والخشوع أي في حضرة الصلاة والتضرع إلى الجليل. تعمل بلاغة المبشر الرمزانية الرؤيوية في خطاب بوش، ومن هنا فإن عالمها هو عالم الصورة الاستعارية غير المحدودة وغير القابلة للتعيين وليس عالم الصورة الأيقونية التي تليق بمنهج المدرسة الواقعية. ويتكلم المبشر هنا، وكأن عمله ليس سوى تجسيدٍ لغاية الله في الحرية. حين تجري محاولة ترجمة هذا الخطاب إلى خطواتٍ عملانيةٍ يسقط منه ثلاثة أرباعه تقريباً، ولا يبقى منه سوى بلاغة امبراطورية أو امبريالية عليا يمثل فيها القديس المبشر أداة الكرسي الإلهي في السيادة الكونية، يحمل الكلمة في يده اليمنى والصاروخ في يده اليسرى، وكأن بوش الثاني لم يتعظ إلا ظاهراً بجملة روبسبيير اليعقوبي في العهد الراديكالي للثورة الفرنسية أو"عهد الإرهاب"بأن البشر"ليسوا مغرمين بحب المبّشرين المسلحين". * كاتب سوري.